دائمًا ما تثار فكرة بالإعلام الإخباري مؤخرًا، وهي ضرورة عدم تمثيل الدولة في أية قوة عسكرية سوى الجيش، ويسقطون ذلك على “فلسطين ولبنان” تحديدًا، بمعنى عدم الاعتراف بأية مقاومة تصدر من تلك الدول غير معبرة عن الاتجاه الرسمي للدولة، أو قرارات السيادة الصادرة عن مراكز الحكم المختلفة، كالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
هنا وجب التوضيح بأنه لا خلاف من الناحية النظرية مع أصل الفكرة؛ فالدولة الحديثة التي ألهمت العالم منذ القرن 18 هي أحدث ما وصل إليه الإنسان من تطور فكري واجتماعي وفلسفي وحقوقي بشكل عام، أصبحت فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم أكثر وضوحًا واتساقًا، وهي الدولة القائمة على مبادئ السيادة، ووحدة الوطن داخل حدود جغرافية معينة، والسلامة والتعاون الإقليمي، واحتكار القوة المادية لصالح الدولة، وبات هذا المفهوم هو المتعارف عليها إنسانيًا وفكريًا وسياسيًا –وحتى دينيًا– منذ أكثر من قرنين؛ حيث ظهرت فتاوى حديثة تفسر مفهوم المواطنة على أساس الجغرافيا المحدودة والجنسية وليس على أساس الدين.
لكن هذا المفهوم للوطن أو للدولة الحديثة نراه يختلف بشدة في ظل الصراعات المتكررة والمعقدة في الشرق الأوسط؛ حيث ظهرت قوى بديلة للدولة ترفع شعار المقاومة ضد إسرائيل، وتتخذ من الدين والأيديولوجيا مرجعًا ملهمًا لها، ووسيلة تربوية في إعداد جيل المقاومين، وهذا محل بحث ونظر يجب فهمه من عدة نواحٍ.
الصراعات المعقدة تنتج وضعًا معقدًا
لا شك أن الصراع العربي الإسرائيلي، أو ما اصطلح عليه بالإسلامي-الصهيوني، هو صراع معقد تتشابك فيه عوامل الدين والقومية واللغة والتاريخ والهوية الوطنية؛ فإسرائيل أكثر من كونها كيانًا صهيونيًا يهوديًا في المخيلة العربية؛ بل هي رديف للاستعمار الغربي الذي احتل بلاد العرب قرابة 100 عام منذ القرن 19 حتى النصف الثاني من القرن 20، وفي المخيلة العربية تقدم إسرائيل نفسها على أنها وريث الحضارة الغربية في وسط عربي وإسلامي متخلف، وهي الدولة الرائدة حقوقيًا وديموقراطيًا في وسٓط عربي وإسلامي مستبد. هكذا جرى تصويرها عبر عقود من عدة جهات فاعلة.
فضلاً عن الوضع الديني؛ حيث تدعو إسرائيل من بعض أجنحتها الدينية المتطرفة لإنشاء دولة أرض الميعاد من النيل إلى الفرات، وصار ذلك من أدبيات بعض الأحزاب الكبرى الفاعلة في الحكومة، وجرى ترديد هذه الأقاويل على لسان وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش مؤخرًا؛ فضلاً عن تقديم إسرائيل نفسها كدولة يهودية عبرية قومية ضد العرب والعروبة، وقرار نتنياهو عام 2018 بتسمية إسرائيل بالدولة اليهودية، وهي قصة صدام قومي ظهر منذ أواخر القرن 19، والتي تبلورت فيه مفاهيم القوميات الكبرى التي تصارعت لاحقًا في الحربين العالميتين.
