“دعم بلا حدود أو قيود”.. هذا ما يمكن أن يصف المساندة الغربية لإسرائيل، وفي القلب منها الولايات المتحدة التي سارعت منذ السابع من أكتوبر 2023 إلى فتح أبواب مخازن أسلحتها “الذكية” و”التقليدية” على مصاريعها للجيش الإسرائيلي الذي لم يتوان عن استخدامها ضد النساء والأطفال العزل، وإسقاطها على رؤوسهم في المخيمات والمدارس بقطاع غزة، ولم تسلم منه المساجد والكنائس والجامعات والمستشفيات، لتسفر حرب الإبادة عن أكثر من 42 ألف قتيلًا بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية.
شكّل هذا الدعم شكل صدمة لدى الليبراليين العرب الذين كانوا ينظرون إلى الدول الغربية على أنها ملجأ لحقوق الإنسان والحريات والمساواة بين كل البشر، بلا تمييز بين لون أو جنس أو عقيدة، واتضح أنه حين تتعارض القيم الغربية مع مصالح هذه الدول وعلاقتها مع إسرائيل، يظهر الوجه المغاير لتلك الدول، التي تُفرق بين الدم العربي والإسرائيلي؛ فمقابل الإدانة الواسعة لمقتل 1200 إسرائيلي، غضت الدول الغربية أعينها عن مقتل عشرات الآلاف جراء المجازر الجماعية في غزة، وكانت الملاحظات الغربية لإسرائيل هي محاولة مراعاة القانون الدولي الإنساني، وهو ما لم تلق له تل أبيب بالًا.
وبرغم صدور مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي من جانب المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن نتنياهو يتحرك بحرية وكأن قرارات المحكمة الدولية لا تنطبق إلا على الأفارقة ودول العالم الثالث، بحسب التصريحات الإسرائيلية، وفي ظل التغاضي الغربي للانتهاكات الإسرائيلية؛ سواء أكان في غزة أو لبنان، لم يتوان الجيش الإسرائيلي عن قصف مواقع قوات اليونيفيل على الحدود اللبنانية؛ بل وصل الأمر إلى تقدم الدبابات نحو مواقع اليونيفيل واحتلالها، وخرج نتنياهو ليطالب صراحة بسحب هذه القوات من الحدود لتفسح المجال لتقدم الجيش الإسرائيلي.
ووسط كل هذه الانتهاكات، يجد الليبراليون العرب والمسلمون أنفسهم أمام سؤال وجودي حول جدوى هذه المبادئ، التي لم تحم مناصريها من بطش القوة العسكرية الإسرائيلية، ومدى تمسك الدول الغربية بهذه القيم التي يحاولون جاهدين نشرها في كل دول العالم، وعلى رأسها الدول العربية، والسؤال الثاني؛ كيف سيساهم هذا الانحياز في تراجع القيم الديمقراطية في الشرق الأوسط؟
إنكار القيم الليبرالية
قالت صحيفة “فورين بوليسي“؛ في تقرير لها: “إن هناك مستوى غير مسبوق من الغضب ضد الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وحتى العالم الإسلامي الأوسع نطاقًا، وهو ما قد يخلف عواقب طويلة الأمد، وقد يكون أسوأ كثيرًا من تأثير الغزو الأميركي واحتلال العراق في عام 2003، لأن المذبحة التي ألحقتها إسرائيل بغزة تبدو أسوأ كثيرًا من أي شيء حدث أثناء التدخلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، وينظر العديد من المسلمين إلى ما يقوله القادة الغربيون؛ مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن كل هذا؛ فكل ما يسمعونه هو عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، كل ما يرونه هو المزيد من الدولارات الأمريكية والأسلحة التي تُمنح لحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة لمواصلة الحملة”.
في الحرب الأخيرة، ضربت إسرائيل عرض الحائط ببنية القانون الدولي واتفاقيات جنيف وغيرها من اتفاقيات، وما نتج عنها من مجموعة ضخمة من الاتفاقيات والإعلانات الدولية التي تعرف بالقانون الدولي
وأشارت “فورين بوليسي”، إلى أنه بالنسبة للعديد من الناس، وخاصة في العالم الإسلامي، يبدو أن الإجابة هي أن حياة الإسرائيليين أكثر أهمية، وأكثر بكثير، من حياة الفلسطينيين، ويبدو هذا وكأنه إنكار تاريخي للقيم الليبرالية التي دافعت عنها الحكومات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: حقوق الإنسان العالمية والكرامة المتأصلة لكل حياة بشرية. قد يقول البعض إن هذه المثل العليا النبيلة، لم يتم السعي إليها بالكامل أبدًا؛ حيث أدت المصالح الوطنية والتحالفات والنفاق غالبًا إلى معايير مزدوجة.
