مع استمرار تدهور الوضع الإنساني في لبنان جراء العدوان الإسرائيلي وتهجير أكثر من مليون مواطن من منازلهم في الجنوب، تتزايد الحاجة إلى تقديم مساعدات عاجلة من أجل منع وقوع كارثة إنسانية، وفي هذا الإطار سارعت السعودية بإعلان تقديم مساعدات طبية وإغاثية للشعب اللبناني لـ”مساندته في مواجهة هذه الظروف الحرجة”.
ووفقا لوكالة الأنباء السعودية (واس)، أكدت الرياض أنها “تتابع بقلق بالغ تطورات الأحداث الأمنية الجارية في الأراضي اللبنانية”، وجددت تحذيرها “من خطورة اتساع رقعة العنف في المنطقة، والانعكاسات الخطيرة للتصعيد على أمن المنطقة واستقرارها”.
وحثت السعودية كافة الأطراف على “التحلي بأقصى درجات ضبط النفس والنأي بالمنطقة وشعوبها عن أخطار الحروب، وتدعو المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة والفاعلة للاضطلاع بأدوارهم ومسؤولياتهم لإنهاء الصراعات في المنطقة”، وأكدت على أهمية “الحفاظ على استقرار لبنان واحترام سيادته بما يتوافق مع القانون الدولي”.
وبدورها أعلنت وزارة الخارجية، أن حكومة المملكة تتابع بقلق بالغ تطورات الأحداث الجارية في لبنان، وتؤكد على ضرورة المحافظة على سيادة لبنان وسلامته الإقليمية.
وفي 2 من أكتوبر/ تشرين الأول، استقبل وزير الخارجية الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله؛ في مقر الوزارة بالرياض، مبعوث الرئيس الفرنسي الخاص إلى لبنان، جان إيف لودريان، وتمت مناقشة التطورات الراهنة على الساحة اللبنانية، والجهود المبذولة بشأنها.
هذه التحركات السعودية المكثفة تأتي بعد مقتل الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله وكل قادة الحزب خلال الهجمات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية، في عمليات استهداف متتالية بدأت بفؤاد شكر وانتهت بنصر الله وعلي كركي في استهداف مبنى قيادة الحزب.
بدوره يقول الكاتب والباحث السياسي اللبناني الدكتور عاصم عبد الرحمن، لـ”مواطن”: “إنه من الواضح أن العقلانية السعودية تسابق أي تعاطٍ سعودي مع ملفات المنطقة وأحداثها الكبرى، وهو ما تُرجم فعليًا لحظة الإعلان عن اغتيال السيد حسن نصر الله وما خلفه العدوان الصهيوني على لبنان من تداعيات اجتماعية واقتصادية؛ فسارعت قيادة المملكة إلى الوقوف أبويًا مع الشعب اللبناني على السواء عبر الدعم الإغاثي المتعدد، لتقول الرياض للبنان والمنطقة والعالم إن اللبنانيين ليسوا وحدهم”.
ويتفق معه المحلل السياسي هاني الجمل، بالقول: “إنه يحسب للمملكة العربية السعودية سرعة دعمها للبنان، والمضي قدمًا في تقديم مساعدات إنسانية عاجلة قد تمتد إلى دعم دبلوماسي وسياسي؛ خاصة أن لبنان الآن يمر بلحظة تاريخية فارقة”. كما قال الباحث السعودي مهنا اللحياني: “إنه ليس غريبًا أن تقدم المملكة مساعدات لدولة عربية؛ فأيادي السعودية بيضاء على الجميع دون منة؛ فهي دائمًا ما تسارع لمساعدة المتضررين والمنكوبين بشكل سريع عبر مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية”.
الوجود السعودي في لبنان
على مدى أكثر من 80 عامًا من العلاقات العميقة بين المملكة العربية السعودية ولبنان، كانت المملكة تلعب دورًا محوريًا في دعم لبنان خلال مختلف المراحل المفصلية التي مر بها؛ فقد برزت المملكة بقوة في نهاية الستينيات واستمرت في دعم لبنان حتى ما بعد انتهاء الحرب الأهلية، وهي الفترة التي أطلق عليها “مرحلة إعادة الإعمار”؛ حيث ساهمت بشكل كبير في إعادة بناء ما دمرته الحرب.
كانت المحطة الأساسية في هذا السياق هي اتفاق الطائف عام 1989، والذي وُلد نتيجة جهود المملكة في جمع الأطراف اللبنانية؛ ففي الفترة من 30 من سبتمبر إلى 22 من أكتوبر 1989، استطاعت السعودية أن تجمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف؛ حيث قادت جهود التوصل إلى الاتفاق التاريخي الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية. ويمثل هذا الاتفاق نتيجة لتوافق سعودي سوري حول مستقبل لبنان؛ ما مهّد الطريق أمام تعيين رفيق الحريري رئيسًا للوزراء، وهو الذي كان يُعد من أبرز الشخصيات السياسية المقربة من المملكة؛ بل وكان يُنظر إليه على أنه يحمل هوية سعودية بقدر ما كان لبنانيًا.