إذا ما خيرت الجمهور بين مقاومة الاحتلال وبين الالتزام بمقررات وسياسات الدولة التي يراها الشعب مداهنة وسلبية، سيختار المقاومة، وهذا سر من أسرار شعبية المقاومة ضد إسرائيل في مصر، رغم اتفاقية السلام قبل 45 عامًا، وسر من أسرار شعبية المقاومة في الأردن ضد إسرائيل، رغم اتفاقية وادي عربة قبل 30 عامًا
في المقابل ومنذ السبعينيات، ومع تزامن صعود حزب الليكود الديني، الذي يمثل اليمين الإسرائيلي مع صعود الأحزاب والجماعات الإسلامية المختلفة، وقد تفوق بعضها في مناطق وفشلت في أخرى، لكنها تفوقت وتمكنت في إيران؛ حيث جرى إنشاء أول جمهورية إسلامية دينية في العصر الحديث منذ عام 1979، ومنها صعدت الأحزاب الإسلامية الدينية؛ ليس فقط عن مرجعية دينية؛ بل عن هوية عربية نادت بالارتباط الشرطي بين العروبة والإسلام، نزولاً على شرط اختيار الخليفة السني من قريش، والإمام الشيعي من نسل الإمام الحسين، وبذلك تحددت معالم الصراع وتداخلت بشدة حتى أنتجت لنا عدة معارك بوجهات نظر مختلفة، كان العاملان؛ الديني والقومي فيها هما المهيمنين.
وأبرز هذه المعارك هي الحرب الأهلية اللبنانية، وغزو السوفييت لأفغانستان، والحرب بين العراق وإيران، وغزو الكويت، وغزو أمريكا للعراق وأفغانستان، ومؤخرًا الحربان الأهليتان في سوريا والعراق؛ فضلاً عن الصراعات الحديثة المتشابهة والمتشابكة مع أسباب ودواعي كل ما سبق، ومنها عاصفة الحزم بين قوات الحلفاء العربية ضد الحوثيين في اليمن.
لقد أنتج ذلك شكلاً من أشكال الدولة؛ ليس هو الشائع في القيم الغربية الحديثة، وجرى تعريفه في الدساتير والقوانين؛ فالدولة في ظل الحروب والشعور بالخطر هي كيان عسكري تابع للملك أو الأمير أو الرئيس أو المتحكم والنافذ عسكريًا، أيًا كان هو؛ فحدود الجغرافيا والوطن شيء ثانوي بعد الدفاع عن المواطنين والشعب والثقافة والهوية، ومن تلك الجزئية خرجت بعض القواعد التي حكمت الحرب ومبادئ المقاومة والنضال ضد الاستعمار، أشهر تلك المبادئ ما قاله المناضل الأفريقي الأمريكي “فيليب راندولف”، بأن الحرية لا تُمنَح أبدًا ولكنها تكتسب”، ثم جرى التعبير عن ذلك المبدأ في الثقافة العربية بصياغة أخرى وهي: “إن الحرية لا توهَب ولكنها تُنتزَع”.
فالشعوب ترفض أن تكون مضطهدة داخل حدودها، وذلك هو أبسط تعبير عن الشعور الفطري الإنساني بحق الملكية؛ فالبشر يحبون أن يتصرفوا بأملاكهم كيفما شاءوا، ومن ضمن هذه الأملاك؛ الأرض والمنزل والثروة، وهي الأملاك التي يصادرها الاحتلال أولاً، ويبدأ بانتزاعها من أصحاب الأرض بالقوة، حينها يتولد شعور فطري بضرورة مقاومة المحتل، وهو الشعور الفطري الذي يخالج أي فلسطيني بأي مكان بالعالم، مثلما خالج شعوبًا مضطهدة في التاريخ، كشعوب أفريقيا والشرق وأمريكا اللاتينية كأكثر شعوب العالم مرورًا بتجارب الاحتلال.
