غالبًا ما يرى النقاد أن الأنظمة القبلية الأبوية متخلفة بسبب عدة عوامل؛ مثل عدم المساواة بين الجنسين، وما يتبعه من تهميش النساء في أدوار تابعة للذكور، مما يحدّ من فرصهن في التعليم والوظائف والثروة، كذلك مسألة الركود الاجتماعي والاقتصادي؛ حيث إن هذا الاستغلال الاقتصادي والمقاومة للتحديثات التي طرأت على العالم آخر 200 عام فيما يخص حقوق المرأة، يعيقان التقدم الاجتماعي والاقتصادي، كذلك فالتمسك بالثقافات القديمة والأعراف البالية ومقاومة العدالة والمساواة بين الجنسين، يساهمان في الركود الثقافي وترسيخ سلطة العنصريين ورجال الدين المتشددين، وكرد فعل على الاستعمار ومقاومة حملات التغريب، طرأت عوامل ساعدت في تقوية النظام الأبوي باعتباره البديل عن النظام التقليدي الغريب الذي يدعمه الاستعمار.
مع ذلك وفي ظل هذا الكمّ من الانتقادات، توجد أمثلة على التقدم داخل الأنظمة القبلية الأبوية، كالتكيف مع التغيير مثلاً؛ حيث قامت بعض القبائل بدمج الممارسات الحديثة والثقافات المعاصرة مع الأعراف والتقاليد والقيم الثقافية الأساسية للشعب، مما يدل على القدرة على التكيف في النظام الأبوي، ورأينا ذلك في محاولات ناجحة لبعض دول الخليج في التحديث بالعقود الأخيرة، ومن ضمن الأمثلة على التقدم أيضًا، القدرة على إنجاز الإصلاحات القانونية والسياسية، لأن قدرة النظام الأبوي وسلطاته الواسعة تمكنه من إحداث التغيير السريع دون معوقات بيروقراطية أو استخدامات وعوارض قاصرة بذاتها للديمقراطية، حيث تطمح بعض الجهات المتشددة والمحافظة تحت راية الديمقراطية في التأثير على حقوق المرأة والأقليات مثلاً، باعتبارهما الأقل فرصًا في التوظيف والثروة والظهور.
لقد كان النظام القبلي الأبوي موضوع نقاش طويل بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمشرعين؛ ففي المجتمع المعاصر حيث يُشاد بالديمقراطية غالبًا باعتبارها نموذج الحُكم المثالي، يرى كثيرون أن الأنظمة الأبوية متخلفة أو قمعية، وعلى النقيض من ذلك يقول بعض العلماء إن مثل هذه الأنظمة توفر التماسك الاجتماعي وأساسًا قويًا للقانون والنظام، وقد قدم الفلاسفة وعلماء الاجتماع آراء مختلفة حول النظام القبلي الأبوي، كاشفين عن طبيعته المختلفة عما نظنه في الوسط العلمي؛ فبعضهم يعتبره بنية ضرورية تحافظ على النظام والتقاليد، في حين يناقش آخرون آثاره على الحريات الفردية والحداثة لا غير.
أهم الفروق بين النظام القبلي الأبوي والديمقراطية هو مصدر السلطة وطبيعتها، ففي النظام الأبوي غالبًا ما تقع السلطة في يد شخصية ذكورية، إما في هيئة زعيم قبلي أو شيخ عشيرة، ويُنظَر إلى هذه السلطة باعتبارها طبيعية ومفيدة لجميع منتسبي العائلة
على سبيل المثال انتقد فلاسفة مثل جوديث بتلر النظام القبلي الأبوي لتخليده عدم المساواة بين الجنسين، وتقييده لحرية واستقلال الأشخاص، وذلك في كتابها “مشكلة النوع الاجتماعي: النسوية وتقويض الهوية“، وتقول بتلر إن المعايير المجتمعية المتعلقة بالجنس ليست طبيعية بل مصطنعة من طرف الذكور، وبالتالي هناك شكوك في الآثار الأخلاقية لنظام يُخضِع النساء في كثير من الأحيان بدعوى الأعراف والتقاليد، في حين يقترح عالم الاجتماع بيير بورديو (1930- 2002) في كتابيه “نقد اجتماعي لحكم الذوق” و”مخطط نظرية الممارسة” أن الأنظمة الاجتماعية داخل المجتمعات القبلية تعمل على إعادة إنتاج المعايير والقيم الثقافية بشكل مستمر يتماهى مع المصلحة العامة. ويقول: إن “الثقافة ليست ملكية؛ بل هي عادة”، وتؤكد هذه الفكرة على أهمية الثقافة في النظام القبلي، ويسلط بورديو الضوء على الكيفية التي يمكن بها للثقافة الأبوية أن تعزز الهويات المجتمعية القوية وتعزز التماسك الاجتماعي.
