استطاعت الإمارات عبر سياسة التجنيس الرياضي، تحقيق إنجازات بارزة، مثل فوز اللاعب المجنس سيرجيو توما بفضية أولمبياد ريو 2016 في الجودو، وتألق المنتخب الوطني في بطولات كرة القدم بفضل لاعبين مثل كايو كانيدو وفابيو ليما. هذه النجاحات لم تكن مجرد صدفة؛ بل نتاج استراتيجية مدروسة، ولكن بينما يتردد صدى أسماء الرياضيين المجنسين على منصات التتويج، يحمل المشهد أبعادًا تتجاوز الميداليات والكؤوس، ليطرح تساؤلات حول مفهوم المواطنة، حدودها، ومعاييرها.
وجاء في تقرير هيومن رايتس ووتش، أنه يحق للإمارات جذب الاستثمار الأجنبي للبلاد عبر فتح المجال لنيل الجنسية الإماراتية، ولكن عليها أيضًا إنهاء التمييز فيما يتعلق بتجنيس أولاد الإماراتيات وعديمي الجنسية.
التجنيس.. لماذا؟
تتطلع الإمارات إلى تكوين مجتمع رياضي متكامل يضم كل الفئات، من المبتدئين إلى المحترفين، مرورًا بأصحاب الهمم على أراضيها. وتسعى عبر قانونها الوطني الجديد للرياضة إلى رفع نسبة ممارسة الرياضة بين المواطنين إلى 71% بحلول 2031، إنسجامًا مع الاستراتيجية الوطنية للرياضة 2031، والتي تهدف إلى دعم الجهات الرياضة في تحقيق التفوق الرياضي محليًا وعالميًا، من خلال تعزيز المنافسة الرياضية واكتشاف المواهب.
كما تولي الدولة اهتمامًا كبيرًا بتطوير البنية التحتية الرياضية لتشجيع الأنشطة البدنية؛ حيث تعمل على إنشاء مرافق رياضية حديثة ومتنوعة؛ من ملاعب كرة القدم إلى حلبات سباق السيارات وملاعب الغولف ومراكز التدريب المتطورة. هذا الاستثمار في المرافق يهدف إلى دعم جميع الفئات، سواء أكانوا رياضيين محترفين أو مبتدئين، ويأتي ضمن جهود تعزيز القطاع الرياضي وتوفير بيئة مشجعة للرياضيين في جميع أنحاء الدولة. إلا أن كل هذه الجهود وحدها ليست كافية لخلق مجتمع رياضي، نظرًا لقلة عدد السكان وقلة الذين يحترفون الرياضة من بينهم، ولذلك أيضًا؛ لم تجد الإمارات مفرًا من تجنيس الرياضيين/ات الأجانب لتعزيز أهدافها حيال إحداث التفوق الرياضي.
وينتقل معظم الرياضيين المجنسين من البلدان الأفقر إلى البلدان التي تتمتع بقوة اقتصادية وسياسية أكبر؛ حيث أشار البروفيسور جوزيف أدجاي من “جامعة غانا”؛ في دراسته المنشورة في عام 2010 إلى أن “الموجة المستمرة من انتقال الرياضيين الأفارقة الموهوبين من الجنوب الأكثر فقرًا إلى دول الخليج لهو تطور متوقع لعالم لا ينتمي فقراؤه إلا للمكان الآمن فقط”.
وشُكَّلت الإمارت بُناها الإقتصادية والصناعية والتعليمية والصحية اعتمادًا على المهاجرين والعمال الأجانب، والتي يتواجد على أراضيها ما يقرب من 8.7 مليون عامل مهاجر يشكلون 88% من سكانها؛ في عالم تشكل ودارت رحاه خلال القرن العشرين حول فكرة الجنسية، ولذلك تدحرجت كرة الثلج من اللحظات الأولى لموسم 2020؛ سائرةً في اتجاه تطبيق سياسة التجنيس بنجاعةٍ منقطعة النظير، وبحسب ما ذكره، لمواطن محمد حافظ، الناقد الرياضي بموقع بي بي سي أن “أبرز مرجع للتجربة الإماراتية كان الاتحاد القطري، الذي بدأ في عملية التجنيس منذ مدةٍ طويلة، وجنى ثمارها بالفعل بعد تتويجه بكأس الخليج وكأس آسيا، وكذلك التجربة اليابانية؛ في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، والتي تحولت إلى قوة كبرى بعد تجنيس بعض العناصر اللاتينية”.
