منذ السابع من أكتوبر، وعلى عكس حيادها المعروفة به، بدأت عمان في إظهار نهج جديد في التعامل مع الولايات المتحدة بسبب دعمها اللامحدود لإسرائيل؛ فتارة ينتقد مسؤولوها الولايات المتحدة علنًا، وتارة أخرى تسمح بالتظاهر دعمًا لفلسطين، وتغض الطرف عن حملات المقاطعة. في هذا المقال الذي نُشر في المركز العربي واشنطن دي سي بعنوان عُمان وغزة والعلاقات مع الولايات المتحدة، وترجمته “مواطن” للعربية، يتتبع الكاتب الأمريكي جورجيو كافييرو تاريخ العلاقات الخارجية بين عُمان وأمريكا، ومدى عمق تعاملها مع إسرائيل في حقبة قابوس وما بعده؛ فهل كانت حرب السابع من أكتوبر هي بداية الرفض الرسمي لإسرائيل؟ وكيف سيؤثر ذلك على علاقتها التاريخية بالولايات المتحدة؟
ترجمة: الزهراء عزازي
عمان وغزة، والعلاقات مع الولايات المتحدة
لطالما تبنت سلطنة عمان نهجًا هادئًا في الساحة الدولية، مرتكزةً على سياسة خارجية تتبع مبدأ الصداقة مع الجميع، وتقوم على أسس الاعتدال والدبلوماسية والحوار. كما تُعرف السلطنة بدورها كميزان جيوسياسي يلتزم بـ”الحياد الفعّال”؛ إذ تتجنب الانحياز إلى أي تكتل قوي ضد آخر، حتى مع اعتماد مسقط على واشنطن كمورد رئيس للأسلحة، وضامن نهائي لأمنها. لهذا، يميل المسؤولون العمانيون إلى تجنب توجيه انتقادات علنية للولايات المتحدة حتى في حال وقوع خلافات سياسية كبيرة.
في الأشهر الأخيرة، تسبب الدعم الشعبي القوي للقضية الفلسطينية في عمان فضلًا عن خلفياتها السياسية والدينية والاجتماعية؛ في صدور إدانات علنية من مسقط تجاه الولايات المتحدة، بسبب دعمها المطلق لإسرائيل في حربها على غزة. ورغم تصاعد المشاعر المعادية لأمريكا وانزعاج القيادة العُمانية من موقف واشنطن تجاه إسرائيل، لا توجد لدى عُمان أية نية للتخلي عن علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. وستواصل السلطنة العمل بشكل وثيق مع إدارة بايدن -التي تُثمن دور مسقط كوسيط لدى خصوم الولايات المتحدة الإقليميين- لمنع تصاعد النزاع في غزة.
تشعر عُمان ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بقلق كبير إزاء التطورات المرتبطة بالحرب، مثل التصعيد الذي يقوم به الحوثيون المدعومون من إيران ضد السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، والقصف الإسرائيلي المتكرر للمطارات السورية، وأخيرًا اغتيال إسرائيل لبعض كبار مسؤولي “حماس” خلال الشهور الماضية في لبنان، وتخشى من أن يؤدي توسع الحرب إلى تعطيل التقارب السعودي والإماراتي مع إيران، وزيادة وتيرة العنف مجددًا في اليمن.
خلال فترة حكم السلطان قابوس بن سعيد (1970-2020)، عكست مواقف مسقط إيمانًا حقيقيًا بإمكانية تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين خصوصًا والعرب عمومًا، عبر الدبلوماسية والحوار.
في الوقت نفسه، رفضت عُمان (مثل سائر دول مجلس التعاون الخليجي باستثناء البحرين) المشاركة رسميًا في تحالف “حارس الازدهار”، المبادرة الأمنية الجديدة التي تقودها الولايات المتحدة لمواجهة الحوثيين في البحر الأحمر. يبدو أن عُمان لا ترغب في استفزاز إيران أو التسبب في رد فعل عنيف داخل البلاد من خلال الظهور، وكأنها تصطف مع الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين. وحتى يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، من المتوقع أن تحافظ عُمان على تعاون منخفض المستوى مع واشنطن، وتنتقد علنًا السياسات الأمريكية من حين لآخر، وتسمح لمواطنيها ببعض الحرية في معارضة إسرائيل.