وحذرت من أن فقدان الثقة في المعايير الغربية، لا يؤثر فقط على أولئك الذين يميلون بالفعل إلى معاداة أميركا أو انتقاد النظام الذي يقوده الغرب، ومن بين هؤلاء المسلمون ذوو الميول الليبرالية الذين طالما أعجبوا بالقيم السياسية للغرب وأشاروا إليها في كثير من الأحيان، ولكنهم يشعرون الآن أن حامل اللواء قد خان مبادئه الخاصة.
بدوره يقول عضو الحزب الديمقراطي الأميركي، الدكتور مهدي عفيفي: “إن الحرب على غزة فضحت النظام العالمي، والذي أثبت أن هناك نوعين من المبادئ، نوعًا يطبق على إسرائيل والدول الغربية، وآخر يطبق على سائر دول العالم، وكل ما تعلمناه وسمعناه عن مبادئ حقوق الإنسان والليبرالية واحترام القانون الدولي ضربت به إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والدول الغربية عرض الحائط وكأنها لم توجد من الأساس؛ فلذلك أعتقد أن انتشار القيم الليبرالية في هذا الوقت أصبح يواجه تساؤلات كثيرة؛ فكيف يمكن أن تنتشر هذه القيم وهي تطبق بمقاييس مختلفة”.
وأضاف عفيفي، لـ”مواطن”: “أعتقد أن هناك مشكلة كبيرة اليوم في تعريف الليبرالية وحقوق الإنسان، وكيف تطبق وعلى من تطبق؟ وهذه هي المشكلة التي ستواجه الأجيال القادمة التي رأت ما يحدث؛ خاصة داخل هذه الدول التي فيها أقليات مختلفة، لأن ما طبقته إسرائيل يمكن أن يحدث مثله للأقليات في الدول الغربية ذاتها، والدول الغربية تتحدى المجتمع الدولي وتواصل تقديم العون والأسلحة لإسرائيل التي ترتكب الجرائم على مرأى ومسمع من العالم، ووصل السقوط إلى الإعلام الغربي التي تم تكميم أفواهه، وغاب عنه الوضوح والصراحة ونشر الحقيقة، لذلك فهناك من التخبط بين ما هو حقيقي وما هو مخصص فقط لنوعية معينة من الناس، ومن هنا تظهر العنصرية الشديدة في التعامل مع مختلف أنواع البشر”.
ويرى أن “ما رأيناه يحدث في غزة ولبنان سيضر لا محالة بصورة القيم الليبرالية في الوطن العربي والتي -في قطاع كبير منها- تراه يتعارض مع قيمها الأخلاقية، وما زاد الطين بلة، عدم التزام الغرب ذاته بقيمه الليبرالية، وتضررت هذه القيم بشكل كبير من السياسات المنحازة لإسرائيل، ولكن هناك من الوعي والصحوة؛ سواء أكان في الدول العربية أو الغربية مما تقوم به إسرائيل، ولكن سيطرة اللوبي الصهيوني على الحكومات الغربية ما زال قائمًا، ولكنْ هناك تراجع واضح في هذا النفوذ”.
علامات استفهام
المدافع البحريني عن حقوق الإنسان، عبد النبي العكري، يقول: “إن إسرائيل قامت على فكرة دينية، وهي جمع شتات اليهود، وتبلورت الفكرة في منتصف القرن الثامن عشر ثم نهاية القرن التاسع عشر، وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد ساهمت كل دول الغرب في هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة، ثم تسليحها حتى قيام دولة الاحتلال في 1948 بدعم كامل من الغرب”.
وأضاف العكري، لـ”مواطن”، أن الحرب على غزة مضى عليها أكثر من سنة، ولن تكون الأولى ولا الأخيرة؛ فهذا الكيان في حروب منذ نشأته، وفي الحرب الأخيرة، ضربت إسرائيل عرض الحائط ببنية القانون الدولي واتفاقيات جنيف وغيرها من اتفاقيات، وما نتج عنها من مجموعة ضخمة من الاتفاقيات والإعلانات الدولية التي تعرف بالقانون الدولي، وما يحدث هو خرق فاضح لها؛ حيث إن إسرائيل كدولة معفاة من القانون الدولي ولديها حصانة، ولم ينفذ ضد قادتها أي استدعاء دولي برعاية وحماية من الدول الغربية.
