في مجتمعاتنا العربية، يعدّ الإنجاب أحد أعمدة الحياة الأسرية، وهو متجذر في الثقافة والدين باعتباره هدفًا ساميًا للزواج واستمرارية الحياة. ومع ذلك، تتزايد ظاهرة اللا إنجابية بين فئات الشباب، وهو ما يثير تساؤلات حول أسباب هذا التحول. لماذا يتخذ البعض قرار عدم الإنجاب رغم محبتهم للأطفال؟
يخبرنا سامي: "من الطريف أنّ الجميع يوبخني لعدم زواجي، رغم أنّ لدي منزلًا وسيارة، لدرجة أن جارتنا الثمانينية تسخر مني كلما مررتُ بباب بيتها "ما نفع شهاداتك دون أولاد؟"
اللا إنجابية في التاريخ الإسلامي
يرفض الدين الإسلامي فكرة عدم الإنجاب؛ حيث يسعى في أحد جوانبه إلى الانتشار والكثرة العددية، كما في قول النبي محمد: “تناسلوا فإني مفاخرٌ بكم الأمم يوم القيامة”؛ سواء أكان بهدف مواجهة الأخطار، أو إعمار الأرض وفق الأفكار والتوجهات والظروف المختلفة في كل عصر. ولكن في الوقت نفسه نرى الكثير من أئمة الإسلام قد عاشوا حياتهم وماتوا وليس لديهم أطفال؛ مثل النووي والطبري وابن تيمية والزمخشري، وابن النفيس الطبيب الذي يفخر به المسلمون، وأدباء العصر الحديث؛ مثل عباس محمود العقاد، المعروف بدفاعه عن الإسلام، وكلهم مسلمون وعلماء في الدين الإسلامي.
ومن أشهر اللا إنجابيين في الثقافة العربية الإسلامية هو الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري، الذي كان نباتيًا حتى لا يشارك فيما يتسبب في معاناة وتألم الحيوانات، وعن آلام البشر فقد فضّل ألا ينجب حتى لا يجني على طفلٍ بالألم كما جنى عليه والداه حين أنجباه، مخلدًا عبارته الشهيرة “هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد”؛ فلم يتزوج ولم يُنجب، ودعا إلى عدم الإنجاب، “وإذا أردتم للبنين كرامة / فالحزم أجمع تركهم في الأظهر”، وذلك وقايةً لهم من عذاب الحياة، قائلًا: “وألقاك فيها والداك فلا تضع / بها ولـدًا يلقى الشدائد والنكرا”.
اللا إنجابية تغزو الدول العربية.. هل هو تغير فكريّ؟
أظهرت خريطة التغيرات في السنوات الخمسين الماضية أن معدلات الخصوبة تتراجع بأسرع وتيرة في بعض دول الشرق الأقصى والكاريبي، وأشارت أرقام الأمم المتحدة إلى أنّ كوريا الجنوبية والصين وبوتان شهدت انخفاضًا بنسبة 79% في متوسط المواليد لكل امرأة، بين عامي 1971 و2021. أما عربيًا؛ فقد شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة انخفاضًا بنسبة 77% في معدل المواليد خلال الفترة الزمنية نفسها.
وفي السياق ذاته، وجدت دراسة سابقة للبروفيسورة مارسيا إنهورن، أنّ معدلات الخصوبة سوف تنخفض إلى ما دون مستوى الإحلال في معظم البلدان العربية بحلول عام 2100، ويعرّف مستوى الإحلال على أنه الحد الأدنى من معدل الخصوبة اللازم لإحلال الأجيال الجديدة من السكان، بافتراض عدم الهجرة، ومقداره 2.1، وقد حققت مصر معدل خصوبة مقارب لمستوى الإحلال مقارب بـ 2.05، وفلسطين 1.77، والعراق 1.59، والأردن 1.57، والجزائر 1.48، والسودان 1.40، وسوريا 1.39، ولبنان 1.33، وتونس 1.19، وليبيا 1.03. وسجلت دول مجلس التعاون الخليجي معدلات مقاربة؛ فحققت الإمارات 1.31، وقطر وعمان 1.29، والبحرين 1.26، والكويت 1.14، والسعودية 0.97. لتتحول الدول العربية إلى مجتمعات مسنة بعد أن كانت فتية أو شابة؛ حيث إنّ 7 من أكبر 15 انخفاضًا في الخصوبة حول العالم، كانت في دول عربية.
