في خضم الأحداث المتسارعة، بدأت تتبلور ملامح جديدة للمنطقة. من طوفان الأقصى إلى تصريحات نتنياهو الجريئة أمام الأمم المتحدة، تسعى إسرائيل لفرض رؤيتها لما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” – شرق أوسط يخلو من خريطة فلسطين ويعيد توزيع القوى. تتعالى أصوات قادة إسرائيليين، ومن بينهم وزير الدفاع نفتالي بينيت، ليصفوا حرب غزة كفرصة غير مسبوقة لتحقيق هذا الحلم الممتد لعقود؛ فهل نحن أمام إعادة رسم جيوسياسية للمنطقة، أم مشروع تهيمن عليه المصالح الأمريكية والإسرائيلية؟
الشرق الأوسط الجديد
عقب عملية طوفان الأقصى، نشط الترويج الإسرائيلي لمصطلح “الشرق الأوسط الجديد”، ولم يتورع بنيامين نتنياهو عن التبجح بالإمساك بخريطة أمام الأمم المتحدة خالية من فلسطين، وبعض الدول التي يعتبرها “مارقة”، مشيرًا إلى أنها الخارطة التي يسعى لتحقيقها في المنطقة.
كما تكرر المصطلح على لسان وزير الدفاع نفتالي بينيت وآخرين ممن اعتبروا حرب غزة فرصة غير مسبوقة منذ خمسين عامًا لتحقيق الحلم الإسرائيلي في ذلك الشرق الأوسط المزعوم. جاء هذا الطرح ليحظى بتأييد رئيس الوزراء السابق إيهود باراك، الذي وصفه بـ”الفرصة الذهبية” حقًا.
ما يتبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي ليس جديدًا؛ فقد سبق أن طرحه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش ووزيرة الخارجية السابقة كونداليزا رايس، وتتجدد هذه الدعوة مع كل حرب أو اتفاق بين العرب وإسرائيل. ويعود هذا المصطلح إلى شيمون بيريز الذي طرحه في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” في التسعينيات، ليعاد نشره بعد اتفاقية أوسلو عام 1993.
ووفقًا للباحث د. بشير عبد الفتاح، أعاد نتنياهو إحياء هذا المفهوم بعد توقيع اتفاق السلام الإبراهيمي عام 2020، معتبرًا أن التطبيع العربي الإسرائيلي سيسهم في تكوين تحالف لاحتواء إيران وتعزيز الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. ويرى “عبد الفتاح” أن اغتيال حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، سيكون نقطة تحول مفصلية تغيّر ميزان القوى، مما يمكّن إسرائيل من الانتقال من دور الردع إلى الهيمنة الإقليمية. كما أشار وزير الخارجية اللبناني عبد الله بو حبيب، إلى أن إسرائيل سعت إلى تصعيد الأوضاع مع لبنان، وافتعال أزمات لفتح جبهة قتال، رغم موافقة نصر الله على وقف القتال قبل اغتياله. مما قد يبرز نوايا إسرائيل لفرض هيمنة جديدة على المنطقة.
وتستغل إسرائيل حالة الحرب لفرض سياسة الأمر الواقع؛ فتُجبر الشعب الفلسطيني على التهجير القسري ومنع النازحين من العودة إلى منازلهم، بهدف السيطرة على أراضيهم وتعزيز مخطط التوسع. وتواصل هذه السياسة في لبنان؛ حيث تطالب اللبنانيين بعدم العودة إلى بيوتهم، وتضغط لإخلاء قرى بأكملها.
"الشرق الأوسط الجديد" أو "الكبير"، هو مصطلح أمريكي نشأ بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وأُعيد طرحه بشكل واضح عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان عام 2006.