شهدت العلاقات السعودية اللبنانية توترًا وتراجعًا في السنوات الأخيرة بسبب تدخلات أطراف إقليمية في الشأن اللبناني، مما أدى إلى تقليص الدعم السعودي لبيروت
خلال الفترة الممتدة بين عامي 1989 و2005، تعاظم تأثير المملكة في لبنان على الصعيدين السياسي والاقتصادي؛ فقد كانت السعودية أكبر داعم للبنان في عملية مسح آثار الحرب الأهلية وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، لا سيما في عهد حكومات رفيق الحريري. وقدمت المملكة مساعدات مالية كبيرة، بما في ذلك إيداعات مالية لدعم خزينة الدولة اللبنانية، كما دعمت المملكة لبنان في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وساهمت في تغطية أعباء الديون المتزايدة. إضافة إلى ذلك، عملت على استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار عبر البنك المركزي، مما ساعد في تعزيز الاقتصاد اللبناني خلال تلك الفترة الصعبة.
بدوره يقول الباحث السعودي مهنا اللحياني: “إنه منذ أكثر من 60 عامًا وهي تقدم المساعدات وتساهم في الإعمار في لبنان، وفي عام 1989 رعت السعودية اتفاقية الطائف التي أنهت الحرب الأهلية في البلاد التي استمرت 15 عامًا، وخلال الفترة بين عامي 1990 و2015 قدمت السعودية مساعدات مالية ومنحًا وغيرها، حتى وصل إجمالي المساعدات خلال فترة 25 عامًا أكثر من 70 مليار دولار، وهو أمر موثق”.
وأضاف اللحياني، أن السعودية دعمت لبنان في جميع مواقفه، وساعدت الجميع من أجل التعمير والتنمية، وكان الهدف أن تصير لبنان سويسرا الشرق الأوسط، ولكن بعض الدول الإقليمية التي لها أذرع محلية أدت إلى انحراف هذا المسار بداية من عام 2006 حتى الآن.
العودة للساحة اللبنانية
حاول رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، منذ توليه، العمل على إعادة ترتيب العلاقة مع السعودية التي اهتزت في السنوات الماضية من خلال إعطاء الضمانات الكافية لكي تستعيد العلاقات اللبنانية الخليجية رونقها، وعودة السياحة الخليجية والاستثمارات، لأن هذه العلاقة عائدة لا محالة، لأن المملكة تعني للبنان الكثير، ولبنان يعني للمملكة الكثير ايضًا، وليس بعيدًا، كما نجحت الحكومة بالتعاون مع كافة الأجهزة الأمنية في لبنان في وقف تهريب المخدرات إلى المملكة.
بدوره يقول الباحث في الشؤون الاستراتيجية والأمنية، الدكتور فواز كاسب العنزي، إن العلاقات السعودية اللبنانية شهدت توترًا وتراجعًا في السنوات الأخيرة بسبب تدخلات أطراف إقليمية في الشأن اللبناني، مما أدى إلى تقليص الدعم السعودي لبيروت، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في لبنان، ويتزايد الحديث عن احتمال عودة الرياض للساحة اللبنانية. ويضيف العنزي، لـ”مواطن”: “قد يكون هذا الدعم محكومًا بمحددات وشروط جديدة، أهمها الالتزام بسياسة “النأي بالنفس” وعدم الانحياز لأي طرف إقليمي، إضافة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية جذرية، لأن رغبة الرياض في الاستقرار الإقليمي وتحقيق التوازن قد تدفعها إلى تقديم الدعم، لكن بشكل مشروط ومدروس، بما يضمن عدم تكرار تجربة الماضي من الدعم غير المشروط”.
وأشار إلى أنه في ظل هذه المعطيات، يمكن أن يكون الدعم السعودي مستقبلًا، متركزًا على النواحي الإنسانية والاقتصادية دون تدخل مباشر في المشهد السياسي اللبناني، بهدف دعم الاستقرار ومنع انهيار الدولة.
ويقول هاني الجمل، لـ”مواطن”؛ “إن حزب الله طوَّر قدراته العسكرية بدعم من طهران التي تمده بالمال والسلاح، وزاد عدد أعضائه ليبلغ وفقا له نحو 100 ألف مسلح، وباغتيال قادة الصف الأول والثاني انتهي عقد أعضاء مجلس الجهاد الأعلى للحزب الذى كان معطلاً للثلث الثالث من السلطة اللبنانية، مما أدى إلى فراغ رئاسي أدخل لبنان إلى أتون سيطرة ميليشيات الحزب على قوى الأمن الداخلي وتغوله على التيارات السياسية الأخرى”.
وأضاف الجمل، أن الأزمة الراهنة في لبنان هي أن الأغلبية من أعضاء الحكومة لهم ولاء لحزب الله وما يعرف بمحور الممانعة، والذي تسبب بتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، ولهذا فإن حزب القوات اللبنانية قد لا يجد القدرة المطلقة على انتخاب رئيس جمهورية مستقل في قراره، ولكن قد تغير الأيام القادمة موازين الأمور بعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، وانسحاب الجيش اللبناني من مواقع المواجهة، مما قد يؤدي إلى تصفية حزب الله واقتلاع شوكته، وبالتوازي مع ذلك قد تضغط السعودية على أميركا من أجل المساهمة في ترتيب البيت اللبناني، ومن ثم إعطاء فرصة للمبادرة الفرنسية.
