في عام 1977، كانت وانغاري ماثاي، الناشطة البيئية الكينية، تشاهد غابات بلادها وهي تتلاشى ببطء، في حين كانت الأسر الريفية تكافح للحصول على خشب الحطب والمياه، فبدأت “ماثاي” في حشد النساء لزراعة الأشجار واستعادة الأرض، وأسست حركة الحزام الأخضر، وهي منظمة بيئية شعبية ساعدت النساء وأسرهن في زراعة 40 مليون شجرة في أنحاء كينيا، بغرض حماية البيئة وتعزيز سبل العيش المستدامة. لم يكن الأمر مجرد زرع أشجار، كما أن هذه الحركة لم تكن مجرد جهد محلي؛ بل كانت شرارة لولادة سياسات وأفكار جديدة، عُرفت لاحقًا باسم “النسوية البيئية”. وعلى الرغم من الصورة العامة فإن موضوعات البيئة وتغيرات المناخ، هي خاصة بالطبيعة، إلا أن هناك انعكاسات أشد خطورة تقع على النساء أكثر من الرجال؛ ما يجعلنا كنسويات لا نقف وندافع عن حقوقنا وفقط؛ بل ندافع عن البيئة أيضًا.
النسوية البيئية، ما هي؟
تركز النسوية البيئية على حماية الطبيعة، وتعود جذور الحركة إلى القرن الثامن عشر بقيادة امرأة هندية تدعى أمريتا ديفي، بهدف حماية الغابات في الهند، وكانت النساء الريفيات عمادها الأساسي؛ حيث كنّ الأكثر تضررًا من إزالة الغابات التي هددت سبل عيشهن، لكونهن المسؤولات عن جمع الحطب والمياه.
وتتحمل النساء الجزء الأكبر من العمل الزراعي مقارنة بالرجال؛ سواء أكنّ مزارعات بأجر، أو يعملن في أراضٍ مملوكة لعائلاتهن؛ إذ يزرعن المحاصيل ويعتنين بالحيوانات ويجلبن الماء والحطب لاستخدامه كوقود. ومع ذلك، فإنهن يمتلكن أصولًا أقل مثل الأراضي والماشية، ولديهن فرص أقل للوصول إلى التدريب التكنولوجيات الزراعية والتأمينات والمدخلات الأساسية، كالأسمدة والبذور والتمويل. بالإضافة إلى ذلك، فهن مثقلات بالأعمال المنزلية والرعائية غير المدفوعة.
وكثيرًا ما تواجه النساء صعوبة في الوصول إلى الأرض التي تعتمد عليها في كسب الدخل وتوفير المأوى والحصول على الغذاء؛ حيث ترتبط حقوقهن عادةً بعلاقتهن بقريب ذكر؛ كالأب، الأخ، أو الزوج، ويجعلهن هذا الوضع عرضة لمخاطر التهجير والاستغلال.
وأظهرت الأبحاث أن حصول المزارعات على حقوق آمنة في الأرض، يؤدي إلى تحسين أوضاعهن، مما يجعلهن أكثر قدرة على رعاية أنفسهن وأسرهن وأراضيهن. كما يرتبط بزيادة مشاركتها في صنع القرارات الأسرية المتعلقة باختيار المحاصيل وتجهيزها وإدارتها. حسبما جاء في تقرير "هيئة الأمم المتحدة للمرأة".
كما أن استمرار توريث الأراضي من الذكور إلى الذكور، يجعل النساء المزارعات الحلقة الأضعف في المجتمعات الريفية التي تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل. في الوقت الذي يهجر فيه معظم الذكور من ملاك الأراضي حياة القرية إلى الحياة المدنية، تبقى الأراضي تحت تصرفهم. يسلط هذا الوضع الضوء على واقع مؤلم؛ حيث يعاني حوالي 783 مليون شخص حول العالم من الجوع، لكن يمكن أن ينخفض هذا العدد بشكل كبير إذا حصلت المزارعات على الحقوق والموارد التي يتمتع بها الرجال، وتم تمكينهن بشكل كامل للمساهمة في النظام الغذائي. حينها، يُظهر البحث أن بإمكان المزارعات زيادة إنتاجية أراضيهن بنسبة تتراوح بين 20% إلى 30%.