وعزا الباحثون ذلك إلى التغير الفكري والاتجاه نحو الأسرة العربية الجديدة التي تتمثل بالأسرة النووية، من أجل منح الأطفال أكبر قدر من التعليم، بالإضافة إلى تنظيم الأسرة ووسائل منع الحمل.
لاإنجابيون، لأجل الجنس والحرب
يحكي إسماعيل (33 عامًا) خرّيج كلية تجارة واقتصاد، وصاحب سوبر ماركت، لمواطن “لديّ ما يكفيني من المال الذي يخولني السفر وقضاء إجازة الصيف في أي مكانٍ في العالم، لستُ مليونيرًا ولكني أحب أن أعيش حياتي بكل تفاصيلها، وأجرب كل ما هو ممتع في الحياة، لاشكّ في أنّ الإنجاب سيلغي هذه الأحلام تمامًا، وأنا غير مهووس بأن أستمرّ في الحياة بعد الموت من خلال طفل”.
وترفض أسماء (31 عامًا) ـ مهندسة متزوجة منذ خمس أعوام- فكرة الإنجاب، لأسباب إسماعيل ذاتها، وتضيف عليها قائلةً لمواطن “يصبح الجنس بعد الإنجاب أقل متعة وتواترًا، وأنا لا أريد أن أخرّب علاقتي بزوجي، كما حدث مع أختي وغيرها، اللواتي فقدن الوقت والرغبة لممارسة العلاقة؛ سواء أكان بسبب التغيرات الهرمونية والجسدية التي يفرضها الحمل وعملية الولادة، أو الإرهاق النفسي والفيزيائي المترتب على الاعتناء بالأطفال”.
تتفاوت الآراء بين من يرى في الإنجاب غاية الحياة وهدفها الأسمى، لأسباب دينية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ حيث يعتبر البعض الأطفال استثمارًا في المستقبل، ومصدرًا للبهجة والسعادة. في المقابل، هناك من يرى أن إنجاب طفل إلى هذا العالم يمثل جريمة وأنانية.
ومن الجدير بالذكر أنّ كلام أسماء يتطابق مع الدراسات التي تقول إن أغلب الأدلة تشير إلى أن الانتقال إلى الأبوة والأمومة، له تأثير سلبي على العلاقة بين معظم الأزواج.
أما بشرى (35 عامًا) ممرضة في أحد المشافي الخاصة في سوريا فتقول: “بعد ويلات الحرب التي ذقناها قررتُ أنا وزوجي عدم الإنجاب، لأننا لا نريد أن يولد طفلٌ في تلك الظروف المأساوية، لكنّ صديقتي اختارت الإنجاب في ذروة الأحداث، ولما سألتها جاوبتني أنها تخشى أن يموت طفلاها في تفجير ثم تبقى دون أولاد، رأيتُ في كلامها أنانية كبرى”.
بينما قالت سارة (٣٣ عامًا) طبيبة في الأمراض الداخلية، لمواطن: “لا أريد الإنجاب، ليس لأنني أكره الأطفال، على العكس؛ أحبهم للدرجة التي لا أسمح لنفسي فيها بإلقائهم في هذا العالم، ثم محاولة حمايتهم من الحروب والصراعات والشرور، لماذا أصنع المشكلة ثم أجهد نفسي في الحل؟ وبما أنني أحب الأطفال فلا أستبعد إقدامي على تبني طفل مجهول النسب، أنجبه أبواه إلى جحيم الحياة من أجل نزوة عابرة”.
تتقاطع تجربة بشرى وسارة مع آراء قوية تتبنى زيادة الإنجاب في فترات الأزمات والحروب كتعويض عن النقص الحاصل بسبب الموت، ويرون فيه محايدة ومقاومة للعدو وإثباتًا للاستمرارية والوجود، وأنّ الشعب قادرٌ على العيش ولا يشعر بالهزيمة، وهذا ما يحصل في مخيمات اللاجئين وحصل في الحربين العالميتين، علمًا بأنّ هذا التوجه لا يراعي حق الطفل في العيش بسلام وسعادة، والحصول على حقوقه بشكل طبيعيّ.
