على الرغم من مرور عدة أسابيع على نزوحهم من مدينة النبطية؛ لا تتوقف مِيليسا عن البكاء ليلاً طلبًا للعودة إلى منزلها، هي ابنة الأربع سنوات، حاولت أمها مع بداية العدوان على لبنان مساعدتها على تجاوز خوفها، لكن الصدمات التي مرت بها كانت أكبر من عمرها، تقول ميساء لـ”مواطن“: “في أول مرة خرق العدو الاسرائيلي جدار الصوت كانت ميليسا في الحضانة، واهتز زجاج المبنى لدرجة أن صراخ القاطنين فيه أرعب الأطفال أكثر من صوت الطائرة، وكحال الآخرين، هرعت لأخذ ابنتي إلى البيت، وعندما رأيت الخوف في عيون الأطفال انفطر قلبي حزنًا على حالنا”.
تستخدم إسرائيل “جدار الصوت”، بشكل يومي ولأكثر من مرة، كوسيلة لترهيب المدنيين في معظم المناطق اللبنانية؛ فعندما تحلّق الطائرات الحربية على ارتفاعات منخفضة بسرعة تتجاوز سرعة الصوت، تحدث دويًّا قويًا يثير الهلع، ويكون كافيًا لإحداث اهتزازات قوية في المباني، وقد يؤدي إلى تحطيم النوافذ.
تُعَدّ هذه الطريقة نوعًا من الرسائل التهديدية التي تعتمدها إسرائيل؛ خصوصًا ما قبل المواجهة العسكرية المباشرة، ومع أنّها لا تُسبب أضرارًا مادية كبيرة، لكنها تحصل في أوقات متفاوتة ومفاجئة بهدف خلق حالة من الخوف والقلق بين السكان. تشتكي ميساء من شدّة تأثيره؛ تقول: “يرتجف قلبي، وأشعر بصاعقة تضرب خلايا جسدي؛ فكيف بحال الأطفال الذين لا يدركون ما يحصل، خصوصًا أنه يحدث بدون توقّع، خلال لعبهم أو نومهم، أو خلال تناول الطعام”.
مع اشتداد القصف واقترابه من المناطق الداخلية، رفضت ميساء وجيرانها الخروج من منازلهم، تحكي لـ”مواطن”: “كنا نعرف أنّ هذه حرب ويجب أن نبقى أقوياء، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، وفي لحظة ما انقلبت حياتنا رأسًا على عقب، بدأت الصواريخ تتساقط على حيّنا، ورائحة البارود قطعت أنفاسنا، وانقطع التيار الكهربائي وشبكة الإنترنت”، تضيف ميساء: “كان الخروج صعبًا بسبب الركام والدمار، هربنا مع المئات غيرنا، واحتجنا يومًا كاملاً للوصول إلى بيروت بسبب زحمة السيارات التي توافدت بشكل جماعي، في مسار يكفيه ساعة واحدة في المعتاد”.
تستخدم إسرائيل "جدار الصوت"، بشكل يومي ولأكثر من مرة، كوسيلة لترهيب المدنيين في معظم المناطق اللبنانية
أمّا مريم جارة ميساء فتروي لـ “مواطن” كيف استفاقوا في تلك الليلة على أصوات الصواريخ، تقول: “حضنت طفلي الرضيع، أما ابني ذو العشر سنوات فكان مصدومًا، أغلق أذنيه بإحكام، ووضع رأسه في حجره محاولاً تجنّب رؤية الانفجارات”. تأسف مريم قائلة: “تنذكر وما تنعاد، ما كان أصعب من القصف إلا حصار السيارات الذي التف بنا، لم يكن معي حفاضات، ونام طفلي من شدّة البكاء”. تتنهد مريم وتكمل: “أوصلنا مصيرنا المجهول إلى مدرسة تم تجهيزها كمركز إيواء، لم نكترث لأي شيء، كان هدفنا النجاة من الموت”.
حال زهرة ليس مختلفًا، تقول: “خرجنا بملابس النوم، وبسبب الظلام لم نتمكن من انتعال أحذيتنا، لجأنا إلى بيت صديقتي كمحطة أولى لتدبير أمورنا قبل الانتقال إلى الفندق”. تتابع زهرة كلامها: “رفضت ابنتي تغيير ملابس النوم أو استعارة حذاء من بنت صديقتي؛ الأمر الذي جعلني أتصرف كمجنونة، أمسكت بكتفيها وهززتها، نحنا مش عم نلعب، هذه حرب”. تدرك زهرة جيدًا أنّ ما مرّ به الأطفال ليس هيّنًا، ولكنّها تؤكّد: “يجب على الأولاد تقبّل الواقع الجديد، وأن الحياة الطبيعية أصبحت صفحة من الماضي”.