هذا بالإضافة إلى ضربات تعرضت لها قوى المقاومة، واغتيال قيادات كبيرة، تؤثر بشكل أو بآخر على قوة أذرع المقاومة؛ فهل نحن أمام حالة مخاض لعالم جديد تعيشه المنطقة بفعل الحرب الإسرائيلية التي يتسع نطاقها يومًا بعد يوم؟
أجندة أمريكية
بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى”، نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرًا تحليليًا بقلم إيشان ثارور، بعنوان: “أهلاً بكم في الشرق الأوسط الجديد الجديد” (Welcome to the New, “New” Middle East). أرفق التقرير بصورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يحمل خريطة باللونين الأخضر والأسود أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. في مستهل تحليله، ذكر الكاتب ما فعله نتنياهو في سبتمبر 2012 في نفس المكان؛ حيث عرض حينها رسمًا توضيحيًا لقنبلة، مطالبًا بوضع “خط أحمر” حيال البرنامج النووي الإيراني.
وفي سبتمبر 2023، ظهر نتنياهو بموقف مختلف، حاملاً خريطة جديدة بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”؛ حيث بدت حدود إسرائيل ممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط دون الإشارة إلى حدود فلسطين، مع خط قطري أحمر يمتد من دبي عبر إسرائيل نحو موانئ جنوب أوروبا، في إشارة إلى “ممر التنمية” المقترح بين الدول العربية وإسرائيل، ليشكل محورًا جديدًا للتجارة العالمية يربط آسيا بأوروبا. أشار نتنياهو إلى أن “الخط الأحمر” الذي رسمه في الماضي كان يرمز إلى خطر “اللعنة الإيرانية النووية”، أما اليوم فقد تحولت هذه “اللعنة” إلى “نعمة عظيمة” في شكل شرق أوسط جديد، يشمل إسرائيل والمملكة العربية السعودية وجيرانها الآخرين.
عن علاقة هذا المشروع بـحرب غزة، يرى الباحث السياسي محمود علوش، أن إسرائيل تدير حربًا لا تهدف فقط للعودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل 7 من أكتوبر؛ بل تركز على الفرص التي أوجدتها هذه الحرب لإعادة تشكيل التهديدات المحيطة بها! سواء أكان من حماس في غزة، أو حزب الله في لبنان وغيرها من دول المنطقة. ويؤكد علوش، لمواطن، أن حرب 7 من أكتوبر أدخلتنا في مرحلة تحول كبيرة في الشرق الأوسط، وأن نتائجها ستعيد تشكيل المنطقة بشكل كبير.
ويشير إلى أن عواقب الحرب ستكون هامة ليس فقط على مستوى الصراع العربي الفلسطيني أو صراع الوكالة بين إسرائيل وإيران، بل أيضًا على المستوى الإقليمي بشكل عام؛ حيث ستعيد تشكيل موازين القوى. وبذلك يكون من المؤكد أن لهذه الحرب انعكاسات كبيرة على الجغرافيا السياسية. ويتحرك نتنياهو في هذا السياق منذ البداية بحثًا عن هذه الفرص؛ حيث وعد بأن هذه الحرب ستؤدي إلى تغيير الشرق الأوسط.
ويرى د. آصف ملحم أن “الشرق الأوسط الجديد” يمثل مشروعًا يثير القلق العربي، لأنه يعني تحويل المنطقة العربية إلى مجموعة من الدول الضعيفة والصغيرة، من خلال تقسيم ما يمكن تقسيمه. العراق وسوريا، على سبيل المثال، يُعتبران قابلين للتقسيم، وقد تواجه إيران أيضًا مشكلات في حدودها الشمالية مع أذربيجان والأكراد. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات في آسيا الوسطى، مما يشير إلى أن الشرق الأوسط الممتد من البحر المتوسط إلى آسيا الصغرى يُراد إغراقه في الفوضى لتسهيل استخدامه في المستقبل لاحتواء الصين وروسيا، القوتين الكبيرتين الواقعتين بينهما.
ويعتبر، أن هذا المشروع هو أجندة أمريكية بحتة، تستخدم إسرائيل كأداة لتفعيله. ويشير إلى أن مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” أو “الكبير”، هو مصطلح أمريكي نشأ بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وأُعيد طرحه بشكل واضح عندما بدأ العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان عام 2006.
