مضت أسابيع دون انقطاع التيار الكهربائي في الحي الذي يعيش فيه أحمد في العاصمة المصرية القاهرة، لكن ما زال بعض القلق يُساوره كلما جاء موعد الاجتماع الافتراضي -online- الأسبوعي في عمله مع شركة أجنبية عن بعد، بسبب انقطاع الكهرباء في توقيت الاجتماع مرات عدة خلال الأشهر الماضية، التي شهدت خطة الحكومة لتخفيف الأحمال، بعد تراجع إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد. اليوم، يُمنّي الشاب الأربعيني نفسه بصدق وعود الحكومة هذه المرة، بالحلّ النهائي لأزمة الكهرباء، لكن قلقًا آخر يساوره حول الثمن الذي سيدفعه، جراء تطبيق زيادات جديدة في أسعار الكهرباء.
مُحاطًا بالقلق، يتذكر أحمد بمرارة، الدعاية الكبيرة التي عرفتها البلاد منذ عام 2015، الذي شهد اكتشاف حقل غاز ظُهر في البحر المتوسط، وما لازم ذلك من وعود بعائدات بمليارات الدولارات من تصدير الغاز إلى أوروبا العطشى لغاز شرق المتوسط، لينقذها من سيطرة الغاز الروسي. تتشابه قصة أحمد مع ملايين غيره، ممن علقوا الآمال على تحسن الوضع الاقتصادي من خلال عائدات غاز شرق المتوسط، الذي طالما تغنى الإعلام بضخامته، وأثار النقاشات عن التحولات التي سيحدثها في سوق الطاقة العالمي، لكن خبر استيراد مصر لشحنات غاز مسال لحلّ أزمة الكهرباء أيقظه وغيره من كل هذه الأماني.
وفي ظل حالة اللايقين، ما زال سؤال مستقبل الغاز في مصر يشغل بال الكثيرين، وهو ما تحاول قصتنا المدفوعة بالبيانات استكشافه.
تعود بداية الآمال الكبيرة حول غاز شرق المتوسط إلى عام 2010، حين نشرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) دراستين حول موارد الغاز والنفط غير المكتشفة في شرق المتوسط، واستكشفت الأولى حوض الشام أو المشرق (Levant Basin)، والثانية حوض دلتا النيل (Nile Delta Basin)، وتضمنت الدراستان تقديرات حول حجم الثروات الطبيعية، القابلة للاستخراج فنيًا.
وبناءً على نتائج الدراستين، رفعت دول في المنطقة من آمالها بشأن ثروات الغاز، وعلى سبيل المثال ذكر موقع الهيئة العامة للاستعلامات الحكومي في مصر أنّ احتياطات الغاز في شرق المتوسط الذي وصفه بـ”ثاني أكبر احتياطي من الغاز على مستوى العالم”، تُقدر بنحو “300 تريليون قدم مكعب من الغاز، (8.5 تريليون متر مكعب)”. كما ذكرت الهيئة أنّ “الدول الأعضاء في منتدى “شرق المتوسط” تملك احتياطيات تبلغ 162 تريليون قدم مكعب (4.5 تريليون متر مكعب)”.
لكن ما يدعو للتساؤل أنّ معظم وسائل الإعلام التي تناقلت تقديرات هيئة المسح الجيولوجي، وخاصة عن حوض المشرق، لم تُراجع ما تتابع نشره ليتوافق مع دراسة أحدث صدرت عن الهيئة عام 2020، تضمنت تقديرات جديدة أقل بكثير بشأن احتياطيات النفط والغاز في حوضي المشرق ودلتا النيل، وأحواض ومناطق جديدة تغطي كامل المياه الاقتصادية والإقليمية لمصر، ومعظم منطقة شرق المتوسط.
لتبيان الحقائق حول احتياطيات شرق المتوسط، توضح الرسوم البيانية التالية نتائج دراسات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، لعام 2010، وهي النتائج التي استند الجميع إليهم في تصوراتهم عن الثروات الهائلة من الغاز والنفط لشرق المتوسط، وتقارنها بتقديرات نفس الجهة في دراسة أحدث صدرت عام 2020، ويتناول الأول تقديرات الغاز الطبيعي في حوض المشرق أو الشام.