اعتقد الكثير من النازحين أنّها فترة وستنقضي سريعًا، ونزلوا ضيوفًا عند الأصدقاء والأقارب في المناطق الآمنة، لكنّ الأطفال لم يستوعبوا ما حصل بين ليلة وضحاها، وجدوا صعوبة في تقبل نمط الحياة المشتركة. تقول سها، التي نزحت من بلدة جباع: “فقدت السيطرة على أولادي، كلمتي غير مسموعة، سلوكهم غير طبيعي، حركتهم زائدة، والمشاجرات مع بعضهم بعضًا لا تتوقف”. وتشكو حالها: “أشعر بالخجل أمام قريبتي، وأطفالي يستغلون هذا الوضع؛ ما يزيد من توتري وحنقي، وأبتلع غضبي على مضض”.
يعاني الأطفال من ضغوط نفسية هائلة نتيجة الاعتداءات المتواصلة التي تضعف قدرتهم على التحمل، وتترك آثارًا عميقة على صحتهم النفسية والعاطفية. بات القلق والحزن والإجهاد علامات واضحة تبرز على وجوههم الصغيرة، في إشارة إلى محاولتهم التكيف وسط بيئة مشبعة بالخوف وانعدام الأمان. ورغم الجهود الحثيثة التي تبذلها الأمهات لطمأنة أطفالهن وتخفيف وقع الصدمات عليهم؛ فإن هذه المحاولات غالبًا ما تصطدم بواقع قاسٍ يجعل من الصعب توفير الراحة والسكينة لهم.
وجدت ميساء تغيّرات واضحة في سلوك ابنتها، التي ترفض اللعب مع الأطفال الآخرين، وتطلب بإصرار ألعابها القديمة التي بقيت في بيتهم، أما مريم فلا تعرف ماذا تفعل مع طفلها ذي الثمانية أشهر الذي لا يستطيع النوم جيدًا، ويفرّ كالعصفور مع كل صوت”.
توضح المختصة في علم النفس العيادي، آمنة شبّو، في مقابلة مع “مواطن” أن الأعراض النفسية التي تظهر على الأطفال في مناطق النزاع غالبًا ما تتجسد في شكل رهاب وخوف مرضي من الأشخاص أو الأصوات العالية، كما يعاني الأطفال من اضطرابات النوم؛ مثل الكوابيس المتكررة وتقلبات مزاجية، وسلوكيات غير اعتيادية تتراوح بين الانسحاب الاجتماعي والتعلق المفرط بالوالدين، أو حتى فرط الحركة. هذه السلوكيات تعكس التوتر والقلق الداخلي الذي ينتج عن فقدان الشعور بالأمان، لا سيما إذا كان الطفل قد عانى من فقدان أحد أفراد الأسرة أو الأصدقاء، أو تعرض لتدمير منزله أو مدرسته. تؤدي هذه التجارب المؤلمة إلى تشوه رؤيتهم للعالم؛ حيث يبدؤون في اعتباره مكانًا مليئًا بالشر والعدائية، مما يزيد من صعوبة تكيّفهم مع الحياة، ويترك أثرًا عميقًا على نموهم النفسي.
تشعر سامية، النازحة في إحدى مدارس “صوفر” بالحزن على حال الأطفال، وتقول: “معظم الجمعيات والمؤسسات تركز على تقديم المساعدات العينية من دواء وطعام واحتياجات أساسية، كالفراش والأغطية والملابس الشتوية، وحاليًا توفير بعض وسائل التدفئة، لكن لا أحد يكترث لحالة التشرد والضياع التي يعيشها الأطفال، حتى أهاليهم”. وتضيف سامية: “أراقبهم وهم يلعبون في المدرسة، يكسرون أغصان الشجر لتسلية أنفسهم”.
تعكس كلمات سامية حجم المعاناة التي يتجرعها الأطفال وأسرهم، وقد أصبحوا فريسة للتوتر والانفعال في ظل الظروف القاسية التي يعيشونها. ومع غياب أبسط وسائل الترفيه، يفتقر هؤلاء الأطفال إلى ما قد يخفف عنهم ولو قليلًا من وطأة الأحداث المؤلمة والعنيفة من حولهم.
تأثيرات الحروب على الأطفال عميقة ودائمة، وستظل تؤثر في حياتهم ومستقبلهم، ومن ثم في المجتمعات التي ينتمون إليها
تُعدّ مهارات التواصل أمرًا مهمًا في علاج الاضطرابات النفسية، لكن الأطفال غالبًا ما يجدون صعوبة في التعبير عن مشاعرهم بالكلام. وتوضح الأخصائية النفسية آمنة شبّو أن اللعب والرسم وكتابة القصص هي وسائل فعّالة لاكتشاف ما يدور في داخل الطفل ومساعدته على تخطي المعاناة التي يعيشها. وتضيف أن الأنشطة الترفيهية ليست مجرد ترف؛ بل هي جزء أساس في من عملية التعافي.