هل يمكن القضاء على أذرع المقاومة؟
مع ذلك، استبعد علوش فكرة اختفاء المقاومة من المشهد الشرق أوسطي الجديد، مشيرًا في حديثه لمواطن، إلى أن إمكانية القضاء على حماس أو حزب الله تعتبر فكرة غير واقعية. ورغم أن إسرائيل قد تنجح في تقويض القدرة العسكرية لحماس إلى حد كبير، وفرض واقع جديد في غزة، إلا أنها لم تتمكن من السيطرة عليها تمامًا أو إخراجها من المعادلة. كما أشار إلى أن تكاليف الحرب البرية ستكون مرتفعة جدًا بالنسبة لإسرائيل، التي لن تستطيع حسم المعركة على الجبهة اللبنانية دون الدخول في قتال بري على الأرض. وإذا حدث ذلك؛ فإن فرص نجاحها في إنهاء وجود حزب الله ستكون مستحيلة.
وفي تقديره، سيبقى كل من حزب الله وحماس جزءًا من معادلة الصراع مع إسرائيل، على الرغم من أن الحرب ستؤدي إلى إضعافهما. وهذا قد يؤدي إلى تحول كبير في عملية تشكيل القوة على المستويين الدولي والإقليمي. وإذا ما نشأ صدام مباشر بين إيران وإسرائيل، ستكون لذلك عواقب وتداعيات خطيرة، مما يخلق مشهدًا إقليميًا جديدًا في الشرق الأوسط.
وأضاف علوش أن إسرائيل تسعى بالفعل لفرض واقع أمني جديد في قطاع غزة ولبنان وسوريا، وبالتالي تسعى لإحداث تغييرات تتماشى مع هدف نتنياهو في تغيير الشرق الأوسط. ومع ذلك، لن تتمكن إسرائيل من تغيير الشرق الأوسط بشكل كامل، ما لم تستمر الحالة الإيرانية كما هي، ويظل النظام الإيراني قائمًا وقويًا.
هل ستنجح إسرائيل في فرض رؤيتها للمنطقة على المنطقة، أم أن إرادة الشعوب وقدرتها على المقاومة ستظل حاضرة، مغيرة مسار هذه المخططات؟
يعتبر بعض المراقبيين؛ مثل الكاتب الليبي جمعة بوكليب، أن “الشرق الأوسط الجديد” المزعوم هو مجرد وهم كبير. ويشير بوكليب إلى أن التغيير المرتبط بمقتل حسن نصر الله وتدمير إيران، والذي يتجاهل وجود دولة فلسطينية، لن يتحقق، لأن المنطقة لا يمكن أن تخلو من المقاومة الفلسطينية؛ فمقاومة الشعب للاحتلال ستستمر ما دام حق العيش للفلسطينيين لم يتحقق.
ويؤكد بوكليب أن النظام الذي يسعى إليه نتنياهو يختلف تمامًا عما يريده العرب، والفجوة بين الطرفين واسعة للغاية، ولا يمكن سدها من خلال جسور عسكرية مؤقتة، إلا إذا تم الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.
وشدد على أن الشرق الأوسط الذي يدعو إليه نتنياهو ليس سوى وجه لعملة قديمة وسراب سيتلاشى سريعًا. ويحث قادة إسرائيل على مراجعة حساباتهم، لأن الفلسطينيين لن يسكتوا ولن يستسلموا.
ويؤكد د. آصف ملحم أن الحرب قوضت جميع المشاريع التي نفذتها روسيا والصين من أجل دمج الشرق الأوسط، وهي جهود كانت تتبناها روسيا والصين ضمن ما يُعرف بالفضاء الأوراسي الكبير، في إطار منظمة شانغهاي ومجموعة بريكس.
عندما انضمت دول عربية وشرق أوسطية مثل مصر والسعودية وإيران وإثيوبيا والإمارات إلى مجموعة البريكس، شعرت الولايات المتحدة أنها بدأت تخسر منطقة الشرق الأوسط كأداة للضغط. وفي هذا السياق، يتحدث نتنياهو بصوت أمريكي بحت؛ حيث يبدو أنه بعد تحريض الولايات المتحدة لإسرائيل على إشعال هذه الجبهات المتعددة، تسعى الولايات المتحدة الآن للتدخل في المنطقة لتقسيمها بشكل أو بآخر. بحسب “آصف”. والذى يرى أن الصمت الروسي هو نوع من الصبر الاستراتيجي لتفويت الفرصة على الغرب لجره نحو جبهة حرب جديدة بعد توريطه في أوكرانيا.