وتشهد هذه الحرب مشاركة غربية كاملة، نحن أمام وضعية غريبة تضع علامة استفهام كبيرة بسبب الانحياز الغربي لكيان مارق من المحاسبة، وهو ما ينعكس سلبًا على الاتجاه الليبرالي، لأن هذا التيار قوي في الغرب، وهذا السلوك من قبل هذه الدول بدعم إسرائيل بشكل مطلق يجعل هذه المبادئ محل تساؤل؛ هل هي فعلًا ليبرالية أم عنصرية؟ وما يتضح الآن هو عنصرية واضحة، وكل الشعوب التي كانت تناضل من أجل الاستقلال وضعت كثيرًا من آمالها على الشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان، تجعل هذه الشعوب تتساءل حول هذه المبادئ والتزام الغرب بها واحترام مؤسساته، أم إنها انتقائية كما يحدث مع إسرائيل والدول الغربية، وكما حدث داخل الدول الغربية في الاحتجاجات ضد إسرائيل التي تقابل بالقمع، وتخرج قوانين تجرم معارضة إسرائيل وتمنع الرموز الفلسطينية التي أصبحت مجرمة، بحسب العكري.
تناقض القيم
ويرى تقرير لمركز البحوث الاستراتيجية والمعاصرة “مقره إسلام آباد”، أن الصراع الأخير في غزة يسلط الضوء على النهج الانتقائي للعالم الغربي تجاه انتهاكات حقوق الإنسان، مما يثير الشكوك حول صدق القيم الغربية، وأن التناقض الغربي واضح في استجاباتهم المختلفة؛ حيث يدينون حماس؛ بينما يتعاملون مع إسرائيل بتساهل، ويتم الثناء على الأوكرانيين الذين يقاومون الغزو الروسي، ولكن يتم التشهير بالفلسطينيين الذين يتحدون الفصل العنصري.
يؤدي استمرار إسرائيل في العدوان على غزة، على الرغم من الدعوة إلى وقف إطلاق النار، إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، في حين يهدد دعم الحكومات الغربية بتقويض مصداقية النظام العالمي الليبرالي
إن المشهد المتطور للعلاقات الدولية يتجاوز الانقسام التقليدي بين الشمال والجنوب، والذي ترسخ في الإرث الاستعماري التاريخي، ليكشف عن تفاعل معقد بين مصالح الدول التي تتحدى التصنيف الليبرالي وغير الليبرالي؛ ففي الديمقراطيات الغربية، تم الكشف عن تآكل القيم الليبرالية والتناقضات المتأصلة بين القيم المعلنة والممارسات الفعلية، وخاصة في حالة إسرائيل وفلسطين، التي كشفت عن أزمة المصداقية التي تقوض أسس النظام العالمي الليبرالي، بحسب تقرير المركز.
ويؤدي استمرار إسرائيل في العدوان على غزة، على الرغم من الدعوة إلى وقف إطلاق النار، إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، في حين يهدد دعم الحكومات الغربية بتقويض مصداقية النظام العالمي الليبرالي. وعلى الرغم من الأدلة الواسعة النطاق على جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل؛ فإن الاستجابة المتأخرة والمحدودة من الغرب؛ خاصة الولايات المتحدة، تعتبر غير كافية وتفشل في استعادة المصداقية التي تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه.
بينما يقول تقرير للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية: “إن الدعم الأمريكي “اللامحدود” لإسرائيل، والالتزام التاريخي بحمايتها، والذي انعكس في انحياز تام وواضح مع ما ترتكبه إسرائيل من جرائم ومجازر بحق المدنيين في قطاع غزة، يواجه مجموعة من المعضلات التي تفرض حدودًا وربما قيودًا بشأنه، وهو ما يعني أن هناك فرصًا –ولو محدودة– لدفعه ليصبح أكثر اعتدالًا، وربما أكثر اتزانًا، ولكن حال تجاهلت واشنطن هذه المعضلات، أو فشلت في التعامل معها، سيعني ذلك أن دور واشنطن لن يتضرر فقط على الساحة الإقليمية، وإنما سيتضرر أيضًا على الساحة الدولية.