تعارض الإنجاب مع الحياة المهنية
من جهةٍ أخرى، تقول بلقيس (29 عامًا)، وهي طبيبة كلية في أحد المشافي الحكومية، متزوجة وليس لديها أطفال، لمواطن: “أنا الآن طبيبة مقيمة، أعاني الأمرّين نفسيًا وجسديًا في عملي؛ فقد أبقى ثلاثين ساعة متواصلة في العمل دون استراحة فعلية، أعود بعدها إلى المنزل لألتقط أنفاسي؛ فيأتي المرضى من المعارف والجوار، وكثيرًا ما يوقظونني ليلًا؛ فأين مكان الإنجاب في هكذا نمطٍ من الحياة؟”.
وتتابع: “في الحقيقة إنني أرى الأطفال في عملي وأصاب بنوبةٍ غامرةٍ من السعادة، لكن لا يمكن اختصار الإنجاب في هذه اللحظة، لأني أريد تربيته والاعتناء به بأدق التفاصيل، لا أن يكبر وأنا لا أعرف عنه شيئًا”.
وعلى نحوٍ مشابه، يقول سمعان (38 عامًا) طبيب في اختصاص الأمراض الهضمية لمواطن: “لا أعتقد أنّ هنالك وقتًا مناسبًا للإنجاب بالنسبة للأطباء، وخاصة الطبيبة الأنثى؛ حيث تكون فترة التدريب على التخصص مرحلة ضغطٍ نفسيّ هائل، وبعد التخصص هنالك تحدي دخول سوق العمل وإثبات الذات، وكلتاهما مرحلتان حاسمتان صعبتان تتطلبان التفرغ التام، ولا ننسى أنّ فرص الحمل والإنجاب تتناقص مع التقدم بالعمر لدى الزوجين”.
بين الوصم ورضوض الطفولة
بعد ترافق اللا إنجابية بحب الحياة والحرب والجنس في الشهادات السابقة، يربط جمال (29 عامًا) مهندس اتصالات، بين طفولته وتوجهه نحو اللا إنجاب في حديثه لمواطن: “كانت والدتي شديدة السلطة علي، صحيحٌ أنها لم تكن تضربني مثلما تفعل أمهات أصدقائي، لكنها في المقابل كانت تخاف عليّ من كل شيء، من الممنوع أن أذهب إلى القرب من الشارع الرئيسيّ لأنّ به سيارات مسرعة قد تدهسني، وتمنعني من الذهاب مع أقراني إلى البحر أو النهر؛ فهي تخاف عليّ من الغرق”.
ويكمل: “وكلما كنت أتذمر من ذلك، تجاوبني بأني عندما أكبر ويصبح لدي أولاد سأفهم شعورها وأفعل مثلها، لذا كنت أرد قائلًا: “لا أريد أطفالًا، لا أريد الإنجاب”، مضت الأيام وكبرتُ وبدأتُ قراءة الكتب والمجلات الإلكترونية والمقالات التي تتكلم عن فلسفة اللا إنجابية، وقد وجدت فيها الكثير من التقاطع مع أفكاري وأقوالي، وما كان ردة فعل طفولية، أصبح اليوم نهج حياة؛ فأنا أريد أن أذهب أينما أحب، ولا أريد لشيءٍ أن يقيدني”.
فيما يخبرنا سامي (55 عامًا) دكتوراه في الأدب الإنجليزي، عن الضغوطات التي تواجه أفراد مجتمع “الميم عين”، عندما لا يمتنعون عن الزواج والإنجاب؛ في حديثه لمواطن: “رغم أنّ كونك مثليًا فلا يعني ذلك حتمية عدم رغبتك بالإنجاب، لكنني لا أريد الإنجاب حتى لو كانت الظروف مواتيةً لذلك، أي لا علاقة لمثليتي بالأمر”.
يتابع: “من الطريف أنّ الجميع يوبخني لعدم زواجي، رغم أنّ لدي منزلًا وسيارة، لدرجة أن جارتنا الثمانينية تسخر مني كلما مررتُ بباب بيتها “ما نفع شهاداتك دون أولاد؟”؛ فلا قيمة لشيء في نظرها دون زواج وإنجاب، أما أولئك الذين يتهامسون بأني مريض نفسيًا أو كافر؛ فقصةٌ أخرى”.