ويرى الدكتور عاصم عبد الرحمن، أن المملكة العربية السعودية لم تغب عن لبنان أساسًا كي تعود إليه؛ فهو دائمًا في صلب اهتماماتها، ثم إن قيادة المملكة تدرك تمامًا أن لبنان لا يمكن إلا أن يكون جزءًا أساسيًا من رؤية 2030 التي تسعى إلى شرق أوسط أخضر سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا، والأهم أمنيًا. من هنا يبرز الاهتمام السعودي بلبنان باعتباره منطلقًا للسلام والتوافق العربي، كما كان ساحة لتصفية الحسابات السياسية والعسكرية بين الأطراف الإقليمية المتصارعة، وعليه تدرك السعودية أن استقرار المنطقة من استقرار لبنان، لذا نراها دائمًا في صلب المشهد اللبناني، وإن بصور مختلفة كان آخرها ما قدمته من مساعدات إغاثية متعددة على أثر العدوان الإسرائيلي.
هل يعود سعد الحريري؟
منذ اتفاق الطائف دعمت السعودية تيار المستقبل بزعامة رفيق الحريري، وبعد اغتياله في 2005 تولى ابنه سعد الحريري زعامة التيار بدعم سعودي متواصل مكنه من زعامة السنة في لبنان، ولكن في يناير/ كانون الثاني 2022؛ فجر الحريري الابن مفاجأة بتعليق عمله في الحياة السياسية وتجميد تيار المستقبل ليترك فراغًا واسعًا على الساحة السنية لم تجد من يسده.
وعقب مقتل نصرالله، أصدر الحريري بيانًا، وصف في الأمر بـ”العمل الجبان المدان”، ورأى أن هذه الخطوة أدخلت لبنان والمنطقة في “مرحلة عنف جديدة”، وقال الحريري: “نحن الذين دفعنا غاليًا من أحبتنا حين صار الاغتيال بديلًا للسياسة”؛ في إشارة إلى اغتيال والده رئيس الوزراء اللبناني الراحل، رفيق الحريري، عام 2005.
تجد الفرصة سانحة للعودة مرة أخرى إلى الساحة اللبنانية، والجزء الأهم فيها هو إحياء مسار تيار المستقبل وعودة السنة إلى المشهد السياسي اللبناني؛ سواء أكان بدعم سعد الحريري أو بعض الشخصيات الفاعلة في التيار
وأردف رئيس الوزراء اللبناني الأسبق: “في هذه المرحلة البالغة الصعوبة تبقى وحدتنا وتضامننا هي الأساس، لبنان يبقى فوق الجميع، فوق الأحزاب والطوائف والمصالح مهما كانت، وتخفيف معاناة شعبنا وأهلنا من كل المناطق أولوية وطنية، لا حزبية ولا طائفية ولا فئوية. والحفاظ على لبنان وطنًا لكل أبنائه لا يتم إلا بوحدتنا جميعًا”، وختم بالقول: “المطلوب الآن من الجميع التعالي فوق الخلافات والأنانيات للوصول ببلدنا إلى شاطئ الأمان”.
وبحسب عبد الرحمن فإن “القادم من الأيام التسوية في المنطقة سيُظهر الحاجة السياسية الملحة إلى قوى الاعتدال والوسطية، وهو الخط السياسي الذي يعتنقه تيار المستقبل وتمثله السعودية منذ نشأتها، وكان الرئيس سعد الحريري قد علق عمله السياسي منذ أكثر من عامين على خلفية الوصول إلى حائط مسدود أمام الهيمنة الإيرانية، واختطاف حزب الله للدولة اللبنانية، أسبابٌ يُعتقد أنها بدأت تنتفي بالنظر إلى دخول إيران في صفقات مالية مع الولايات المتحدة، بدأت ترجمتها في الظهور من خلال تخلٍ ظرفي واضح عن حزب الله لتمرير مشاريع كبرى تحاك للمنطقة والإقليم”.
ويتفق معه هاني الجمل، الذي يقول: “إن السعودية تجد الفرصة سانحة للعودة مرة أخرى إلى الساحة اللبنانية، والجزء الأهم فيها هو إحياء مسار تيار المستقبل وعودة السنة إلى المشهد السياسي اللبناني؛ سواء أكان بدعم سعد الحريري أو بعض الشخصيات الفاعلة في التيار، والتي قد تساهم في تنشيط قرار 1701، والذي يؤكد على نزاع سلاح حزب الله ودعم الجيش اللبناني أو الانخراط به، كما حدث مع الحشد الشعبي في العراق، حتى وان كانت التجربة لم يكتب لها النجاح الكامل، ولكن على الأقل هو عودة سلطة الدولة مرة أخرى للسيطرة على مقاليد الحكم والعمل على دعم الولاء للبنان وليس إيران كما كان”.
Sky Scarlet I really like reading through a post that can make men and women think. Also, thank you for allowing me to comment!