ويثير هذا التباين بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع أسئلة بالغة الأهمية: هل النظام القبلي الأبوي مقيد بطبيعته، أم أنه يخلق روابط تؤدي لاستقرار المجتمع فحسب؟
مقارنة النظام القبلي الأبوي بالديمقراطي
- دور السلطة
لقد اتسمت الأنظمة القبلية الأبوية تاريخيًا بهيمنة الذكور على القيادة وعمليات صنع القرار منذ العصر الحجري، وغالبًا ما تتبع هذه الأنظمة ميراث السلطة الذكورية داخل الأسر والمجتمعات، وترتبط أصول النظام الأبوي بظهور الزراعة والمجتمعات المستقرة؛ حيث تولى الرجال أدوار الحراسة على هذا النظام وثرواته ومكتسباته، ثم تطور تدريجيًا إلى السلطة، كما لعبت الديانة دورًا مهمًا في ترسيخ المعايير الأبوية؛ حيث عملت العديد من الديانات الكبرى على نشر تفوق الذكور، وأبرز من فعل ذلك هم منتسبو الديانات الإبراهيمية.
لذا فأهم الفروق بين النظام القبلي الأبوي والديمقراطية هو مصدر السلطة وطبيعتها، ففي النظام الأبوي غالبًا ما تقع السلطة في يد شخصية ذكورية، إما في هيئة زعيم قبلي أو شيخ عشيرة، ويُنظَر إلى هذه السلطة باعتبارها طبيعية ومفيدة لجميع منتسبي العائلة، وتضمن سلوكيات هذه السلطة الاستمرارية وتصون الأعراف والتقاليد الخاصة، وعلى النقيض من ذلك تجد الديمقراطية شرعيتها في إرادة الشعب، مع التأكيد على المساواة والتمثيل الصادق لرؤى وقناعات الشعب، الذي قد يختار أحيانا شخصية أنثوية ممثلة له وفقًا لمعايير الأهلية والكفاءة.
بينما يقول البعض أن النظام القبلي الأبوي يعزز الشعور بالانضباط والمسؤولية بين أعضائه، وتشير هذه النظرة إلى أن الأنظمة الأبوية يمكن أن تولد شعورًا بالهدف والمسؤولية الجماعية، مما يوفر الاستقرار في المجتمعات التي قد تتعثر فيها الهياكل الديمقراطية، وفي ذلك كتب الشيخ المزهر آل فرعون في كتابه “القضاء العشائري” في إطار تحليله للنظام الأبوي العراقي.
حيث بحث هذا الكتاب -وفقًا لمجلة الرسالة ع 485 صـ 36- في الأصول والقواعد العشائرية والعادات المألوفة لدى القبائل العراقية، ويتناول تدوين تلك الأحكام المرعية والعادات المتبعة التي ساروا عليها منذ 800 سنة، كما ضمنه عادات العشائر العراقية وآدابهم وتقاليدهم وأساليبهم وسائر شؤون حياتهم الاجتماعية، والحق أن للقبائل والعشائر العراقية تاريخًا حافلاً بالعادات والتقاليد المتوارثة، يحرصون عليها ويتواصون بالتمسك بها وعدم التفريط فيها، ومن هذه التقاليد المرعية يتألف قانون غير مدون له قدسية سائر القوانين المدنية وحرمة بقية الأنظمة الاجتماعية، يرجعون إليها فيما يتعلق بخلافاتهم وأحكامهم ومشاكلهم العديدة، وفيما يخص سائر أمورهم الاجتماعية والشرعية والاقتصادية، ولهم فيما يتفرع من هذه النواحي وفيما ينجم عنها من ملابسات وأحكام وآراء وحلول تنطوي على البراعة والمهارة والطرافة، بقدر ما تنطوي عليه من صرامة وشدة وقوة، مستمدة من ذكاء وقّاد وإحساس مرهف، وحرص شديد يبلغ حد العصبية على محافظة العنعنات والنزعات العربية الخالصة.