ينبغي الأخذ في الاعتبار ما يلي لفهم هذه النتائج؛ أولها أنّها تقديرات عامة بناءً على دراسات وأبحاث منشورة، ولم تُجر الهيئة بمعرفتها مسوحات وأعمال استكشاف متخصصة، كما تنقسم التقديرات إلى ثلاث فئات؛ الأولى محتمل وجودها بنسبة 95%، وأخرى بنسبة 50%، وثالثة بنسبة 5%، ثم متوسط مبني على هذه النتائج، دون إشارة إلى الجدوى الاقتصادية لعمليات الاستكشاف والتنقيب والاستخراج، والتي تعتمد على مقاييس أخرى.
تكشف البيانات عن الاختلاف الكبير في تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية؛ حيث خُفضت التقديرات لحوض الشام في دراسة 2020 بمقدار الثلث. وفيما يتعلق بحوض دلتا النيل، يوضحه الرسم التالي.
خُفضت التقديرات لحوض دلتا النيل بأكثر من الثلث، وحدث الأمر ذاته في تقديرات النفط، وتقديرات مكثفات الغاز، ويوضح الرسم التالي اختلاف تقديرات النفط بين دراستي 2010 ودراسة 2020، علمًا أنّ هذه التقديرات لا ترتبط بالجدوى الاقتصادية للاستخراج.
يتضح تخفيض تقديرات البترول (النفط) في حوض الشام بين دراستي 2010 و2020 إلى الخمس، هبوطًا من 1.6 مليار برميل إلى 306 مليون برميل، وفيما يلي رسم بياني حول ذات التقديرات في دلتا النيل.
وصل تخفيض تقديرات البترول إلى الثلثين في حوض دلتا النيل. تجدر الإشارة إلى أنّ معظم وسائل الإعلام والباحثين استخدموا بيانات حوض الشام كمرادف لمنطقة شرق المتوسط؛ في حين أنّ الأخيرة منطقة جغرافية أكبر، تضم جزءًا من تركيا، وأجزاء واسعة من دول قبرص واليونان ومصر والأردن وسوريا ولبنان وإسرائيل وفلسطين.
سمكة صغيرة في محيط غازي
لم يسلم ملف الثروات البحرية من الاستقطاب الحاد الذي عرفته المنطقة على مدار الأعوام الماضية؛ خاصة منذ الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، بعد احتجاجات شعبية كبيرة؛ في يونيو/ حزيران 2013.
وعلى سبيل المثال، وظفت قناة “الجزيرة” الغاز لمهاجمة السلطات المصرية، وعرضت قناة “الجزيرة مباشر” تقريرًا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، جاء فيه أنّ “احتياطيات حوض شرق المتوسط تبلغ 122 تريليون قدم مكعب من الغاز، و1.7 مليار برميل نفط”، وروجت القناة لهذه التقديرات كأنها حقائق، كما خلطت -ما زال الخلط مستمرًا- بين حوض المشرق ومنطقة شرق المتوسط ككل. اللافت في التقرير هو ترويج القناة لمعلومات مضللة عن سيطرة إسرائيل وقبرص على ثلاثة حقول غازية ضخمة؛ في منطقة مصر الاقتصادية الخالصة، وقدرت القناة احتياطيات هذه الحقول بـ 36 تريليون قدم مكعب، والأشد غرابةً أنّها قدرت قيمتها الاقتصادية بـ 240 مليار دولار.
جدير بالذكر أنّ هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية في دراسة عام 2020 قدمت تقديرات عن ثروات جغرافيا واسعة في شرق المتوسط، تضم حوضي المشرق ودلتا النيل، ومناطق أخرى هي؛ خزان إراتوستينس ((Eratosthenes Platform Reservoirs AU، وحوض هيرودوت (Herodotus Basin Reservoirs AU)، وخزانات جبال البحر المتوسط (Mediterranean Ridge Reservoirs AU). ويعبر مجموع تقديرات ثروات كل هذه المناطق عن مجمل تقديرات الهيئة لثروات شرق المتوسط، وجاء متوسطها -احتسبته الهيئة- في الغاز بنحو 286 تريليون قدم مكعب تقريبًا، وفي النفط نحو 879 مليون برميل. لم تواكب وسائل الإعلام المحلية والعربية والمسؤولون، التعديلات الواسعة التي أدخلتها الهيئة على توقعاتها لشرق المتوسط، وظل العديد من المسؤولين المصريين السابقين والحاليين يروجون لهذه التقديرات على أنّها حقائق.