صراعات الشرق الأوسط وعلاقتها بغزة
إن تأطير هذه الحروب بحيزها الجغرافي، هو عدم فهم لطبيعتها وأسبابها؛ فالعوامل المؤطرة لها هي نفس العوامل التي تؤطر المشهد في فلسطين؛ فجماعة أنصار الله حاربت السعودية والإمارات والبحرين وميلشيات الجنجويد السودانية (قوات الحلفاء العربية)، على أن هؤلاء الحلفاء يحاربون نيابة عن أمريكا وإسرائيل، والعكس صحيح؛ أي حاربت قوات الحلفاء العربية الحوثيين على أنهم عملاء لإيران، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله حاربا حزب الكتائب اللبناني وجيش أنطوان لحد بوصفهما ضمن عملاء إسرائيل، بينما حارب حزب الكتائب خصومه في منظمة التحرير وحزب الله وحركة أمل على أنهم دعاة إرهاب وفوضى، وياللعجب، إنها كانت نفس حجج صدام حسين في غزو الكويت، حين اتهم أمراء الكويت بالعمالة لإسرائيل، وكل من يدافع عن الكويتيين بنفس التهمة.
ومؤخرًا حارب الجيش السوري قوات المعارضة والثورة السورية على أنهم عملاء لإسرائيل وحلف الناتو، بينما حاربت قوات المعارضة والثورة السورية الجيش السوري على أنه عميل لإيران والشيعة، وهو نفس البعد والتأطير الذي حدث في العراق؛ حيث حاربت قوات العشائر العراقية في الأنبار (تحولت لاحقًا لداعش)، الجيش العراقي بوصفه عميلاً لإيران والشيعة، وحارب الجيش العراقي والحشد الشعبي قوات هذه العشائر على أنهم عملاء لإسرائيل وإرهابيون دواعش.
هنا الرابط الذي أقصده بين امتداد قضية فلسطين وتأثيرها البالغ على الدولة الحديثة.
فإذا ما خيرت الجمهور بين مقاومة الاحتلال وبين الالتزام بمقررات وسياسات الدولة التي يراها الشعب مداهنة وسلبية، سيختار المقاومة، وهذا سر من أسرار شعبية المقاومة ضد إسرائيل في مصر، رغم اتفاقية السلام قبل 45 عامًا، وسر من أسرار شعبية المقاومة في الأردن ضد إسرائيل، رغم اتفاقية وادي عربة قبل 30 عامًا، بينما هو سر الحياد الملحوظ في دول الخليج ناحية القضية؛ حيث يميل الخليجيون للعداء مع إسرائيل وإيران معًا، ونظرًا لعدم الاحتكاك المباشر بين الخليجيين وإسرائيل، أو تعدي إسرائيل عليهم يومًا ما، أو تهديدهم بشكل صريح سياسيًا ودينيًا؛ فهم أقرب للميل إلى الرواية الإسرائيلية ضد فلسطين، رغم الخلاف الديني والسياسي مع الصهيونية من باب عدو عدوي صديقي، ونظرًا للصراعات السابقة في التاريخ بين عرب الخليج وإيران.
إن حق تقرير المصير الذي يؤمن به الفلسطينيون هنا وكل من يدافع عن حقهم في السيادة، لا يفهمه أغلب الخليجيين الذي يرون إسرائيل بصورة مختلفة عن التي يراهم بها الفلسطينيون؛ فالفلسطيني طُرِدَ من أرضه ومنزله، ويعيش مضطهدًا منذ عقود؛ فلا حقوق سياسية أو اقتصادية أو إنسانية بالعموم، سوى الذي يسمح به الاحتلال وفقًا لمصالحه، بينما الخليجي يرى إسرائيل كمعادل عسكري لإيران التي هي في الثقافة الخليجية (عدو أول) بحكم التاريخ والصراع الممتد منذ قرون، والذي عززه العامل الديني الطائفي بالعقدين الأخيرين، بإضافة حجية الصراع بين السنة والشيعة لهذا المُعادِل، وبما أن اليهود الإسرائيليين لم يعتدوا على عرب الخليج، لكن إيران الشيعة اعتدت، إذن فمن الحكمة الخليجية أن لا ينصر العرب هناك محور المقاومة على إسرائيل، والأفضل هو الحياد أو تبني الرؤية الإسرائيلية ونشرها.