ثم أضاف: أن “هناك اتجاهًا عامًا في آسيا حاليًا نحو إيجاد حلول بديلة تُقلل الفوارق مع أوروبا وأميركا اللاتينية، وأهم تلك الحلول هو التجنيس؛ فعلى سبيل المثال؛ يعتمد العراق حاليًا على لاعبين كثر من مزدوجي الجنسية أو من أبناء المهجر، وأيضًا إندونيسيا التي تحسنت بشكل لافت بعد وصول توهير، الرئيس السابق لنادي إنتر ميلان، لرئاسة اتحاد كرة القدم في البلاد، وتدعيمه المنتخب بلاعبين من أصول أوروبية”.
وعن سبب التجنيس أيضًا، قال محسن مصبح، حارس المنتخب الإماراتي السابق؛ في تصريحات لوكالة الأنباء الفرنسية: “لقد فرض التجنيس نفسه علينا، بسبب ابتعادنا في المستوى عن كبار آسيا: اليابان، كوريا الجنوبية، أستراليا، إيران والسعودية، ويلزمنا الكثير من العمل للحاق بركبهم، ولذلك نحتاج إلى عمل كبير في المرحلة المقبلة، والتعلم من تجارب الدول المحيطة بنا في هذا المجال (تجربة قطر في كأس آسيا 2019 وإحراز اللقب بفضل المجنسين الشباب)”.
جاءت البداية مع التجنيس الرياضي بعدما أصدر الرئيس الراحل خليفة بن زايد آل نهيان قانونًا لعام 2018، يسمح بمشاركة اللاعبين المؤهلين لتمثيل المنتخبات، والمقيمين داخل الدولة في المسابقات المحلية، كما يسمح لكل نادٍ بتسجيل 5 لاعبين أجانب شباب في قائمته، مشترطًا أن يكونوا تحت 21 عامًا للاستفادة منهم بعد مضي خمس سنوات على إقامتهم في الإمارات في المنتخبات الوطنية، وحسب المدة التي حددتها لوائح الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا). وقد بدأت العملية بتجنيس 3 لاعبين، وهم الثنائي البرازيلي كايو كانيدو وفابيو ليما والأرجنتيني سيباستيان تيجالي.
وعن هذا عقب حافظ أن: “القانون ساهم في زيادة قاعدة الممارسة في عدد من الرياضات، وأكدَّ على مبدأ التعايش والتسامح بين مكونات المجتمع الإماراتي، ولكنه كان مجرد البداية، لماذا؟ لأن الدولة بدأت في تجنيس العديد من اللاعبين الأجانب في الدوري المحلي أيضًا، منهم الأرجنتيني نيكولاس خيمينيس لاعب الوصل سنة 2020، والثنائي البرازيلي كايو وفابيو ليما، كما امتدت أيادي التجنيس إلى لاعبين من أماكن غير تقليدية مثل داغستان ومنطقة القوقاز”.
ذلك الزخم أنتج في النهاية عددًا من المحترفين الذين يلعبون في الدوري كلاعبين محليين، منهم على سبيل المثال: علي مبخوت وإسماعيل الحمادي وعمر عبد الرحمن العمودي، لاعبو المنتخب الوطني، و7 لاعبين بنادي العين وهم: البرازيلي إريك يورغينس، وكوامي أوتون، وجوناتاس سانتوس، وسيكو بابا جاساما، وسوسو، والأرجنتيني ماتياس بالاسيوس، والمهاجم جوناس نافو، وثلاثي النصر جلوبير ليما، وجوستافو أليكس، وجونيور سيلفا، وثلاثي الوحدة: ساشا، ولوكاس بيمنتا، والتونسي الأصل علاء الدين زهير، إضافة إلى لاعب نادي عجمان عصام فائز، ولياندرو سباداسيو لاعب الوسط بنادي كلباء، بجانب لاعب نادي شباب الأهلي السابق، البرازيلي إيجور جيسوس، المنضم حديثًا إلى صفوف نادي بوتافوجو البرازيلي.
