بعد نكبة 1948 وهروب الفلسطينيين إلى لبنان عبر حدوده الجنوبية، بدأت حركة المقاومة الفلسطينية بتنفيذ عملياتها ضد إسرائيل؛ خاصةً منظمة التحرير التي حصلت على حرية العمل العسكري والسياسي ضد إسرائيل في جنوب لبنان، بموجب اتفاق القاهرة عام 1969.
ردّت إسرائيل على عمليات منظمة التحرير في جنوب لبنان بحجة حماية أمنها وحدودها، وتركت وراءها سجلًا إجراميًا مليئًا بالمجازر، أبرزها مجزرة حولا عام 1948، مجزرة النبطية الفوقا عام 1976، ثمّ اجتياح 1978 لمنطقة جنوب الليطاني، مجزرة بنت جبيل عام 1982، ومجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت خلال اجتياح 1982؛ حيث وصل عدد الضحايا إلى الآلاف. كما نفذت إسرائيل مجزرة قانا عام 1996 خلال عملية “عناقيد الغضب”، التي راح ضحيتها 106 مدنيين كانوا قد لجؤوا إلى مقر الأمم المتحدة هربًا من القصف العشوائي.
هذه الانتهاكات الإسرائيلية لم تتوقف يومًا، ولم تقتصر على مواجهة العمل الفلسطيني المقاوم من لبنان؛ بل ما ورد في خطة بن غوريون المعروفة بـ “خطة دالت” (Plan Dalet) التي أعلن عنها في مارس 1948، يفضح المزاعم الإسرائيلية المرتبطة بحماية أمنها ومستعمراتها الشمالية، والتي تبرر من خلالها إسرائيل الهجمات العسكرية التي تقوم بها للسيطرة على المناطق المرتفعة في جنوب لبنان المطلة على سهل الحولة في شمال فلسطين، بهدف توسعة الدولة الإسرائيلية إلى ما وراء حدودها المزعومة.
جنوب لبنان الجبهة المشتعلة
وفي هذا الإطار لم تنطفئ جبهة الحدود اللبنانية مع شمال فلسطين، ولم تنفصل عن الأحداث الداخلية الفلسطينية،، بالإضافة إلى أنها دفعت ثمنًا باهظًا تجاه قضية الصراع العربي الإسرائيلي، والذي لولا الجبهة اللبنانية اليوم لأصبح مقتصرًا على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أحقية هذه القضية، إلا أن المسرح اللبناني للمواجهات بين الفلسطينيين وإسرائيل ترك آثارًا بالغة على سكان البلدات الجنوبية في لبنان، منذ بداية الصراع وحتى تاريخ هذه اللحظة، يقول المؤرخ الدكتور منذر جابر في مقابلة مع مواطن: إن “منطقة الجنوب الحدودية تتعدى بأهميتها مساحتها الجغرافية، وتكتسب موقعًا بارزًا في مخططات الأمن والاستيطان الإسرائيليين؛ فهي تتشكّل أساسًا لتأمين الحدود الشمالية لإسرائيل؛ إذ تضم سلسلة من المرتفعات والتلال المطلة على الأراضي اللبنانية”.
بعد معركة المالكية، تغيّرت موازين المواجهة بين الطرفين، واستطاعت إسرائيل تأمين حدودها الشمالية، إلا من بعض الهجمات المحدودة، والتي تركت التوترات قائمة بين الجبهتين حتى العام 1975
وبحسب أستاذ التاريخ الدكتور طليع حمدان في مقابلة مع مواطن: “فإنّ هذه المنطقة لعبت دورًا حاسمًا لتجمع جيوش الإنقاذ العربي خلال أحداث 1948، وتحديدًا خلال معركة المالكية الثانية في 5 و 6 من يونيو من العام ذاته، عندما واجهت القوات اللبنانية والسورية وفصائل فلسطينية القوات الإسرائيلية التي كانت تهدف للسيطرة على المناطق الحدودية، لتأمين خطوط الإمداد وتوسيع نطاق سيطرتها على الجليل، ورغم انتصارها في المالكية، إلا أنها لم تكن بالقوة الكافية للحفاظ عليها، وتوسيع رقعتها بسبب التفوق العسكري للعصابات الصهيونية“.