كان “أحمد” كغيره من المواطنين في العديد من دول شرق المتوسط منشغلًا بمتابعة ملف الغاز الطبيعي، ومتخوفًا من التوترات المتزايدة بسبب بعثات الاستكشاف التركي في مياه دولة قبرص، والتي اعتبرت انتهاكًا لسيادة الدولة العضو في منتدى غاز شرق المتوسط، الذي رعت القاهرة تأسيسه في 2019.
في تلك الأثناء، كان كل شيء يُبرر بغاز شرق المتوسط، مثل صفقات الأسلحة الضخمة التي قيل إنها لحماية الثروات البحرية، وتوقيع اتفاقيات التعاون العسكري، وتنظيم المناورات العسكرية المشتركة، وانخرط الإعلام بقوة في تأجيج تلك التصورات. يتذكر أحمد عنوان مقال في موقع “الجزيرة نت”، يقول: “هدية الرب أم فخ الشيطان؟”.. مصر وتركيا وإسرائيل على صفيح غاز المتوسط”، وآخر من قناة “الحرة” يقول: “لماذا يهدد الصراع في شرق المتوسط باندلاع حرب أوروبية شرق أوسطية؟”.
اختفى القلق من اندلاع حرب حول الغاز لدى أحمد مثل غيره من المواطنين، حين هدأت التوترات الإقليمية، التي تزامنت مع خفوت الأحلام حول غاز شرق المتوسط؛ خاصة حين سحبت تركيا سفن الاستكشاف من مياه قبرص، معلنة بهذا عدم جدوى البحث عن الغاز في مياه الجزيرة؛ بل إنّ حقول الأخيرة لم تدخل مرحلة الإنتاج بعد، رغم مرور أكثر من 13 عامًا على اكتشاف أول حقولها الغازية.
ثم جاءت زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في فبراير/ شباط 2024، لتدشن عهدًا جديدًا من العلاقات الإقليمية، لا يحتل الغاز الطبيعي المكانة الأولى فيها.
بالنسبة لأحمد وغيره فمعرفة واقع الغاز في شرق المتوسط مفتاح لفهم العديد من التحولات في علاقات مصر وتركيا، وتهدئة الأخيرة للتوترات مع قبرص واليونان. يتذكر أحمد في هذا السياق تصريحات وزير البترول السابق، أسامة كمال؛ في لقاء تلفزيوني بتاريخ أكتوبر/ تشرين الأول 2021، والذي قال فيها: “الدنيا مليانة غاز”، ويعيد مشاهدة مقطع الفيديو الذي يقول فيه عن احتياطيات شرق المتوسط: “هي بين 200 – 400 تريليون قدم مكعب”، ولتبيان ضخامة الثروات قال الوزير السابق: “احتياطي الغاز لمصر 80 – 82 تريليون قدم مكعب، واستهلاكنا 3 تريليون قدم مكعب سنويًا، ولهذا لدينا 27 عامًا من الاحتياطات”.
لطالما صدق أحمد وغيره مثل هذه التصريحات الصادرة عن واحد من كبار المسؤولين عن قطاع البترول والغاز في مصر، لكن ما لم يوضحه الوزير السابق أنّ الاحتياطات المؤكدة لا تساوى القابل للاستخراج؛ بل الأخير هو نسبة من احتياطيات الحقول، كما أنّ حديث الوزير السابق عن 80 – 82 تريليون قدم مكعب من الاحتياطيات المؤكدة يخالف البيانات الدولية والرسمية.
