لقد نشأت في مجتمع يعطي لكل أفراده قائمة موحدة تحمل نفس الأهداف، كل فرد من أفراده عليه واجب إتمام القائمة، هناك بعض الفروق البسيطة بين الطبقات المجتمعية فيما يتعلق بالتوقيت، لكن هناك اتفاقًا كاملاً ومن كل أطياف المجتمع على أن القائمة ملزمة.
علينا أن ندرس ونتزوج وننجب، هذه كانت القائمة التي تعطى لبنات جيلي من الطبقة المتوسطة، وقد يتم إلغاء بند الدراسة للطبقات الأقل حظًا، لكن البنود التي لا يمكن المساس بها هي بنود الزواج والإنجاب، أما الرجل فله قائمة أخرى تشمل العمل، وقد يضاف لها السفر بحثا عن الرزق، لكن الثابت فيها أيضًا هو الزواج والإنجاب، لا يُسأل أحد إن كان يرغب في هذه المسؤولية العظيمة أو يحتاجها!
مسؤولية الارتباط الأبدي يستهان بها، وقد يجد الفرد أنه لا يقوى عليها بعد فوات الأوان؛ فيعيش معلقًا في علاقات تعيسة فرضت عليه، ولم يكن يتوقع بأنها ستقضم أجمل أيام حياته، وقد تولد هذه التعاسة عائلة تعيسة فلا يجد الإنسان نفسه بعد سنين العمر محاطًا بالأحبة؛ بل بالناقمين المحبطين الراغبين بالفرار.
ما أن يخرج المرء من بيئته حتى يبدأ بالنظر للأمور من منظور شامل، ليجد الكثير من الأفكار التي كان يظنها حقائق، هي مجرد آراء تحتمل الصواب والخطأ
يتساءل الكثيرون عن البديل، وتوضع الوحدة دائمًا كبعبع مخيف أمام الأشخاص الذين يفكرون باختيارات أخرى، أو الأشخاص الذين تفرض عليهم أنماط مختلفة من الاختيارات، أسئلة تنتشر كثيرًا في البيئات المغلقة، وعند أولئك الذين تقتصر علاقاتهم الاجتماعية على الأقارب والمعارف الذين يتشاركون معهم في الأفكار المتوارثة.
لكن ما أن يخرج المرء من بيئته حتى يبدأ بالنظر للأمور من منظور شامل، ليجد الكثير من الأفكار التي كان يظنها حقائق، هي مجرد آراء تحتمل الصواب والخطأ، وأن القوائم التي فرضت عليه تحدد خياراته وقراراته، بينما في الحياة خيارات أخرى، حتى إن كان راغبًا بتحقيق نفس رغبات بيئته، لكن ظروفه لم تسمح بذلك (كأن يكون غير قادر على الإنجاب لظروف طبية مثلاً)؛ فإن هذه ليست آخر الدنيا، وبدلاً من أن يضيع حياته واقفًا عند نفس الباب لمحاولة فتحه بالقوة سنوات وسنوات؛ فإن أبوابًا كثيرة أخرى متوفرة وفيها الخير الكثير.
قبل فترة قادتني الصدفة للتعرف على مشروع إنساني عظيم، يهدف لتعليم مئات الطلاب والطالبات النازحين من غزة، استطاع المشروع إنقاذ هؤلاء الطلاب من إضاعة سنة دراسية كاملة، بإعطائهم دروسًا مكثفة وكتبًا تعليمية، واستخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة. زادت دهشتي عندما عرفت أن وراء هذا المشروع امرأة واحدة، عزباء، تركت عملها المرموق لمدة شهور لتتواجد مع الأطفال في بلد النزوح، وتقدم لهم؛ ليس فقط كل هذا الدعم التعليمي واللوجستي؛ بل إن ما تقدمه لهم على صعيد فردي يفوق عمل جمعيات خيرية متكاملة.
عندما التقيت الأستاذة وجدتها تحفظ أسماء الطلاب والطالبات عن ظهر قلب؛ بل وتعرف تفاصيل حياتهم، هذا الطالب (قالت لي وهي تؤشر على صورة لطفل) خسر والده ويعيش مع والدته وإخوته، وتلك الفتاة خسرت كل عائلتها وتعيش مع أقاربها؛ بل إنها تطمئن على حال الطلاب بشكل مستمر، من الصعب؛ بل من المستحيل أن تستطيع امرأة متزوجة مسؤولة عن عائلة التفرغ لهذا العمل العظيم، الذي يحتاج لطاقة وجهد استثنائيين.