وفي هذا السياق، يرى المؤرخ الدكتور منذر جابر “أن تصرّف القيادة السياسية اللبنانية آنذاك كان واقعيًا بسبب الفارق العددي بين الجيوش العربية (20 ألف جندي)، وبين قوات الهاغانا الصهيونية (60 ألفًا)، بالإضافة إلى الاختلاف النوعي في الأسلحة التي تستعملها قوات الهاغانا والتي تركتها لهم بريطانيا بعد انسحابها من فلسطين في مايو 1948”.
بعد معركة المالكية، تغيّرت موازين المواجهة بين الطرفين، واستطاعت إسرائيل تأمين حدودها الشمالية، إلا من بعض الهجمات المحدودة، والتي تركت التوترات قائمة بين الجبهتين حتى العام 1975، وازدياد الهجمات الصاروخية التي أطلقتها منظمة التحرير الفلسطينية، والتي بحسب المزاعم الإسرائيلية كانت دافعًا لإطلاق عملية الليطاني في مارس 1978، تحت حجّة القضاء على قواعد الفدائيين الفلسطينيين في جنوب لبنان.
سيطر جيش الاحتلال الإسرائيلي على البلدات اللبنانية عند الشريط الحدودي، أطلق عليها المنطقة العازلة (علمان، القصير، دير سريان، كفركلا، الطيبة، القنطرة، العديسة، ربّ الثلاثين، مركبا، بني حيان، حولا، طلوسة، محيبيب، ميس الجبل وبليدا)، ووضعها تحت سيطرة قوات محلية لبنانية موالية لإسرائيل سميت بـ ‘”جيش لبنان الجنوبي””.
مشاهد من قلب المعاناة
تروي الحاجة أمينة، من بلدة حولا الجنوبية، عن والدتها قصصًا مفجعة عن تلك الفترة، عندما كان جنود الاحتلال يجمعون السكان ويفصلون بينهم حسب فئاتهم العمرية. تضيف أمينة: “كانوا يجمعون الشباب والرجال في غرفة واحدة، ثم يطلقون عليهم عليهم النار بشكل جماعي، بينما يتركون الشيوخ والنساء والأطفال على قيد الحياة. كنا نعيش في رعب دائم، دون أدنى أمل في النجاة”.
هذه المشاهد لم تكن استثناءً؛ فقد شهدت بلدات الجنوب عمليات تدمير ممنهجة؛ حيث فُجّرت البيوت، وقُتل نواطير البساتين، حتى الحيوانات لم تسلم من القتل. تتابع الحاجة أمينة: “لم يكن الجيش اللبناني يملك العدد الكافي أو الإمكانات القتالية لمواجهة جيش الاحتلال. كنا نُقتل في صمت، وتحولت القرى إلى مساحات مهجورة يسكنها الخوف”.
لم يسلم نواطير البساتين من بطش الصهاينة؛ فبعد سرقة محاصيلهم الزراعية كانوا يقتلونهم أمام عجز الأهالي عن مواجهة هذه القوة العسكرية الجبارة.
رسالة الاستغاثة
وسط هذا الصمت الدولي والتخاذل الإقليمي، برزت دعوة من عالم الدين السيد عبد الحسين شرف الدين، عام 1948، وكان له دور سياسي مهم في منطقة جبل عامل في رسالة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك بشارة الخوري، عبّر شرف الدين عن حجم الكارثة التي تحل بجبل عامل وسكانه، قائلًا:
“وحسبنا الآن نكبة جبل عامل في حدوده المتاحة ودمائه المباحة وقراه، وقد فيح فيها نهبًا، وأطفاله قد تأودت رعبًا، واستحّر به الفتك، إلى ما هنالك من هلاك الزرع والحرث؛ فإن لم يكن من قدرة على الحماية، أفليس من طاقة على الرعاية؟”.
كلمات السيد شرف الدين كانت تعبيرًا صريحًا عن الشعور بالعزلة والخذلان الذيْن عاشهما سكان المنطقة؛ حيث لم تكن هناك جهود ملموسة لحمايتهم أو تقديم الدعم اللازم لهم لمواجهة هذه النكبة.
الوضع العسكري الهش
تعود جذور هذه المعاناة إلى ضعف الإمكانات العسكرية اللبنانية؛ حيث كان الجيش اللبناني غير مجهز لمواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي كان يتمتع بتفوق عسكري واضح. ورغم المناشدات المتكررة من القادة المحليين والزعماء الدينيين والسياسيين؛ فقد بقي الوضع على حاله، وأصبحت البلدات الجنوبية مسرحًا دائمًا للقتل والتهجير.