يوضح الرسم التالي احتياطيات الغاز المؤكدة في دول شرق المتوسط حتى نوفمبر/ تشرين الأول 2022، باستثناء لبنان وقبرص لغياب البيانات، ولم يطرأ تغيير في عامي 2023 و2024، علمًا أنّ قبرص اكتشفت حقولاً واعدة، ولكنها ما زالت تقديرات، ولا يمكن احتسابها احتياطيات مؤكدة حتى انتهاء تقييم مخزون الحقول، وهو الأمر الذي فترت حماسة الشركات الدولية تجاهه، لأسباب فنية واقتصادية.
يتبين أنّ مصر تمتلك نحو 90% من إجمالي احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في شرق المتوسط، وتليها إسرائيل بقرابة 9%، ثم الأردن وتركيا واليونان بنسبة 0.6 للجميع. ويوضح الرسم التالي نسبة هذه الاحتياطات إلى نظيراتها في دول العالم.
يظهر أنّ حجم الاحتياطيات المؤكدة لدول شرق المتوسط من الغاز الطبيعي صغيرة جدًا بالنسبة الاحتياطيات المؤكدة على مستوى دول العالم، وتساوي أقل من نصف احتياطيات الجزائر، المقدرة بنحو 159 تريليون قدم مكعب.
أين اختفى منتدى غاز شرق المتوسط؟
وبافتراض صدق ما نشرته الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، بأنّ “الدول الأعضاء في منتدى – شرق المتوسط – تملك احتياطيات تبلغ 162 تريليون قدم مكعب (4.5 تريليون متر مكعب)”؛ فإنها ستزيد بقليل عن احتياطات دولة واحدة، وهي الجزائر، بنحو ثلاثة تريليونات قدم مكعب فقط، وليس هناك ما يدعم ما نشرته الهيئة.
إلى ذلك، يتكشف واقع إنتاج وتصدير الغاز في شرق المتوسط من خلال بيانات الإنتاج والتصدير لمصر وإسرائيل فقط، دون حاجة لإضافة الدول الأخرى التي تنتج كميات ضئيلة للغاية، وتوضح البيانات واقع إنتاج الغاز في شرق المتوسط، مقارنةً بدولة الجزائر، التي تعتبر من أقدم منتجي ومصدري الغاز الطبيعي في جنوب المتوسط.
يكشف الرسم السابق عن تراجع إنتاج مصر من الغاز الطبيعي، واستمرار نمو إنتاج إسرائيل؛ في حينٍ ما تزال الجزائر تنتج كميات أكبر من مجموع مصر وإسرائيل، باعتبارهما يمثلان غاز شرق المتوسط.
مثّل تراجع إنتاج مصر من الغاز خيبة أمل لدى أحمد، الذي كان مثل مع غيره من ملايين المصريين حتى عامين سابقين، حين شنت روسيا الحرب على أوكرانيا، يظنون أنّ الفرصة جاءت لمصر لتتحول إلى لاعب كبير في تأمين واردات أوروبا من الغاز الطبيعي، لكن حين برر المسؤولون انقطاع الكهرباء بتراجع إنتاج الغاز، ثم حين اتخذوا قرارًا باستيراد الغاز الطبيعي لتلبية الاستهلاك المحلي، أفاق أحمد من الأحلام التي طالما روجها مسؤولون مصريون عن تخفيف أزمة الطاقة في أوروبا.
يظهر من هذا الرسم البياني، تفوق صادرات الجزائر بفارق كبير جدًا عن صادرات مصر وإسرائيل، كما يتضح تراجع صادرات مصر، لتتفوق عليها إسرائيل في العام 2023، ويتطلب فهم واقع وتغيرات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط تسليط الضوء على مصر وإسرائيل، باعتبارهما الدولتين المنتجتين والمصدرتين في شرق المتوسط، من حيث الإنتاج والاستهلاك والصادرات، وهو ما يظهر في الرسم التالي.
يتكشف أنّ مصر حققت أعلى إنتاج في تاريخها في عام 2021، بواقع 70.4 مليار متر مكعب، تبعه تراجع مستمر، يربطه خبراء بتراجع إنتاج حقل ظهر لأسباب فنية؛ فيما تحقق إسرائيل نموًا ثابتًا في الإنتاج منذ العام 2019.