هل اللا إنجابية مرضٌ نفسيّ؟
وتعليقًا على حالة إسماعيل، تؤكد الدكتورة رهام سليمان، طبيبة مقيمة في اختصاص الطب النفسي في حديثها لمواطن: “لا يمكن اعتبار اللا إنجابية مرضًا نفسيًا، ولا يوجد في الطب النفسي شيء اسمه مرض اللا إنجابية”.
وعن طرق التعامل الصحيحة للمجتمع مع اللا إنجابيين تضيف: “السليم هو اعتبار اللا إنجابية فكرةً ووجهة نظر عن الحياة، قد نتفق معها وقد نختلف، مثلها مثل الإلحاد وغيره من الأفكار، ودور الطبيب النفسي في حال طلب الشخص استشارة نفسية، هو محاولة معرفة إن كان هنالك مشكلة كامنة وراء هذه الأفكار مثل القلق أو الاكتئاب -الموجودة بطبيعة الحال عند الإنجابيين وغير الإنجابيين- يمكننا مساعدة المريض على حلها، أما إن كان هذا رأيه في الحياة فلا يمكننا سوى احترامه ودعمه ومساعدته ليكون أكثر مرونةً مع أفكاره ومحيطه”.
وفي سياق متصل تتحدث الطبيبة النفسية سانديب دينغرا –في مقالتها التي نشرتها في ٢٥ يونيو الماضي– أنها كثيرًا ما تقابل أشخاصًا يشككون في المعاني العميقة للحياة؛ فيعتبرون الإنجاب خطأً أخلاقيًا، وترتبط عند البعض بمشاعر اليأس والإحباط. وتؤكد أنه “من المهم التعرف على هذه المشاعر وفهمها، وتوفير مساحة آمنة للمناقشة. قد يعاني اللا إنجابيون من الاكتئاب أو العدمية (الاعتقاد بأن الحياة لا معنى لها)، الأمر الذي يتطلب علاجًا دقيقًا ومتعاطفًا”.
وترى دينغرا أنّ اللا إنجابية تساعد بعض الناس: “باعتبارنا متخصصين في الصحة العقلية، يتعين علينا احترام المعتقدات المختلفة مع الحفاظ على الموضوعية، وقد تساعد بعض الأشخاص في معالجة مخاوفهم الوجودية”. كما أشارت إلى أنّ تبني اللا إنجابية ليس بالضرورة أن يكون ناجمًا عن مرض نفسي: “من المهم التمييز بين وجهات النظر المناهضة للإنجاب التي تأتي في سياق الاكتئاب أو الصدمة، وغيرها ذات الطابع الفلسفي، وتعد المناقشات المفتوحة التي تجمع بين الدعم الفلسفي والنفسي مفيدة للغاية”.
وتلخص تعامل الطبيب النفسي مع اللا إنجابية: “لا يتعلق بالموافقة عليها أو الاختلاف معها؛ بل يتعلق بفهم الدوافع والمشاعر الكامنة وراءها، ويساعدنا هذا الفهم في دعم مرضانا بشكل أفضل، ومساعدتهم على إيجاد المعنى والمرونة في حياتهم”.
وختامًا، تتفاوت الآراء بين من يرى في الإنجاب غاية الحياة وهدفها الأسمى، لأسباب دينية أو اجتماعية أو اقتصادية؛ حيث يعتبر البعض الأطفال استثمارًا في المستقبل، ومصدرًا للبهجة والسعادة. في المقابل، هناك من يرى أن إنجاب طفل إلى هذا العالم يمثل جريمة وأنانية؛ إذ إن كفة الألم في الحياة ترجح على كفة الفرح. وهناك أيضًا من دفعته الظروف الاقتصادية أو الرغبة في الاستمتاع بالحياة إلى عدم الإنجاب. في النهاية، يبقى قرار الإنجاب مسألة شخصية تتطلب التفهم والاحترام. الاختلاف في الآراء حول هذا الموضوع يعكس تنوعًا فكريًا وواقعيًا يواجهه شباب اليوم، ويطرح تساؤلات جوهرية حول معنى الحياة ومستقبلها.