واستمّر لبنان محكومًا باتفاقية الهدنة عام 1949 مع إسرائيل حتى يونيو 1982، عندما شنت إسرائيل اجتياحًا واسعًا للبنان (عملية سلامة الجليل)، بهدف طرد منظمة التحرير الفلسطينية؛ حيث دخلت القوات الإسرائيلية إلى عمق الأراضي اللبنانية، ووصلت إلى العاصمة بيروت.
منذ النكبة وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 2000، عاشت بلدات الجنوب اللبناني الاحتلال والمعاناة، وكان السكان المحليون يواجهون مصيرهم المجهول بقلوب مليئة بالخوف
وفي هذا المضمار يقول المؤرخ الدكتور منذر جابر لمواطن: “الأقلام والأحزاب والقيادات السياسية لم تلتفت إلى الحدود الجنوبية؛ لا قبل مؤتمر مدريد (1991)، ومباشرة المفاوضات العربية الإسرائيلية، ولا من بعدها، وترى فيها تعليمة أو ترسيمة وطنية تشكّل بندًا من قضايا الوطن لدى هذه الأحزاب، أو بندًا من مواقفها وحواراتها المتبادلة في معارضاتها، أو في موالاتها مع سياسات الحكومات القائمة”. وبالتالي يضيف الدكتور جابر: “بقي جنوب لبنان في مهبّ بعض الخطط والتمنيات السياسية اللبنانية، والتي تشطره إلى قسمين؛ قسم لبناني شمالي الليطاني، وقسم هجين قيد الدرس جنوبي هذا النهر، يُترك بأرضه وسكانه لأقدار المشاريع الدولية وتقسيماتها ووعودها”.
حسب الدكتور حمدان؛ فقد دفع لبنان ثمنًا كبيرًا نتيجة موقفه الداعم للقضية الفلسطينية، ورفضه الدخول في عملية سلام مع إسرائيل، وقدم الكثير من الدماء لأجل حماية أرضه المتاخمة لفلسطين، وكافح على مدار 22 سنة لأجل تحرير أرضه التي احتلتها القوات الإسرائيلية خلال الاجتياح عام 1982، وصولاً الى تحرير الجنوب اللبناني عام 2000. وخلال تلك الفترة تحمل لبنان وما زال، أعباء وجود عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه .
المصير المشترك
منذ النكبة وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 2000، عاشت بلدات الجنوب اللبناني الاحتلال والمعاناة، وكان السكان المحليون يواجهون مصيرهم المجهول بقلوب مليئة بالخوف. لم تتغير الظروف حتى الانسحاب الإسرائيلي في 25 من مايو 2000، يقول المؤرخ الدكتور منذر جابر: “كان الانسحاب الإسرائيلي سابقة في العلاقات العربية الإسرائيلية؛ إذ تم دون مفاوضات أو شروط”، ويقارن “”جابر”” بين الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، وبين الانسحابات الإسرائيلية السابقة من مصر والأردن، مشيرًا إلى أن لبنان حقق إنجازًا فريدًا عندما انسحبت إسرائيل دون أي التزام لبناني مقابل؛ في حين كانت الانسحابات السابقة تقترن بتنازلات من الطرف العربي.
الجنوب اللبناني، الذي عانى لعقود من الاحتلال الإسرائيلي والاعتداءات المتكررة، أصبح جزءًا لا يتجزأ من النضال الإقليمي الأوسع، الذي يربط قضية لبنان الحدودية بالقضية الفلسطينية؛ فقد شكلت الحدود اللبنانية-الفلسطينية خط المواجهة الأول بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي لعقود؛ حيث أصبح الجنوب اللبناني ملاذًا للمقاومة الفلسطينية، وحاضنًا للفصائل التي كانت تناضل لتحرير أرض فلسطين.
هذا التاريخ المشترك في النضال، الذي تبلور من خلال التضامن والمقاومة المشتركة بين اللبنانيين والفلسطينيين، يظهر اليوم في كل تصعيد على الحدود وفي كل مواجهة عسكرية.
وما يعيشه اليوم الجنوب اللبناني من تهديدات متكررة تؤكّد تداخل القضية اللبنانية مع القضية الفلسطينية من أجل الحرية والعدالة لكلا الشعبين.