من جانب آخر عندما نقارن المبادئ التي قام عليها الحكم الديمقراطي بمبادئ النظام القبلي الأبوي الواردة في كتاب الشيخ المزهر، فإننا نلاحظ أوجه تشابه مهمة:
أولاً: النظام والاستقرار؛ حيث يهدف كلا النظامين إلى الحفاظ على النظام داخل مجتمعاتهما من خلال الأدوار والوظائف الواضحة والديمقراطية، على الرغم من تقديرها للحريات والقدرات الفردية، يمكن أن تؤدي أيضًا إلى عدم الاستقرار في غياب القيادة المتماسكة والموجهة، وقد شهدنا دمار عديد من المجتمعات العربية بدعوى الديمقراطية، أو ببعض ممارسات الديمقراطية في تاريخها الحديث، بينما على النقيض من ذلك، قد يوفر النظام القبلي الأبوي بنية واضحة يمكنها الاستجابة بشكل حاسم للأزمات، وتتسم بحل سريع للمشكلات يكون متصفًا ببعض صفات الحكمة والواقعية البراجماتية.
ثانيًا: سيادة القانون؛ حيث كثيرًا ما أنشأ النظام القبلي الأبوي شكلاً خاصًا به من القانون والممارسات العرفية التي يلتزم بها الأعضاء، على غرار الطريقة التي تعمل بها المجتمعات الديمقراطية في ظل القوانين المدونة، وهذا النظام واضح في كتاب القضاء العشائري السابق ذكره، والذي يوضح أن هناك احترامًا متأصلاً لهذه القواعد بما يعزز من فهم واحترام القانون والدستور، والالتزام بهما في هذا السياق يؤدي بشكل مؤكد إلى استقرار المجتمع، وهذا تفسير لاستقرار وتماسك معظم الأنظمة الأبوية العشائرية وخلوّها من أعراض الفتن والحروب التي تتميز بها المجتمعات الديمقراطية في المقابل.
ثالثًا: القدرة على التطور؛ حيث في الأنظمة الأبوية تطورت الممارسات استجابة للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المتغيرة، مثلما يحدث الآن في دول الخليج من تطور سريع وملحوظ في الثقافة والوعي الاجتماعي بحقوق المرأة والأقليات، وعلى نحو مماثل يتعين على الديمقراطيات أن تتكيف مع الاحتياجات المتغيرة لمواطنيها حتى تظل ذات صلة، وذكر هذه الشبه ليس الغرض منه تفضيل النظام الأبوي على الديمقراطية التي أراها في تقديري أكثر ملائمة للواقع والمتغيرات، ولكن لدراسة الأحداث التطور الهام في بعض المجتمعات العشائرية، والبحث في مسؤولية هذا النظام عن ذلك التطور من عدمه.
وعلى الرغم من هذه التشابهات، فإن الانتقادات الموجهة إلى النظام القبلي الأبوي تنبع غالبًا من القيود التي يفرضها على الحرية الفردية، وهي انتقادات وجيهة تسلط الضوء على عوامل فشل النظام الأبوي أو عجزه عن تمثيل القاعدة الشعبية الأعرض في القبيلة، واستبدال هذه القاعدة بمراكز قوى عرفها التراثان؛ العربي والإسلامي بجماعة الحل والعقد.
الربط والتحكم
عند فحص الطبيعة المُلزمة للأنظمة القبلية الأبوية، نجد أنها تعتمد غالبًا على شبكة معقدة من القواعد والعادات للحفاظ على النظام، ومن أمثلة ذلك أن الأنظمة القبلية تستخدم روابط القرابة كآلية للتنظيم الاجتماعي، مما يخلق التزامات وتوقعات تساعد في تنظيم السلوك، حيث يمكن لمثل هذه الهياكل الملزمة أن تردع الفوضى وتعزز الدعم المجتمعي، ومن ناحية أخرى، كثيرًا ما تكافح الديمقراطية من أجل الالتزام بالإجماع؛ حيث تؤدي الأصوات المتنوعة والمتصارعة والمتناقضة إلى خلق الاحتكاكات وتعقيد عمليات صنع القرار، وقد يؤدي هذا الجمود إلى التفتت الاجتماعي، مما يثير تساؤلات حول مدى استدامة القيم الديمقراطية في الحفاظ على السيطرة والنظام.