40 لاعب أجنبي حصل على الجنسية الإماراتية في الإمارات، منهم 16 لاعب يستطيعون تمثيل المنتخب الإماراتي. 🇦🇪 pic.twitter.com/efq3hnVU48
— الموجز الرياضي (@SportStuff24) September 19, 2024
إلى الأولمبياد وما بعدها
لم تقتصر تلك الحالة على كرة القدم فقط؛ بل توسعت لتشمل رياضيين/ات من ألعاب أخرى؛ مثل الألعاب القتالية؛ الجودو والمصارعة؛ حيث ضمت بعثة الإمارات في أولمبياد باريس، 14 رياضيًا في 5 ألعاب، بينهم 6 مجنسين في لعبة الجودو، وقد دافع، ناصر التميمي، الأمين العام لاتحاد الجودو عن سياسة التجنيس، قائلًا في حديثه لوكالة “فرانس برس”: “إن التجنيس أضحى لغة عالمية، هدفه في النهاية هو خدمة الرياضة وتحسين مستوى اللاعبين الشباب”، ولأن البداية كانت من الجودو؛ فقد تطورت تلك اللعبة سريعًا داخل الدولة، محققةً نجاحات جيدة في وقت قصير.
وأفاد عمرو فكري، الكاتب والصحفي بموقع بي بي سي: أن “هناك دولًا كثيرة تعتمد على لعبة واحدة بشكل أساسي، شرط أن تحقق نجاحات في تلك اللعبة، وبناءً عليه فقد حشدت الإمارات جهودها من أجل الجودو اعتمادًا على نجاحاتها السابقة في الجودو؛ حيث كان رئيس اتحاد الجودو، محمد بن ثعلوب الدرعي، والذي كان عضوًا سابقًا في الاتحاد الدولي، هو أول من بدأ فكرة تجنيس اللاعبين، ولاقت فكرته النجاح بحصول اللاعب سيرجيو توما؛ فضية ريو دي جانيرو 2016″، تلك الميداليات زادت من شعبية اللعبة داخل الإمارات بشكل كبير، ولذلك يمكن تلخيص التركيز عليها في أمرين، الأول الرغبة في البناء على النجاحات السابقة، أما الثاني هو الرغبة في حصر النجاح في رياضة واحدة مبدئيًا، لتكوين تجربة منضبطة تكون سراجًا، تنطلق على أساسه سائر الرياضات، بدلًا من التشتيت غير الضروري في مراحل المشروع الأولى”.
على الرغم من توجه الإمارات نحو التجنيس الرياضي، ما زالت البلاد تشهد تمييزًا بين المواطنين في حقوق الجنسية، ولا تستطيع المرأة الإماراتية منح الجنسية لأولادها المولودين في الإمارات؛ حيث ينص القانون على "أن الجنسية تحق لأبناء الرجال الإماراتيين تلقائيًا، بينما لا تحق للمولودين لأم إماراتية وأب غير إماراتي".
وعند سؤاله عن السبب وراء التجنيس أصلًا، أردف قائلًا: “لأن عملية الإعداد، قد تأخذ وقتًا أطول، من وجهة نظرهم، أما التجنيس فيوفر عليك الكثير من الخطوات، وسيضمن لك الميداليات سريعًا؛ تلك الميداليات ستعمل أيضًا على زيادة شعبية اللعبة داخل الدولة؛ خصوصًا بين الأطفال، وهو ما سيدفع العجلة تجاه صُنع فريق إماراتي بالكامل، ثم إن التجنيس في النهاية ليس أمرًا معيبًا، ولم يكن في أي لحظة مقتصرًا على الدول العربية أو الشرق الأوسط؛ بل يمتد إلى الدول المتحققة مثل أميركا، والتي تجنس العشرات كل عام”.