كما تحفظ د. أحمد يوسف، أستاذ علوم السياسيةـ على فكرة الشرق الأوسط الجديد بشكله الذي تريده أمريكا وإسرائيل، وقال لـ “موطن”: “يمكن الحديث عن شرق أوسط واسع، بمعنى أنه يضم كيانات غير عربية مثل تركيا وإيران وأطراف من آسيا، ولكن أن يكون هناك شرق أوسط بلا بلدان عربية بعينها مثل فلسطين؛ فهو أمر بعيد، لأن قضية فلسطين باقية ما بقي الصراع والاحتلال”. وأضاف أن المقاومة لن تقف متفرجة وستظل موجودةـ لأن محاربة المحتل أمر مشروع في كل القوانين والمواثيق الدولية.
عقبات الشرق الأوسط الجديد
انتقد تقرير صادر عن مركز كارنيجي السياسة الأمريكية، تعاطي الولايات المتحدة مع مفهوم “الشرق الأوسط الجديد”، مشيرًا إلى أن هذا النهج أسفر عن نتائج غير متوقعة تستدعي إعادة النظر في السياسة الأمريكية. ويدعو التقرير إلى ضرورة التحرك على أسس أكثر واقعية للتخفيف من حدة المواجهات، والتخلي عن الوهم السائد بأن أمريكا قادرة على إعادة رسم خريطة المنطقة وفق مصالحها فقط وبصورة أحادية.
في المقابل، يرى الباحث الدكتور بشير عبد الفتاح، أن المشروع يمثل تعاونًا إسرائيليًا أمريكيًا مشتركًا، ولكن هناك اختلافات في ملامح “الشرق الأوسط” المأمول بين البلدين. ويشير في تصريحات خاصة لمواطن، إلى أن التحديات التي تواجه هذا المشروع تتمثل في اصطدام رغبة إسرائيل في القضاء على إيران بمساعي واشنطن، للحفاظ على توازن القوى في المنطقة؛ حيث تسعى الولايات المتحدة إلى إبقاء إيران قوية دون أن تنهار، نظرًا لدورها الاستراتيجي.
كما يشير عبد الفتاح إلى عائق آخر يتعلق بعجز إسرائيل عن إعادة هندسة المنطقة بمفردها؛ حيث تظل عاجزة حتى الآن عن حسم الحرب لصالحها؛ سواء أكان في غزة أو لبنان، على الرغم من حجم الدعم اللامحدود الذي تحصل عليه من الولايات المتحدة والقوى الغربية.
ويرى الباحث الروسي ديمتري بريجع، أن احتمالات الشرق الأوسط الجديد موجودة في ظل ما يشهده من تغيرات سياسية واجتماعية كبيرة، وانتفاضات شعبية ونهضة ثقافية مصحوبة بتطور كبير في وسائل الإعلام ومنصات التواصل التي لعبت دورها في التحريض على السعي للتغيير، ووفرت فضاءات واسعة للتحاور وزيادة الوعي الجمعي؛ سيما في قضايا الحريات وحقوق الإنسان. وأكد لمواطن، أن اتفاقيات السلام بين العرب وإسرائيل؛ سواء التي تمت، أو التي في طريقها، سوف تدفع بقوة نحو تحقيق هذا الشرق الأوسطي الجديد. ويعود ويؤكد أن استقراره مرهون بإحلال السلام في المناطق الساخنة بالمنطقة، ودعم التعاون الإقليمي نحو هذا الهدف.
ختامًا، قد يكون الأمر أكثر تعقيدًا مما يظهر على السطح؛ إذ تتصارع الأجندات الدولية والنفوذ الإقليمي، لكن يظل السؤال مطروحًا: هل ستنجح إسرائيل في فرض رؤيتها للمنطقة على المنطقة، أم أن إرادة الشعوب وقدرتها على المقاومة ستظل حاضرة، مغيرة مسار هذه المخططات؟