في نفس السياق فهذا النظام القبلي الأبوي، كما وصفته جوديث باتلر في كتابها “مشكلة الجندر“، ليس مجرد بقايا من هياكل السلطة التاريخية فحسب؛ بل إنه أيضًا إطار عمل مستمر يستمر في تشكيل الهويات المعاصرة، مما يعني أن هوية (القرابة) وفقا لآليات الحكم والربط في النظام العشائري، هي أحد أعراض تشكل مفهوم الذكورة في التاريخ؛ فالذكر هو الذي يختار، وهو الذي يفسر أهلية القرابة من وجهة نظره. وتناقش باتلر الطرق التي تملي بها المعايير التنظيمية الحياة الاجتماعية، مؤكدة أن “مفهوم “الرجل” و”المرأة” ذاته مشروط تاريخيًا وثقافيًا من خلال تقويض فكرة أن هذه الفئات ثابتة وطبيعية، هنا تفتح باتلر الباب أمام فهم أكثر شمولاً وسلاسة للهوية الجندرية، مما يتحدى الأنظمة الأبوية التي تسعى إلى السيطرة على الأفراد وتحديد هوياتهم.
وقد اهتمت باتلر في هذا الكتاب بتعريف المهمة النسوية، فقالت إن هذه المهمة في بعض جوانبها “تسأل في كيفية تأسيس المجتمعات الهرمية والحفاظ عليها وتغييرها”، ومن خلال تبني هذه المهمة للنسوية العالمية؛ فإننا نفتح الباب أمام إمكانية إقامة مجتمع أكثر عدالة وخالٍ من القيود الأبوية، وهو ما يقودنا في نهاية المطاف إلى مستقبل يمكن فيه لجميع الهويات أن تزدهر متجاوزة للمعايير القمعية التي وضعها الذكور، ويحكمون بها المجتمع بدعاوى الضبط والربط واستقرار المجتمع، وهي دعاوى يمكن للمرأة أن تشارك فيها بحكم عضويتها الأساسية، وليس مجرد طرف تابع أو مساعد للذكور بشكل عام.
ومما قيل في هذا السياق ما ذكره الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو في العقد الاجتماعي بقوله: “إن النظام القبلي الأبوي يقوم على الاستخدام التعسفي للسلطة، وإنه يقوض الحرية الفردية والاستقلال”، بينما يُشيد ابن خلدون في المقدمة بقوله: “إن النظام القبلي الأبوي يقوم على مبادئ العدل والمساواة والتضامن”، وكان يعتقد أن هذا النظام ضروري لبقاء المجتمعات وازدهارها؛ خاصة في أوقات الأزمات وعدم الاستقرار.
وملخص هذه الجدلية أن الخطاب المحيط بالنظام القبلي الأبوي غالبًا ما يدور حول التوازن بين السلطة والحرية، فيميل الذكور السلطويون للأولى، بينما تميل الإناث والحقوقيون للثانية؛ ففي حين تدافع الديمقراطية عن الحقوق والحريات الفردية، قد ينظر البعض إلى النظام الأبوي باعتباره وسيلة للحفاظ على التماسك المجتمعي، وتتضح هذه الثنائية بوضوح عند دراسة القانون؛ إذ يؤكد القانون الديمقراطي على الحقوق الفردية، في حين تعطي القوانين الأبوية العشائرية الأولوية للاستقرار الجماعي، الذي غالبًا ما تقوده شخصيات السلطة الذكورية القوية التي تتمتع بمصادر القوة الاجتماعية وامتلاك وسائل الإنفاق الجيدة كالوظيفة والثروة.
وكما نرى فهي جدلية مُلفتة لكل أطرافها حججه المعقولة، تدعمها بعض نظريات الاجتماع المشهورة مثل “البقاء لا يكون للأقوى بين الأنواع، ولا للأكثر ذكاءً، بل للأكثر استجابة للتغيير”، ويتفق هذا مع الحجة القائلة بأن النظام الأبوي قد تكيف تاريخيًا مع احتياجات المجتمعات القبلية؛ فحافظ على النظام الاجتماعي في بيئات تتسم بالموارد المحدودة والصراعات المتكررة، وهذا يفسر استقرار الشعوب الأبوية وبعدها عن الحروب والفتن السياسية والدينية والاجتماعية بشكل أكبر في التاريخ، من المجتمعات التي تتصف بالديمقراطية والتنوع.