خاصة وأن الإمارات ليست ذات ثقل في المنافسات العالمية؛ فقد بدأت مشاركتها الأولى في الأولمبياد منذ 40 عامًا فقط؛ في أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، ولم تبدأ في اللمعان إلا في العشر سنوات الماضية؛ حيث شهدت المشاركات تطورًا تدريجيًا في عدد الرياضيين/ات ونوعية المشاركات؛ فبالنظر إلى أولمبياد سيدني 2000، والتي شاركت الإمارات فيها بـ 4 رياضيين فقط، دون مشاركة من النساء، وأولمبياد أثينا 2004، والتي شاركت فيها بـ 4 رياضيين؛ فأولمبياد باريس 2024، تظل نقطة تطور مقبولة، وكل ذلك استنادًا على التجنيس كركيزة أساسية.
تعتبر الإمارات الرياضة قوة ناعمة تلعب دورًا محوريًا في تعزيز مكانتها وسمعتها على الساحة الدولية. تستند هذه الرؤية إلى تجارب ناجحة مثل كأس العالم 2022 في قطر؛ حيث يتم التركيز على الجانب الاستثماري من خلال إبراز الدول كوجهات رائدة في تنظيم الفعاليات الرياضية وتطوير البنية التحتية المتقدمة.
وأكدت وزيرة الدولة لشؤون التعاون الدولي، أن استضافة البطولات الرياضية تسهم في تسريع تحقيق رؤى واستراتيجيات الدولة، مضيفة أن هذه الاستضافة تضيف قيمة استراتيجية للدولة المستضيفة، وتعزز صورتها الحضارية أمام العالم عبر بناء إرث مستدام للأجيال القادمة. كما شددت على أهمية تفعيل الدبلوماسية الرياضية لتعزيز العلاقات بين شعوب العالم، من خلال إطلاق مشاريع ومبادرات مشتركة تعود بالنفع على رفاهية الأفراد وبناء مجتمع صحي وآمن وسعيد.
بين التجنيس والمواطنة
وعلى الرغم من توجه الإمارات نحو التجنيس الرياضي، ما زالت البلاد تشهد تمييزًا بين المواطنين في حقوق الجنسية، ولا تستطيع المرأة الإماراتية منح الجنسية لأولادها المولودين في الإمارات؛ حيث ينص القانون على “أن الجنسية تحق لأبناء الرجال الإماراتيين تلقائيًا، بينما لا تحق للمولودين لأم إماراتية وأب غير إماراتي”.
كذلك أزمة عديمي الجنسية، والذين تُـقدرهم السلطات بنحو عشرة آلاف من الذين سكنوا الإمارات قبل قيام الاتحاد عام 1971، ولم يجرِ تسجيلهم وقتها لنيل الجنسية، ويواجهون -بناءً على ذلك-، عوائق شديدة تحرمهم من الرعاية الصحية والتوظيف والمنح الجامعية، وبحسب ما ذكره حمد الشامسي، المدير التنفيذي لمركز مناصرة معتقلي الإمارات، عبر صفحته في إكس: “لوكانت السلطة صادقة في تجنيس الآخرين للاستفادة من طاقاتهم، لكان أبناء المواطنات أحق بهذه الجنسية التي لايحصلون عليها بحكم القانون، وإنما يحصل عليها بعضهم منحة من حاكم. ولشرعت قوانين لحل مشكلة عشرات الآلاف من عديمي الجنسية، والاستفادة منهم في تطوير البلد”.
وجاء في تقرير هيومن رايتس ووتش، أنه يحق للإمارات جذب الاستثمار الأجنبي للبلاد عبر فتح المجال لنيل الجنسية الإماراتية، ولكن عليها أيضًا إنهاء التمييز فيما يتعلق بتجنيس أولاد الإماراتيات وعديمي الجنسية. ويبقى هنا التحدي الأكبر أمام الإمارات؛ ليس فقط في رفع العلم على منصات التتويج؛ بل في ضمان أن تكون هذه الإنجازات تعبيرًا أصيلًا عن مجتمع مندمج ومتساوٍ.