تتحدث الكاتبة إليزابيث جيلبرت في كتابها عن الالتزام والزواج، عن أدوار الرجال والنساء الذين قرروا أو فرض عليهم عدم الإنجاب، تذكرنا الكاتبة بالفرق بين الأب الذي ينجب والأب الذي يربي، وأن صفة “الأب يجب أن تطلق على الثاني؛ فالأول لم يفعل أكثر من أنه مارس علاقة حميمة. وفي حياتنا رجال كثر ربوا أولاد غيرهم، وكانوا لهم أفضل من آبائهم الحقيقيين.
أما عن النساء فتؤكد الكاتبة أنه على مر العصور، كانت دائمًا هناك نسبة معينة للنساء اللواتي لم ينجبن؛ سواء أكان هذا باختيارهن أو بسبب ظروف قاهرة، وتوضح بأن هذه النسبة ليست فقط مشروعة بل ضرورة للمجتمع؛ فالإنجاب يستهلك طاقة المرأة ويتركها بعد سنوات تربية طويلة بلا رغبة بإبداء أي جهد خارج إطار عائلتها، ولهذا فالمجتمعات بحاجة لنساء يحتفظن بالطاقة ويقدمن الدعم للمجتمعات، مساعدة الأطفال الأيتام، الأعمال الخيرية، والأعمال الإنسانية العظيمة سواء أكانت خارج الأسرة الممتدة أو داخلها، كالعناية بكبار السن في العائلة، أو الأفراد أصحاب الإعاقة.
هؤلاء الذين لم ينجبوا خلقوا لمهمات عظيمة"، هذا ما تكتشفه عندما تخرج من عش العصافير خارج بيئتك وتطير لبيئات أخرى؛ فترى تجارب عميقة مهمة لا يستقيم الكون بدونها
تعطي الكاتبة اهتمامًا خاصة للعمة أو الخالة، وتذكرنا بأسماء عظيمة من الأدباء كبروا على أيدي عماتهن، بسبب وفاة الأمهات أو تخليهن عن أبنائهن، ومنه هؤلاء الأدباء تولستوي الذي اعتبر عمته من أكثر الناس تأثيرًا في حياته، والأخوات برونتي، وغيرهم الكثير.
تخيل معي لو لم تكن في تلك الأسر عمة متفرغة؛ كيف سينشأ هؤلاء العظماء؟ وماذا سيكون مصيرهم بسبب الإهمال والتخلي؟
إن رعاية أطفال من قبل رجل أو امرأة ليسوا من صلبهما، يخلق إنسانًا معطاء مؤمنًا بالخير؛ فوجوده أو نشأته يعتمد على وجود تلك الخصال فيمن ربّاه.
زوجان لم ينجبا؛ فحوّلا بيتهما في بلد الاغتراب لمأوى لكل شاب مغترب من أبناء الأقارب والأصدقاء، رجل آخر اعتنى بأبناء صديقه المتوفي، وقدم لهم كل الدعم المادي والأبوي، امرأة عاملة لم تنجب فأعالت أبناء أختها الفقيرة وكانت لهم السند، كل هذه نماذج لرجال ونساء لم ينجبوا، لكن كانت لهم أدوار عظيمة لن يستطيع غيرهم القيام بها، بالإضافة للأعمال الخيرية والاهتمامات الحقوقية التي نجدها عند الكثير من الرجال والنساء الذين يعمرون الأرض بعيدًا عن القوائم الموحدة، التي تفرض شكلاً واحدًا من الحياة على الجميع.
“هؤلاء الذين لم ينجبوا خلقوا لمهمات عظيمة”، هذا ما تكتشفه عندما تخرج من عش العصافير خارج بيئتك وتطير لبيئات أخرى؛ فترى تجارب عميقة مهمة لا يستقيم الكون بدونها، هذه الطاقات الكامنة التي لم تستهلك في تربية أبنائهم، هي طاقات عطاء يحتاجها ملايين البشر”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.