يصطدم تراجع إنتاج الغاز في مصر بتصريحات الرئيس السيسي في عام 2019، الذي قال فيها: “أقدر أقول إننا ماشيين بشكل جيد جدًا في قطاع البترول والغاز، وتقريبًا لم يعد عندنا مشكلة في قطاع الغاز؛ لا في الاكتفاء الذاتي، ولا التصنيع، ولا الصناعة أو التصدير، ونتمنى نحقق دا في البترول خلال الفترة القادمة”. لم تمض أربعة أعوام على تصريحات السيسي حتى انقلب كل شيء رأسًا على عقب، وعادت البلاد لاستيراد الغاز ثانيًة.
تحولت مصر من تحقيق فائض في الإنتاج بعد تلبية الاستهلاك، إلى عجز في الإنتاج اضطرها للاستيراد لسد فجوة الاستهلاك المحلي، ويتناول الرسم البياني التالي واقع صادرات الغاز في شرق المتوسط.
تفوقت صادرات الغاز من إسرائيل في عام 2023 على مصر للمرة الأولى في تاريخها؛ في حين حققت مصر في عام 2009 أعلى صادرات في تاريخها، والأعلى حتى اليوم في تاريخ صادرات شرق المتوسط، وبالوضع في الاعتبار أنّ مصر تعيد تصدير جزء من صادرات إسرائيل إليها منذ 2020، لهذا لا يصح جمع صادرات البلدين دون طرح ما أعادت مصر تصديره من غاز إسرائيل، وبناءً على ذلك يظل عام 2009 الأعلى في تاريخ صادرات شرق المتوسط.
انتقالًا إلى مصر، يوضح الرسم البياني التالي واقع الغاز في مصر، من خلال ثلاثة محاور، وهي؛ الإنتاج والاستهلاك والصادرات.
يتضح أنّ تراجع الإنتاج في مصر عام 2023 خلق فجوة، اضطرت البلاد لسدها من الغاز المستورد من إسرائيل؛ في حين أنّ الاستهلاك تراجع بشكلٍ طفيف عام 2023، ولهذا فمشكلة انقطاع الكهرباء لا تعود لارتفاع الاستهلاك بحسب بيانات 2022 و2023؛ حيث تراجع الاستهلاك عن 2021 الذي سجل أعلى استهلاك من الغاز في تاريخ مصر، وهي تعود إلى الانخفاض الكبير في الإنتاج.
مصر: الحاجة لمنهج مختلف
تقود البيانات السابقة إلى عدة خلاصات، وهي: أنّ إنتاج واستهلاك مصر من الغاز شهد تراجعًا بعد العام 2021، الذي مثل الذروة فيهما، ويعود ذلك إلى انخفاض إنتاج حقل ظهر، لأسباب فنية كما يقول بعض الخبراء. وثانيها أنّ هناك تضخيمًا إعلاميًا ممنهجًا فيما يخص إنتاج وتصدير الغاز، شهدته مصر خلال الأعوام الأخيرة، ويكشف عن ذلك أنّ أكبر الإنجازات في التصدير تحققت عام 2009.
يعلق أستاذ هندسة البترول في جامعة فاروس بالإسكندرية، رمضان أبو العلا، الذي استندت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية على إحدى دراساته في عملها عن حوض دلتا النيل عام 2010، بالقول إنّ “حلم التحول إلى دولة مُصدرة للغاز كان حقيقيًا، لكن سوء التقدير من المسؤولين تسبب في معاناة تحولنا إلى مستوردين”. ويضيف لـ”مواطن” إنّنا “عشنا في حلم التصدير، وتوقفنا عن تنمية الاحتياطيات، وكان على المسؤولين تحقيق اكتشافات أخرى لا تقل عن حجم حقل ظهر؛ في أكثر من منطقة استكشاف، ومن خلال شركات دولية تحقق المنافسة مع شركة إيني، لنستفيد من تنمية مواردنا وإنتاجنا دون الضغط على أحد الحقول، وهو الأمر الذي كان كفيلًا بتجنب المشاكل التي يعانيها هذا الحقل مؤخرًا”.