مما يعني أن النظام الأبوي ليس معيبًا بطبيعته؛ بل إنه تكيف مع الظروف المحيطة به من أجل البقاء والكفاءة، وبالنظر إلى مجتمعات الخليج مثلاً نراها قد وفرت لنفسها بعض الملامح، مثل التماسك الاجتماعي، الذي من خلال تحديد الأدوار الواضحة لعناصر القبيلة، خلق النظام الأبوي شعورًا بالانتماء والهوية الجماعية بين أعضاء القبيلة، مما يقلل من فرص الاحتكاك، ويُوجد فرصًا أخرى للتعاون مدعومة بحجج أخلاقية واجتماعية تحت عناوين القرابة ورابطة الدم، ونراها أيضًا قد وفرت إدارة جيدة للموارد؛ حيث في البيئات التي يعتمد فيها البقاء على التعاون، يمكن للنظام الأبوي أن يحشد الموارد بكفاءة ويشرف على الالتزامات الأسرية.
إن هذه الملاحظات تدعونا إلى إعادة تقييم ما إذا كان النظام القبلي الأبوي، الذي كثيرًا ما يُنتَقَد في الخطاب الحديث، يجسد حقاً بقايا من التاريخ البشري في حاجة إلى النقد والطعن والتحول، وقد يكون بمثابة نموذج للتماسك الاجتماعي والبقاء يدير الموارد بكفاءة ويحفظ تماسك المجتمع، ويناقش مشكلاته بإدارة هادئة بعيدة عن الضجيج والصخب المصاحب للمجتمعات الديمقراطية، حتى إن موضوع المواطنة الحديث يمكن أن تناقشه تلك المجتمعات بشكل أكثر حرفية من بعض المجتمعات الديمقراطية الأخرى التي تستسلم لرؤى الأغلبية العنصرية والطائفية ضد الأقليات، بينما قد نرى في النظام الأبوي حكيمًا يقرر حق مواطنة تلك الأقلية، أو بضغوط من القاعدة الشعبية أو من تلك الأقليات في سياقات هادئة يختار زعماء المجتمع تحقيق تلك المواطنة بوصفها حلاً مضمونًا أو خيارًا لا غنى عنه لتماسك واستقرار المجتمع.
أساطير التخلف والتقدم.. تفنيد أسطورة التخلف الأبوي
إن أحد أكثر الأساطير التي تحيط بالنظام القبلي الأبوي هي تخلفه وانحطاطه الحضاري، مقابل تأكيد على تقدمية وتطور النظام الديمقراطي بشكل حصري، ويزعم المنتقدون أن هذا النظام يرجع إلى جذوره في الممارسات القديمة، وهو ما يعوق التقدم؛ حيث كانت العشيرة وزعماؤها هي كل شيء، ومن خلال زعيم العشيرة ينبثق القانون والدين والسلطة في آن واحد.
ومن الناحية التاريخية تم تأطير الأنظمة القبلية الأبوية باعتبارها بقايا من هذا الماضي القمعي، مما أدى إلى ظهور أساطير تصورها على أنها متخلفة بطبيعتها، وفي تقديري أن مثل هذه الآراء تنبع من عدسة أوروبية مركزية تساوي بين الحداثة والقيم الديمقراطية الغربية، وتنكر على كل الثقافات المختلفة قدرتها على التحديث إلا في إطار المنتج الغربي، مع ذلك؛ فغالبًا ما تتجاهل هذه التأكيدات الديناميكيات الاجتماعية المعقدة داخل المجتمعات الأبوية التي يمكن أن توفر شعورًا بالانتماء والمجتمع والأمن، ومن خلال هذا الشعور يخلق المجتمع آليًا قدرته واستعداده النفسي والمادي على التحديث.
وأبرز مثال على ذلك أن الطفرة العلمية والاجتماعية والتكنولوجية الهائلة التي عرفها العالم، لم تحدث سوى بعد وقف حروب الأوروبيين، وتاريخيًا بدأ عصر التكنولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية، وكافة منجزات العصر، من الانتقال الهائل في المعلومات وظهور الأقمار الصناعية والإنترنت والشرائح الذكية، لم تحدث أو يراها الإنسان في ظل حروبه الكبرى، ولكن في ظل سلامه العالمي، مع استعداده لتحدي تلك الحروب في حال عودتها، وهو ما يفسر سرعة وصول الإنسان للإنترنت في سياق الحرب الباردة، بدعوى الدفاع عن الأمن القومي، نظرًا لأن ظهور الإنترنت كان موازيًا ومتناغمًا مع أحداث الحرب الباردة.