الرؤية هنا نسبية؛ حيث بالاطلاع على كلتا الرؤيتين، يتبين أننا أمام تفسير واحد للاحتلال والمقاومة، لكن الاختلاف في تعيين العدو هو الذي أنتج ذلك التباين الملحوظ؛ فالرؤية الفلسطينية ترى الاحتلال عدوًا، بينما الرؤية الخليجية ترى إيران عدوًا، وبما أن إيران هي داعم المقاومة ضد الاحتلال الأول عسكريًا وسياسيًا وثقافيًا ودينيًا، جرى اعتبار أعمال المقاومة في الخليج على أنها صراع إيراني إسرائيلي، وليس عملاً مشروعًا لمقاومة المحتل، وهذه الصورة شائعة للغاية في الخليج، ويتبناها المثقفون والشعب بشكل واضح.
إن فكرة الدولة الحديثة الخاضعة للاحتلال وتعارضها مع مبدأ المقاومة، هو الذي يدفع مثقفي الخليج للحديث بكثرة عن الاستقرار والمصالح، في معرض حديثهم عن ضرورة نبذ المقاومة والصلح مع إسرائيل، وهذا الذي أنتج خضوعًا من الدولة للاحتلال، وهو المتسبب الأول في انشقاق جماعات وأحزاب فلسطينية وعراقية ولبنانية ويمنية عن فكرة الدولة وتبنيها خطابًا مناهضًا للاحتلال، هو البديل السياسي والعسكري والاقتصادي الكافي لغياب الدولة الذي يعانونه.
وفي هذا إشارة لضرورة تحقيق الدولة أولاً، مع تقويتها لتصبح قوة مناهضة للاحتلال قبل الحديث عن نبذ فكرة المقاومة، لأن حدوث العكس يجعل من أي نداءات للصلح والاستقرار مجرد خضوع وهزيمة، وقبول لسرقة الأرض والأملاك؛ فالمقاومة -كفكرة- هي التزام أخلاقي يجسد الرغبة الفطرية للإنسان في الحرية والكرامة والقدرة على التصرف، ومقاومة الاحتلال ليست مجرد عمل من أعمال التحدي الفوضوي، ولكنها تأكيد لوجود الإنسان وحقوقه المشروعة التي يكتسبها منذ الصغر، وجرى التعبير عنها في أول حق يشعره له الطفل منذ نعومة أظفاره، وهو (حق الملكية).
الاحتكاك سيد المشهد
تنبع قصة تصنيف مقاومة فلسطين ولبنان وخروجهما عن فكرة الدولة الحديثة من قصة الاحتكاك وفضيلة التحرير؛ حيث إن قوة المقاومة تتجذر في أخلاقيات التحرير بالأساس، وهو ما يعطيها الشرعية والقبول الشعبي، ويقول إنريكي دوسيل الفيلسوف البارز وآخرون في كتابهم “أخلاقيات التحرير في عصر العولمة”: “إن المضطهدين والمستغلين لديهم واجب أخلاقي في النضال من أجل تحريرهم”. ويتردد صدى هذا المنظور مع محنة الفلسطينيين واللبنانيين الذين لا يرون المقاومة مجرد استراتيجية سياسية؛ بل ضرورة أخلاقية لاستعادة كرامتهم وتقرير مصيرهم، وعندما تتواطأ الدولة الحديثة مع الاحتلال أو تفشل في حماية مواطنيها؛ فإنها تفقد سلطتها الأخلاقية فورًا، مما يدفع الناس نحو أشكال بديلة من المقاومة تتوافق مع قناعاتهم الأخلاقية.
فما بالك إذا كان هناك قناعات دينية وقومية وسياسية واقتصادية أخرى تفرض عليهم تلك المقاومة، وهو نوع من التعقيد يتلبس المشهد الحالي في الشرق الأوسط، ويُعيد تكرار الصراع مع إسرائيل بصور مختلفة؛ فقد بدأ قوميًا وينتهي حاليًا بشكل ديني، أو قومي ديني مزدوج، وهي قصة يجب فهمها بعيدًا عن قصة الميول السياسية والانحيازات؛ فالبعض ممن يرى ضرورة التسويق لجيش الدولة الواحد واحتقار فكرة الميلشيا الخارجة عن النظام في كل من غزة ولبنان، لم يناقش أسباب وتداعيات عدم وجود دولة فلسطينية، ويتغاضى عن ضعف الدولة اللبنانية منذ اتفاق الطائف عام 1989.