كما يلفت “أبو العلا” إلى أنّ “إنتاج الثروات الطبيعية ليس عملية فنية فقط؛ بل لها أبعاد اقتصادية وسياسية، ولهذا ينبغي إسناد المسؤولية إلى قيادة تجمع بين إدراك هذه الأبعاد، مع منحها الاستقلالية في اتخاذ القرار، اعتبارًا لما يحقق مصلحة الوطن ويحافظ على استدامة الإنتاج”. ويختتم حديثه بقوله إنّ “النهج الصعب المطلوب، الذي لم يُقدم عليه وزير حتى اليوم، هو الاعتماد على شركات وطنية إلى جانب الشركاء الأجانب في استكشاف وإنتاج الغاز الطبيعي، وهو الأمر المطلوب لتقليل اقتسام العائدات مع شركات أجنبية، وزيادة حصة الدولة من العائدات”.
في سياق أوسع، يذهب الباحث في الاقتصاد السياسي المقيم في لندن، محمد صالح الفتيح، إلى أنّ المسؤولين في دول منطقة شرق المتوسط تعاملوا مع تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية عن ثروات شرق المتوسط على أنّها احتياطيات مؤكدة؛ في حين أنّها تقديرات وتخمينات، غير مبنية على عمليات استكشاف ومسوح متخصصة. ويرجع في حديثه لـ”مواطن” الاهتمام الإعلامي والسياسي في المنطقة بملف الغاز، إلى العديد من الأسباب؛ منها ما يخص الاهتمام الأوروبي النابع من مبدأ الاستعانة بكل المصادر البديلة المحتملة للغاز الروسي؛ سواء أكانت قليلة أم كبيرة، وهذا سبب اهتمامهم بالتعاون مع دول شرق المتوسط، وفق قوله.
ويتابع: “إنّ دول المنطقة لها دوافع مختلفة؛ منها من يقترض اليوم ويزعم أن غاز الغد سيسدد، ومنها من استخدم ملف ثروات الغاز لشغل الرأي العام عن تورطه في نزاعات إقليمية مثل تركيا في ليبيا، وهناك دول انخرطت بالنقاش لأنها ترفض من حيث المبدأ أن تكون غائبة عن أي عرس، حتى لو لم يكن هناك عرس فعلًا”.
ويختتم بقوله: “بالنسبة لي طالما وجدت الحديث عن لعبة الطاقة في المنطقة مستفزًا لسببين: الأول، كثرة الصحفيين الكسالى، خصوصًا في إعلام الممانعة، ممن وجدوا فيه مفتاحًا لتحليل أي شيء بدون بذل أي جهد، والثاني، أن لعبة الطاقة باتت شماعة للأنظمة السياسية الفاسدة للقول بأن كل ما يحصل من خراب في بلادهم هو جراء لعبة الطاقة، وهم أبرياء من الخراب والفساد براءة الذئب من دم يوسف”.
مضت أيام منذ تطبيق الحكومة الزيادات الجديدة في أسعار الكهرباء، والتي بررتها وسائل إعلام مملوكة للحكومة بأنّ الكهرباء في مصر ما زالت من أرخص دول العالم، وذلك باحتساب سعرها إلى الدولار مقابل الجنيه، ولكن ما يفكر فيه أحمد وملايين غيره أنّ رواتبهم لم ترتفع لتواكب ما حدث من انخفاض شديد في سعر الجنيه منذ عام 2016.
توضح البيانات زيادات أسعار الكهرباء لعدد من الشرائح خلال أعوام منتقاه منذ 2010، ويكشف عن ارتفاع سعر الشريحة الدنيا بنسبة 1260% في 2024 عن عام 2010.
ختامًا، وُظف الحديث عن غاز شرق المتوسط في صراعات المحاور الإقليمية منذ الربيع العربي حتى وقتٍ قريب، واستُغل لتشويه دول، وإثارة غضب شعوب ضد حكوماتها، كما استخدم كرافعة لآمال شعوب في الخلاص من أزماتها المالية الطاحنة، لكن ليس بالأماني يُستخرج الغاز، وتتحول الدول إلى مراكز إقليمية للطاقة.