رغم أن الديمقراطية تعتبر على نطاق واسع الشكل المفضل للحكم عند المسؤولين والنخب المثقفة، لكن بالفحص المدروس لعيوبها مقارنة بالأنظمة القبلية الأبوية يكشف أن كلا النظامين لهما مزايا وعيوب
وأبرز ما يميز النظام الأبوي هو الاستقرار والأمن، وهي الشروط الواجب توافرها للتحديث والنهضة، وفي الواقع يُعرف المجتمع الصيني بالأبوي العشائري، ولا خلاف على تطور ونهضة الشعب الصيني السريعة منذ ثمانينيات القرن العشرين، والطفرة التي حصل عليها الصينيون لم تحدث من فراغ، إن باعثها الأساسي استقرار المجتمع الصيني واستعداده لقبول التحديث والتطوير وفقًا للمتغيرات التي طرأت على العالم، وتستوجب من الصينيين أن يتماهوا ويتناغموا مع هذه الطفرة، والنتيجة أن الصينيين لم يتماهوا ويتناغموا فقط مع الطفرة، ولكن شاركوا في صنعها بمجالات عدة، أبرزها الذكاء الاصطناعي.
يعني هذا أن النظام القبلي الأبوي ليس مجرد بقايا من حقبة ماضية؛ بل إنه قادر أيضًا على أن يكون بمثابة إطار حي قادر على التكيف والتطور، وبالتالي مقاومة فكرة التخلف، علاوة على توفيره للبنية والانضباط اللازمين للحفاظ على السلام والنظام، وفي إطار هذه الأنظمة قد تنشأ القوانين من العادات والتقاليد والأعراف، فتربط المجتمعات ببعضها البعض من خلال القيم والممارسات المشتركة، ويمكن أن يتناقض هذا مع الطبيعة المتصدعة والمتصارعة في كثير من الأحيان للديمقراطيات الحديثة، حيث تعمل الأنظمة القبلية على تعزيز الشعور بالوحدة والهوية الجماعية، ويشرح هذه الفكرة عالم النفس الكندي جوزيف هنريتش في كتابه “أغرب الناس في العالم“؛ حيث يقول إن المجتمعات المتماسكة تظهر سلوكيات تعزز التعاون والثقة، ويفترض أن مثل هذه الهياكل يمكن أن تخلق بيئة يزدهر فيها القانون والنظام، وإن كان ذلك في ظل نظام أبوي.
وهم التقدم الديمقراطي
في تقديري أن فكرة تفوق الأنظمة الديمقراطية الحديثة على الجميع محل تساؤل، فهناك منتقدون للنظم الديمقراطية وتجاربها مثلما يسلط توماس كاروثرز الضوء في كتابه “مواجهة الحلقة الأضعف” (2004) على بعض تلك العيوب؛ منها أن العملية الديمقراطية قد تفرض عبئًا ثقيلاً على الأفراد الذين قد يفتقرون إلى المعرفة السياسية أو الموارد، أو الاهتمام اللازم للمشاركة بفعالية في الأنظمة السياسية المعقدة، وهو بذلك يعود لحجج سقراط وأفلاطون لرفض الديمقراطية، وأن المتحكم بها والنافذ من خلالها يفعل ذلك على أكتاف الجهلاء والمحتاجين، ولا دور للحكماء والعقلاء في المنظومة.
الديمقراطية نظام معقد للغاية، وليس نظامًا يقوم فقط على الانتخاب من أجل النهوض، إنه قد يؤدي إلى خيبة أمل الناخبين وحرمانهم من حقهم في التصويت، ومن سحب الجنسية، وفي بعض الأحيان تتلاعب الأحزاب السياسية بالتصورات العامة والهجوم على الأشخاص والجهات من خلال وسائل الإعلام، مما يجعل من الصعب على المواطنين العاديين اتخاذ قرارات تصويتية مستنيرة، وكما يقول لاري دايموند في كتابه “روح الديمقراطية” (2008، ص 45): “إن الارتباك والتضليل قد يخلقان شعورًا بالعجز بين الناخبين، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات المشاركة وحتى اللامبالاة”.