كذلك هو لم يناقش أسباب وتداعيات فكرة المحاصصة العراقية وتأثيرها على قوة الجيش الوطني، وهي الأسباب التي دعت للحاجة إلى إنشاء جيش بديل في ظل تهديدات داعش، التي دعت الحاجة إليه بعد مجزرة سبايكر عام 2014 لإنشاء جيش بديل يصد هجوم داعش، والذي يستهدف المواطنين الشيعة في العراق بالدرجة الأولى.
إذن هناك عوامل دينية وطائفية مرتبطة بالصراع في فلسطين، هي التي أنتجت المشهدين العراقي واللبناني، وفي سياق الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ينظر كثيرون إلى المقاومة باعتبارها حربًا عادلة ضد احتلال قمعي استمر لعقود من الزمن، إضافة للحجية الثقافية والأخلاقية الكبيرة وراء تلك المقاومة التي تراها شعوب العراق ولبنان وفلسطين وسوريا واليمن، محاولات للشعور بهوية مشتركة والشعور بالانتماء، وهو الشعور الأول الذي يحرك قضايا المقاومة بالمجمل، وآثاره تظهر على الأرض في تضامن شعبي وتكافل ودعم متبادل، وهو شعور ممتع لدى الشعوب تكتسبه في أوقات المقاومة، وهي المتعة التي تشعرها بها تلك الشعوب حاليًا ضد إسرائيل، وتنظر إلى خسارتها في سبيل ذلك على أنها تضحيات أخلاقية من أجل العدالة.
ينبع دعم الجماهير للمقاومة من شعور عميق بالتضامن المجتمعي لعدة أسباب؛ منها الخبرة المشتركة مع الاحتلال والذاكرة الجماعية لجرائمه المختلفة
فالمعاناة التي يشعرها المقاومون، هي التي تنتج المعنى الأخلاقي والإنساني في نفوسهم، وهو معنى مترابط بشدة، يجمع بين فضائل الدين والأخلاق واللغة والسياسة والجغرافيا والتاريخ.. إلخ، لذا فرؤية هؤلاء المقاومين للموت ليس على أنه خسارة تستدعي التنازل، ولكنه طريق ضروري لاستعادة الكرامة والحق المسلوب، وما من شعب قاوم الاحتلال من قبل أو سيقاومه بعد، إلا وشعر بهذا الشعور، وأبرز نموذج لذلك هو حرب الجزائر (1954- 1962)، والتي أدت لتحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الذي استمر قرابة 100 عام، ومنه أن الجزائريين لم ينظروا لشهدائهم الذين قاربوا المليوني شهيد على أن ذلك خسارة تستدعي نبذ المقاومة؛ بل كانت تلك الخسارة في نفوسهم ضرورة لاستعادة حق الملكية والشعور بالذات كحاجة فطرية للإنسان يشعرها بها منذ الصغر.
لقد أنتج ذلك ربطًا أخلاقيًا وقيميًا بين فكرة النضال ضد الإرهاب وضد إسرائيل معًا في المخيلة العربية منذ ظهور داعش، والانتفاضة العربية ضد الإرهاب التي بدأت إرهاصاتها منذ عام 2014 بهجوم مصري سوري عراقي كبير على مراكز الإرهاب، تشبه إلى حد كبير من جنباتها الانتفاضة العربية ضد الإرهاب الإسرائيلي في الأربعينيات، مع الفارق في الطبيعة والنتائج، لكن الحشد والدعاية والأسباب التي دفعت تلك الجيوش للحركة تقريبًا واحدة ومتشابهة، يعلوها خطاب واحد؛ هو (صد الخطر الأكبر)؛ ففي الأربعينيات كان الخطر الأكبر صهيونيًا، ومنذ عام 2014 كان الخطر إرهابيًا داعشيًا قاعديًا.