استنادًا إلى خبرتها؛ بادرت “شبّو” بشكل فردي إلى تقديم جلسات دعم نفسي للأطفال النازحين في مراكز الإيواء القريبة منها، مشيرةً إلى أن الأطفال غالبًا ما يرسمون صواريخ، مبانيَ مدمرة، وأماكن أُزيلت من حياتهم؛ ما يعكس حجم الفقدان والتشرد الذي مرّوا به.
رغم الظروف الصعبة التي يواجهها الأطفال في المدارس، يبقى تنظيم الأنشطة الترفيهية والتربوية محدودًا، وقليل من الجمعيات المدنية تركز على صحتهم النفسية. وتوضح الدكتورة علوية حيدر، رئيسة “الملتقى النسائي”: “نحاول تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال من خلال أنشطة تساعدهم على استعادة جزء من روتينهم اليومي. ورغم افتقارنا للمستلزمات المطلوبة؛ فإننا نعمل بجهود تطوعية لإعادة رسم البسمة على وجوههم”.
وفي حديثها مع “مواطن”، تشير الدكتورة “حيدر” إلى أن الأطفال الذين يُجبرون على النزوح لا تتحسن حياتهم بمجرد وصولهم إلى مراكز اللجوء؛ بل يواجهون تحديات جديدة. ولنشعرهم بالاطمئنان قررنا القيام بنشاطات تربوية ترفيهية في مراكز ايوائهم..، لكن هذا الجهد وحده غير كافٍ. من الضروري تكاتف جميع فئات المجتمع لتوفير بيئة آمنة وداعمة للأطفال، بما يساهم في إعادة
اعادة شعورهم بالاطمئنان والثقة بأنفسهم”.
تعبّر الأخصائية النفسية آمنة شبّو عن أسفها لعدم وجود برامج كافية موجهة للأطفال، مشيرة إلى أن اللعب والأنشطة الفنية يمكن أن تكون وسائل فعالة لتخفيف المشاعر السلبية لديهم. ومع ذلك، تثني على المبادرات الفردية والجمعيات المحلية التي تبذل جهدًا في تنظيم الأنشطة واستخدام الفن والموسيقى كوسائل مساعدة للأطفال، للتعامل بشكل أفضل مع مشاعرهم.
ورغم أهمية هذه المبادرات، ترى “شبّو” أن للأهل دورًا رئيسًا في إعادة شعور الأمان إلى أطفالهم، وتؤكد على ضرورة حماية الأطفال من مخاوف الكبار وضغوطهم. وتقول: “نفهم حجم الضغوط التي يواجهها الأهالي، إلا أنه من المهم أن يبعدوا أطفالهم قدر المستطاع عن هذه المخاوف، لأن ما يتعرض له الأطفال يتجاوز قدرتهم النفسية على التكيف”. وتشير الدراسات إلى أن الإجهاد الناجم عن مثل هذه الصدمات يمكن أن يؤثر سلبًا على نمو الدماغ، ويضعف القدرة على التركيز والتعلم، مما يضر بتطورهم النفسي والمعرفي.
كما توضح “شبّو” أن تأثيرات الحروب على الأطفال عميقة ودائمة، وستظل تؤثر في حياتهم ومستقبلهم، ومن ثم في المجتمعات التي ينتمون إليها. وحسب دراسة بعنوان “الندوب الدائمة للحرب: كيف تؤثر الصراعات على حياة الأطفال بعد انتهاء القتال؟”، والتي نُشرت في 15 من أكتوبر 2024؛ فإن هناك وسائل للحد من الأضرار التي تلحق بالأطفال؛ منها توفير مساحات آمنة للعب والتعلم، وتقديم الدعم لمقدمي الرعاية، لأن صحة الأهل العقلية تؤثر بشكل مباشر على رفاهية الأطفال. رغم أهمية هذه التدخلات، إلا أنها لا تعدو كونها حلولًا مؤقتة، ولا بد من تدخل دولي جاد لزيادة التمويل المخصص لحماية الأطفال وتعليمهم، والعمل على معالجة أسباب النزاعات.
في ظل الظروف المأساوية التي يعيشها الأطفال اللبنانيون اليوم، يصبح دعمهم النفسي واجبًا إنسانيًا وليس ترفًا. تمثل جهود المنظمات الإنسانية خطوة ضرورية، لكنها غير كافية في ظل نقص الموارد، مما يستدعي تحركًا دوليًا فعّالًا ومستدامًا لتقديم الدعم المطلوب، والعمل نحو إيجاد حلول دائمة تعيد لهؤلاء الأطفال الأمل في حياة أكثر استقرارًا بعيدًا عن أجواء الحرب والعنف.