اتجاهات النسوية البيئية، ما هي؟
و للفكر النسوي البيئي تيارات كما هو الحال مع الفكر النسوي عامة، فهناك النسوية البيئية الاشتراكية والاجتماعية والروحية والثقافية، الأكثر شهرة من بين هذه التيارات، هما البيئي الروحاني الذي يركز على علاقة النساء مع البيئة، التي كانت تاريخيًا وثيقة ومبنية على التشاركية والعطاء، كانت الطبيعة والأنوثة تعاملان بنفس القدسية لقدرتهما على إنتاج الحياة، فالنساء ينجبن الأطفال والأرض تعطي خيراتها، ولكن مع مرور الوقت والاتجاه نحو الزراعة المنظمة، ونحو ثقافة أكثر هرمية، تغير التعامل مع المرأة والطبيعة، وصار يعتبر أنه من الطبيعي أن يتم امتلاكهم واستغلالهم للإنتاج، عندما بدأت تظهر أفكار ترى المرأة أقل من الرجل العاقل، وأقرب من الطبيعة والحيوان، بينما يمثل الرجل الحضارة والثقافة والقدرة على السيطرة على محيطه لمصلحة التقدم.
من جهة أخرى لدينا التيار البيئي الاشتراكي، الذي لا يتعارض مع التيار الروحاني، ولكنه لا يعتبر أن الحل يكون بترسيخ صورة نمطية ترى الأرض كامرأة، والتحضر كرجل؛ بل تركز بعامل الاستغلال بعلاقتنا مع البيئة. مفكرات هذا التيار يعتبرن أن توزيع السلطة الهرمية بالمجتمع وزيادة اهتمامنا بامتلاك الأراضي، واستخراج مواردها، كلها أدوات استخدمها النظام للهيمنة وإخضاع النساء والطبيعة.
نحن نعيش فوق إمكاناتنا، وبطبيعة الحال هناك ثمن يجب أن ندفعه، لكن الذين يتحملون هذا الثمن بشكل غير متساوٍ هم أولئك الأقل مسؤولية عن التغير المناخي والتدهور البيئي؛ خصوصًا النساء والفتيات.
كما يعتقدن أن الرأسمالية مهتمة بإنتاج الأرباح على حساب أي شيء، حتى إذا استنزفت الطبيعة من تنوعها وتماسكها، فإن النظام الأبوي كذلك يراكم أرباحه على حساب قدرة النساء الإنجابية وعملهن المجاني في المنزل والرعاية، بالإضافة إلى إن هوس الرأسمالية بالتقدم العلمي والصناعي والاستحواذ على أراضٍ جديدة، أدى إلى تدمير للطبيعة وتدمير رزق النساء اللاتي يشكلن حوالي 43% من العاملات بالزراعة في العالم الثالث، وينتجن كذلك من 60% إلى 80% من الغذاء، ويلعبن دور المشرف الرئيس على البذور والتنوع البيولوجي والزراعي مع أنهن الأقل استفادة من مخرجات هذا الإنتاج.
لماذا النساء هنّ الأكثر ضررًا؟
إن تغير المناخ ليس محايدًا بين الجنسين؛ ففي القرن الحادي والعشرين، أصبحت النساء أكثر عرضة لتأثيراته من الرجال بسبب الآثار التاريخية المستمرة للاحتلال والعنصرية وعدم المساواة. وتمثل النساء غالبية الفقراء في العالم، وغالبًا ما يعتمدن بشكل أكبر على الموارد الطبيعية المحلية للبقاء، ويعشن في مناطق تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة.
بالإضافة إلى الأثر المدمر الذي تتركه الصناعات الاستخراجية على أوطانهن، تتعرض النساء أيضًا للتداعيات السلبية الناتجة عن التجارة غير المشروعة في الألماس والذهب المستخرج من مناجم الدول الفقيرة، مما يُسهم في تمويل أنشطة الميليشيات (المورد مقابل السلاح). عند تحليل الأسباب الجذرية، يتضح أن النساء يعانين من آثار تغير المناخ بشكل غير متناسب؛ إذ إن حقوقهن الأساسية ما زالت مهددة بطرق متنوعة في البلدان النامية. إن عدم المساواة القسرية بين الجنسين يقلل من قدرة المرأة على الحركة البدنية والاقتصادية، ويحد من فرصها في العديد من المجالات، مما يجعلها أكثر عرضة للضغوط البيئية المتزايدة.
كما أن أجساد النساء أكثر عرضة للتأثيرات الخطيرة للتلوث، وتظهر الأدلة المتزايدة الطرق العديدة التي تتأثر بها النساء، بما في ذلك المشاكل الصحية البيئية الحادة التي قد تنتقل إلى الأجيال القادمة، باعتبارهن مانحات للحياة. وفي دراسة هي الأولى من نوعها، أمضى علماء من جامعة يوتا في غرب الولايات المتحدة عامين في دراسة العلاقة بين نمو الجنين وتعرض النساء الحوامل لظروف مناخية قاسية، مثل انخفاض هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. وشمل البحث الذي اعتمد على بيانات من 19 دولة أفريقية، تحليل تأثير هذه العوامل على وزن المواليد الجدد. وقد أظهرت النتائج أن انخفاض هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة يرتبطان بزيادة احتمالات ولادة أطفال بوزن أقل من 2500 غرام (حوالي 5.5 رطل).