العاطفة الشعبية للمقاومة تتخطى حواجز الدولة
ينبع دعم الجماهير للمقاومة من شعور عميق بالتضامن المجتمعي لعدة أسباب؛ منها الخبرة المشتركة مع الاحتلال والذاكرة الجماعية لجرائمه المختلفة؛ مثل التشريد والمعاناة والقتل الجماعي والإبادة وهدم المساكن والاغتيالات السياسية، إنها عاطفة تخلق رابطة اجتماعية قوية تتجاوز المصالح الفردية لصالح الجماعية، وتستغل حركات المقاومة هذه العواطف في تعزيز الشعور بالانتماء والهدف الذي لا تستطيع الدولة الحديثة إنجازه عن طريق القانون؛ فتحل المقاومة كبديل لهذا القانون المفقود، لذلك فيمكن اعتبار لوم المقاومات في فلسطين ولبنان نوعًا من السخط على غياب القانون والدولة في ظل السخط على الوضع الحالي الذي أدى لذلك.
بمعنى أن الذي يطعن في المقاومات العربية ضد إسرائيل بدعوى أنها لا تمثل دولاً، ولا تتحدث باسم جيوش وطنية مجمع عليها، هو في قرارة نفسه ساخط على الوضع البائس الذي أنتجه غياب الدولة، وساخط أيضًا على ضعف هذا المجتمع وتصدر مجموعة منه لا تُحسن التصرف، وهو نوع من إحسان الظن بكل الناقدين، لأنهم جميعًا ليسوا كذلك؛ بل يتوسل البعض بفكرة غياب الدولة لعقاب المقاومة بالأساس، لخروجها على إسرائيل؛ فهو مؤيد لإسرائيل ويرى المقاومة إرهابًا، لكنه لا يفصح عن ذلك المكنون بداخله كي لا يُعرض نفسه للعقاب المجتمعي الرافض لإسرائيل والصهيونية، ويستعيض عن ذلك بدعاوى أكثر حكمة واتزانًا، وهي ضرورة وجود وسيطرة الدولة.
والسؤال المحوري هنا: هل سبق للمقاومات الشعبية إنشاء دول بعد انتصارها؟
يقول التاريخ إن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها هي نتاج مقاومة شعبية مسلحة ضد الاحتلال الإنجليزي، والنضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أدي أخيرًا لإنشاء دولة جنوب أفريقيا الحالية، وحرب الاستقلال الجزائرية هي التي أدت لإنشاء دولة الجزائر، وأمثلة كثيرة عند العرب والأفارقة والشعوب المستعمرة؛ حيث مهدت المقاومة الطريق لإنشاء دول ذات سيادة، مما يعني أن فكرة المقاومة وإن لم تنبع بالأساس عن جيش وطني، لكنها في أغلب صورها التاريخية تفضي إلى جيش وطني حقيقي وقوي.
وفي هذه الحقيقة التاريخية معنى إنساني تجريبي تاريخي آخر؛ هو أن التنازل أمام المحتل يفضي دائمًا إلى مزيد من التعديات والسرقات والانتهاكات، بينما المقاومة في غالب أحوالها –رغم الخسائر– توقف هذه التعديات والانتهاكات، وتدفعها لمزيد من التقلص وصولاً للقضاء عليها نهائيًا مع التحرير؛ فالاستسلام للمحتل لا يؤدي إلى العدالة؛ بل إلى مزيد من الظلم. هكذا هي تجارب الاحتلال في التاريخ؛ فضلاً عن أن الاستسلام في جوهره يدفع الشعوب لفقدان الثقة بأنفسهم، حتى تظهر فيهم علامات الضعف والانحطاط المعرفي والتخلف الثقافي، وهذا سر من أسرار تخلف شعوب الشرق؛ فغالبيتها وقعت تحت الاحتلال في السابق، وما زالت تبحث عن ذاتها بطرق مختلفة.