ونرى ذلك في بعض تجارب الديمقراطية الكبرى المعاصرة، حيث تنخفض نسب المشاركة لعدم ثقة الجمهور بالنظام الانتخابي أو السياسي أو الدولة؛ فيصعد للسلطة من لا يحصل على رأي الأغلبية حتى يجد المصاعب والعقبات والحواجز لتنفيذ مشروعه، ويسقط في أقرب أجل انتخابي، أو يمتد عمره لبضع سنوات قليلة، وهكذا لا تعرف الدولة استقرارًا سياسيًا؛ بل صراعًا متضاربًا وسريعًا بين أجنحة الحكم وفئات الشعب المختلفة، وهذا الذي يخلق الرغبة عند الأقوياء والنافذين للسيطرة على الإعلام والمؤسسات، ومن ثم التحكم بالانتخابات، وتوجيه نتائجها لمصالح خاصة؛ فنجد في نهاية الأمر أن لا فارق بين دكتاتورية وديمقراطية، لأن المخرجات والنتائج واحدة.
بينما حين النظر إلى القواعد والبروتوكولات المتأصلة في الأنظمة الأبوية؛ فنراها لا تعمل كأطر قانونية فحسب؛ بل إنها تعمل أيضًا كوسيلة لحل النزاعات؛ فتقلل فرص الاحتكاك والسيطرة والهيمنة لصالح فئة، على الأرجح هي الأقوى نفوذًا من حيث المال والإعلام، وكثيرًا ما تعمل الطقوس العشائرية والأعراف المحلية، والحكم التقليدي على تعزيز المساءلة داخل القيادة وتخفيف عملية اتخاذ القرار التعسفي، وبالتالي تعزيز سيادة القانون، وتبسيط ذلك في الجلسات العرفية بالقرية؛ حيث تشيع مساءلة القائمين على الصلح؛ ليس بوصفهم مذنبين، ولكن بفرز سلوكهم وتاريخهم وحضورهم الاجتماعي وأخلاقياتهم للحكم بأحقيتهم في الوساطة.
ففي حين تؤكد الأنظمة الديمقراطية على الحقوق الفردية والتمثيل المتساوي، يوفر النظام القبلي الأبوي هوية جماعية، ويثير هذا التمييز أسئلة جوهرية حول المشاركة المدنية والالتزام المجتمعي، وهذا سؤال جدلي في الفلسفة بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة أزعم أنه لم يتوصل فيه إلى حلول شافية، ومن المهم ملاحظة أن العديد من الأنظمة القبلية تخضع للتكيف في هياكل الحكم الخاصة بها، وتوظف العديد من المجتمعات المبادئ الديمقراطية للحفاظ على هويتها الأساسية، وقد تسفر هذه التركيبة عن نموذج مجتمعي يناسب السياق الثقافي المحدد بشكل فريد، مما يتحدى فكرة أن الأنظمة الأبوية يجب أن تتخلى تمامًا عن تقاليدها من أجل التقدم؛ بل تصنع مزيجًا من الأصالة والمعاصرة، يصبح قاعدة أو مرجعية لفكر تقدمي في مرحلة لاحقة.
وليس هذا الأمر بدعًا من القول؛ فقد أشار إليه صاحب كتاب “مشكلة الديمقراطية: الحداثة السياسية في القرن الحادي والعشرين”، والذي قال فيه إن عمليات صنع القرار الأكثر بساطة الموجودة في الأنظمة القبلية، تعمل على تعزيز الشعور بالانتماء والمشاركة بين أفراد المجتمع، وأضاف أن الأنظمة القبلية الأبوية تتميز بهياكل حكم أكثر وضوحًا، وعادة ما تتخذ القرارات مجموعة صغيرة محترمة من الشيوخ أو القادة، وهو ما قد يوفر الوضوح والعمل المباشر والسرعة في اتخاذ القرار.
ويعني هذا أن الأنظمة الديمقراطية قادرة على إنتاج نخب تصعد إلى السلطة بدعوى خدمة الجماهير، ولكنها غالبًا ما تنتهي إلى خدمة مصالحها بدلاً من ذلك، وهذه كانت وتظل أحد أكبر عيوب الديمقراطية إجمالاً، والتي تتشابه فيها مع الوسائل الدكتاتورية في الحكم، ويفترض جوزيف شومبيتر في كتابه “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” أن “الديمقراطية عبارة عن صراع تنافسي على أصوات الشعب، حيث يتخلف عن الركب أولئك الذين يفتقرون إلى الموارد أو العلاقات، وهذا يعني أن آليات الانتخاب لا تعود في جذرها لسلطة الشعب؛ بل لمركز قوى تملك الموارد والعلاقات، وهو ما اصطلح عليه بالنظام الأوليغارشي الذي يمكن وصفه بأنه الأكثر شيوعًا واستخدامًا في الدول المسماة بالديمقراطية، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا.