ويواجه الأطفال الذين يولدون بوزن منخفض مخاطر صحية متعددة، منها الإصابة بالالتهابات، وصعوبة التنفس، ومشاكل في القلب واليرقان وفقر الدم وأمراض الرئة المزمنة. كما يكونون لاحقًا أكثر عرضة لمشاكل النمو والتعلم، مثل اضطرابات فرط النشاط وضعف القدرات المعرفية.
مواضيع ذات صلة
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل الصعوبات والتحديات، تثبت النساء كل يوم أن لديهن أفكارًا ومهارات فريدة وأساسية، يمكن أن تسهم في هذه المرحلة التاريخية الفاصلة التي تواجه فيها البشرية أزمة وجود، ففي أي مكان تحاول فيه قوى النفعية قطع الأشجار وتلويث الهواء والمياه وتمزيق الأرض لاستخراج معادنها، تقود النساء المقاومة في المدن والمجتمعات المحلية من أجل المياه النظيفة والهواء الصحي والأرض المثمرة.
وعلى الرغم من أن النساء في بلدان الجنوب، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يواجهن تأثيرات حادة لتغير المناخ، إلا أن هذه القضية لم تُدرج بشكل كافٍ حتى الآن ضمن أجندات المنظمات النسائية ومنظمات حقوق المرأة في المنطقة.
وتواجه المرأة العربية الريفية عدم المساواة بين الجنسين؛ حيث تهيمن الأدوار التقليدية في المناطق الريفية أكثر بكثير من الحضرية، وتشكل النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حوالي 43% من القوى العاملة الزراعية، ومع ذلك يعملن بشكل غير متناسب في أعمال غير مدفوعة الأجر أو بأجور متدنية؛ ما يجعلنا أمام ضرورة لتواجد النسوية البيئية بشكل أكبر في بلادنا.
العدالة البيئية
إن السعي النسوي لتحقيق العدالة البيئية، الذي يركز على مقاومة التدهور البيئي والحفاظ على علاقة متناغمة مع الطبيعة، يعد ردًا فعّالًا على تدهور البيئة؛ فالرأسمالية تقود استهلاكًا هائلًا لموارد كوكبنا سعيًا وراء النمو الاقتصادي اللامتناهي، مما يؤثر سلبًا على التوازن البيئي. لذا، فإن تغير المناخ والاحتباس الحراري هما من الآثار المتزايدة التي نعاني منها حاليًا. نحن نعيش فوق إمكاناتنا، وبطبيعة الحال هناك ثمن يجب أن ندفعه، لكن الذين يتحملون هذا الثمن بشكل غير متساوٍ هم أولئك الأقل مسؤولية عن التغير المناخي والتدهور البيئي؛ خصوصًا النساء والفتيات والسكان الأصليين والأشخاص ذوي الأصول العرقية والإثنية، فهم لا يعانون فقط من آثار الأضرار البيئية؛ بل أيضًا من الاضطهاد والعنف المتقاطع في سياقاتهم.
يجب أن تتمثل العدالة البيئية والنسوية في مواجهة الأزمات البيئية الراهنة، في تمكين النساء والسكان الأصليين من مقاومة الظلم البيئي، وتنفيذ أطر بديلة عادلة بيئيًا للعيش في عالم مستدام. يتحقق ذلك من خلال دعم مجموعات العدالة النسوية البيئية في الدول النامية؛ حيث إن دعم هذه المجموعات والحركات التي تقود نفسها بنفسها، والتي تنتمي إلى مجتمعات مهمشة تاريخيًا، هو الأساس لفهم أوضاعهم وإيجاد الحلول المناسبة. إن هذا هو الطريق الفعّال لإنهاء أوجه عدم المساواة، والظلم الذي تعاني منها ملايين النساء. وبفضل الموارد والدعم المناسب، يمكن إحداث التغيير المنشود.
ومن حاضنات الأشجار في حركة شيبكو في الهند إلى حركة الحزام الأخضر الكينية، ومن لجنة المصابين التي احتجت على التلوث في إيطاليا الفاشية، إلى الفلاحين في حركة لافيا كامبيسينا وسكان إيلاتشيا، الذين يحاربون إزالة قمم الجبال، تظل النساء في طليعة المجتمعات المحلية في نضالهن ضد تدمير البيئة الذي يمارسه النظام الرأسمالي. عبر نضالهن، يواجهن قوى فاعلة قوية مثل الشركات والحكومات. ليس المهم أن يكن نسويات بيئيات أو ناشطات؛ بل الأهم هو أنهن يقاومن إساءة استخدام السلطة من قبل الشركات و سلطة الدولة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.