المقاومة وضمان الاستقرار
أختم بالشبهة الرئيسة الموجهة لأي مقاومة ضد إسرائيل، وهي أنها “تزعزع الاستقرار”، وهي مقولة صادرة عن متحكم نافذ لا يريد معارضة أو تغييرًا من أي نوع، وهذا المتحكم لو كان دكتاتورًا، يُسقط فورًا قيم الفوضى والإرهاب على خصومه، وفي حالة فلسطين نرى هذا بوضوح؛ حيث تتعرض المقاومة لتهم الفوضى والإرهاب وزعزعة الاستقرار، وهي بالفعل كذلك، لكن بالنسبة للاحتلال لا لغيره، وعندما يرددها كائن آخر دعمًا للمحتل، نسأله فورًا: (ما الضرر المادي والمعنوي الذي أصابك من المقاومة؟!). وفي الأجوبة على تلك الأسئلة المباشرة، يكون السرد فيها واضحًا ومباشرًا وبأدلة يقينية لا يتطرق إليها الاحتمال، وليست عبارة عن تكهنات وظنون.
إن المقاومات في بعض مشاهد التاريخ تزعزع الاستقرار، لكنها في مشاهد أخرى تحفظ هذا الاستقرار، والعبرة في سياق المقاومة نفسه؛ فبرغم أن المقاومة قد تؤدي إلى إثارة صراعات قصيرة الأمد؛ فإنها قد تؤدي أيضًا إلى السلام على المدى الطويل من خلال معالجة الأسباب الجذرية للعنف؛ مثل الاحتلال والقمع والتشريد، وقد حدث ذلك في نماذج كثيرة جدًا، بدءً من المقاومة الأمريكية التي أقامت سلامًا طويل الأمد مع بريطانيا، ومع المقاومة الجزائرية التي أقامت سلامًا طويل الأمد مع فرنسا، ومع المقاومة الهاييتية التي أقامت سلامًا طويل الأمد مع فرنسا، ومع المقاومة الصينية التي أقامت سلامًا طويل الأمد مع اليابان.. وهلمّ جرًا.
وأرى أن علاج آثار المقاومة أو تصويب فكرتها وأساليبها لا يعني التعرض لطبيعتها أو جوهرها بالأساس؛ فالبعض يخلط بين الجوهر والسلوك، إن جوهر المقاومة لا غبار عليه كحق إنساني أصيل، لكن تصويب السلوك يمكن ذلك من خلال النقد الموضوعي الهادف الذي يحفظ أولاً وقبل كل شئ، حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأما استعمال الدولة الحديثة كسلاح لشيطنة المقاومة؛ فهو ينم عن عدم فهم لطبيعة الحروب من جانب، ولطبيعة الاحتلال من جانب ثانٍ، ولطبيعة الدولة الحديثة من جانب ثالث.
إن تعقيدات الدولة الحديثة ظهرت بشكل واضح في فلسطين ولبنان والعراق، وهي تعقيدات تضفي الشرعية على أية مقاومة ضد الاحتلال، التي هي عبارة ظاهرة متعددة الأوجه، تتحدى مفهوم الدولة الحديثة عندما تفشل في تمثيل مواطنيها، أو حمايتهم بجيوش وطنية قوية ومدعومة؛ فالجيش الوطني اللبناني ممنوع دعمه إقليميًا ودوليًا خشية توظيفه لمصلحة إحدى الطوائف، كذلك في العراق؛ فالطائفية إذن والمحاصصة متداخلتان بشدة في المشهد الحالي، ومن اللائق نقد هذه الأشياء قبل التطرق لآثارها التي أنتجت فصائل مقاومة ضد إسرائيل، وعليها بالضرورة فهم الدوافع الأعمق التي تدفع الجماهير إلى تفضيل المقاومة على الدولة التي تدعم الاحتلال أو تسترضيه بشكل عام، ومن خلال هذا الفهم فقط، يمكننا تمهيد الطريق لمستقبل دول وطنية وجيوش موحدة؛ حيث تتوافق مبادئ الدولة مع تطلعات جميع الناس إلى الكرامة والسلام والحرية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.