وعلى العكس من ذلك، نرى في مختلف الأنظمة القبلية، يمكن أن تكون القيادة أكثر شفافية وخاضعة للمساءلة الفورية، وكثيرًا ما يضع الميراث الأبوي أفرادًا من ذوي الخبرة في السلطة؛ حيث يتعين عليهم اكتساب احترام مجتمعهم للحفاظ على سلطتهم؛ لا التصرف كديكتاتوريين؛ فيفقدوا احترام شعبهم ويدعم خصومهم عليهم من نفس الأسرة، ووفقًا لعالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز في كتابه “تفسير الثقافات“؛ فإن “النظام القبلي يعمل على أساس الاحترام المتبادل والتقاليد الراسخة”، وهي العناصر التي غالبًا ما تفتقر إليها الأنظمة الديمقراطية الحديثة؛ حيث يمكن أن تتحول “إرادة الشعب” بشكل غير منتظم مع كل دورة انتخابية، وهي السلوكيات المشهورة بدكتاتورية الأغلبية؛ حيث يسعى كل حزب فائز يملك مشروعًا سياسيًا أو فكريًا أو دينيًا في تطويع الدولة وفقًا له، حتى لو تطلب ذلك تغيير النظام الديمقراطي نفسه، وأشهر من فعل ذلك أدولف هتلر في الثلاثينيات.
خاتمة
رغم أن الديمقراطية تعتبر على نطاق واسع الشكل المفضل للحكم عند المسؤولين والنخب المثقفة، لكن بالفحص المدروس لعيوبها مقارنة بالأنظمة القبلية الأبوية يكشف أن كلا النظامين لهما مزايا وعيوب، وهذا هو غرض ذلك البحث، أن نبحر في الثقافات والمفاهيم لتحريرها عقليًا دون انحياز كلي لجهة على أخرى، ومن الضروري أن نأخذ في الاعتبار السياق والأسس الثقافية التي توجد فيها أنظمة الحكم هذه؛ فالنهج القبلي يوفر الاستقرار واحترام التقاليد واتخاذ القرارات بكفاءة، وهي العوامل التي يمكن أن تخفف الحرمان من الحقوق وعدم المساواة السائدين في الأنظمة الديمقراطية.
وباعتبار شيوع ورسوخ فكرة الديمقراطية وتقبيح الأبوية، أعتبر أن النظام القبلي الأبوي يستحق دراسة متأنية تعمل على الموازنة بين نقاط قوته وضعفه، وفي حين تثير الانتقادات الفلسفية الحديثة نقاطًا صحيحة حول المساواة بين الجنسين وحقوق الأفراد؛ فمن الأهمية أن ندرك إيجابيات النُظُم العشائرية، مثل التماسك الاجتماعي وسيادة القانون وسرعة اتخاذ القرار واحترام المسؤولين وتبجيل الدولة وتعزيز مفهوم الهوية والوطن، وهي عوامل يجب توفيرها وضمانها في النظام الديمقراطي قبل تقبيح الأبوية العشائرية، فلربما تتغير وجهة نظر المثقفين ناحية المجتمعات الأبوية؛ فيقللوا أو يخفضوا من شعارات الثورة فيها للنظام الجمهوري الشائع، فتمر الشعوب بتجارب مؤلمة للغاية قبل البدء في مراجعة دوافعهم الأولى للثورة، وأوهامهم عن الدولة الفاضلة التي تخيلوها في النظام الديمقراطي.
وفي النهاية لا ينبغي لنا أن ننظر إلى الحوار بين النظام القبلي الأبوي والديمقراطية باعتباره صراعًا بين التخلف والتقدم، بل باعتباره تفاعلاً معقدًا بين الأنظمة التي يمكن أن تثري بعضها بعضًا وتعزز بعضها بعضًا، وهو ما أصفه دائمًا في مقالاتي بمبدأ (التكامل لا التفاضل)، والواقع أن الحوار الجاري بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمشرعين، من شأنه أن يساعدنا في إعادة تقييم وإعادة صياغة فهمنا للسلطة والثقافة والتنظيم المجتمعي في كلا السياقين.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.