عمان والقضية الفلسطينية
تُعدّ عُمان جزءًا من “التوافق العربي” بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؛ إذ تدعم باستمرار حل الدولتين استنادًا إلى القانون الدولي، وترفض تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى توافق على شروط مبادرة السلام العربية لعام 2002، التي اقترحت إقامة دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود ما قبل عام 1967. ولطالما دعمت مسقط حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة الدولة والعيش بكرامة. ودائمًا ما يؤكد المسؤولون العُمانيون على أن إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية مهم لاستقرار الشرق الأوسط على المدى الطويل. من ناحية أخرى حافظت عُمان على علاقات غير رسمية مع إسرائيل لعقود، أطول بكثير من سائر أعضاء مجلس التعاون الخليجي؛ بل على العكس من ذلك، لم تضغط عُمان على مصر لعدم توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، أو على الأردن عام 1994.
خلال فترة حكم السلطان قابوس بن سعيد (1970-2020)، عكست مواقف مسقط إيمانًا حقيقيًا بإمكانية تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين خصوصًا والعرب عمومًا، عبر الدبلوماسية والحوار؛ إذ يحدو عمانَ الأملُ بإمكانية حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بوساطة أمريكية خلال مؤتمر مدريد عام 1991، واتفاقيات أوسلو عام 1993، ومن رحم اتفاقيات أوسلو، تأسس مركز أبحاث تحلية المياه في الشرق الأوسط (MEDRC) في عُمان، والذي اعتُبر نموذجًا لتعزيز الدبلوماسية متعددة المسارات عبر تكامل القدرات والتعاون في البحث العلمي بين العرب وإسرائيل. وما زال هذا المركز موجودًا حتى اليوم كآخر منظمة باقية من اتفاقيات أوسلو.
وفي أعقاب أوسلو؛ فتحت إسرائيل وسلطنة عمان مكاتب تجارية في كل من البلدين، إلى أن أغلقتها السلطات العمانية عام 2000 ردًا على العنف الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية. ومنذ تسعينيات القرن العشرين، التقى كبار المسؤولين العُمانيين والإسرائيليين في إسرائيل وقطر وبولندا والولايات المتحدة، واستضافت عمان ثلاثة رؤساء وزارة إسرائيليين؛ هم إسحاق رابين، وشمعون بيريز، وبنيامين نتنياهو في العاصمة مسقط.
ورغم تعاملها مع إسرائيل في بعض الأوقات، استطاعت عُمان تجنب المشكلات مع الجهات المتحالفة مع إيران في المنطقة. وباعتبارها العضو الأكثر وُدّية تجاه إيران في دول مجلس التعاون الخليجي، لم تنضم عمان أبدًا إلى “الإجماع” المناهض للجمهورية الإسلامية بين دول الخليج العربي، ولم تشعر أبدًا بوجود أي تهديد من حزب الله أو الجماعات الشيعية الأخرى المدعومة من إيران. كما كانت عُمان الدولة الوحيدة في مجلس التعاون التي لم تقطع أو تخفّض العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة المتحالفة مع إيران في دمشق خلال الحرب الأهلية السورية.
يتفق الرأي العام العُماني على أن أفعال "حماس" مقاومة مشروعة، وليست إرهابًا. كما يعتقد العديد من العُمانيين أن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "حماس"، كانت نتيجة متوقعة لسياسات إسرائيل التي حرمت الفلسطينيين لعقود من حقوقهم الأساسية وحريتهم وكرامتهم.
وعلى نحو مماثل؛ ففي الوقت الذي لم تقدم فيه عُمان قط دعمًا ماديًا لــ”حماس”؛ فإن السلطنة لم تصنف “حماس” كمنظمة إرهابية. والجدير بالذكر أن عُمان هي واحدة من الدول العربية القليلة التي استضافت الزعيم السياسي الراحل لــ”حماس” إسماعيل هنية، الذي حضر جنازة السلطان قابوس في يناير 2020، والتقى بخليفته السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، مشيدًا بقيادة قابوس ودفاعه عن النضال الفلسطيني من أجل إقامة الدولة الفلسطينية.
تغيرات في حقبة ما بعد قابوس
تغيرت السياسة الخارجية العُمانية تجاه إسرائيل منذ تولي السلطان هيثم بن طارق الحكم؛ فبعد وصول حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة إلى الحكم عام 2022، لم تعد ترى القيادة العُمانية أن تعاملها مع إسرائيل يمكن أن يجلب فوائد للمنطقة.
ورغم موافقة عُمان في فبراير الماضي على السماح للطائرات الإسرائيلية باستخدام مجالها الجوي (بعد أن اتخذت السعودية هذه الخطوة في يوليو 2022)، إلا أن المسؤولين العمانيين لم يشيروا إلى أن هذه الخطوة كانت تمهيدًا للانضمام إلى اتفاقيات “أبراهام”، التي طبعت العلاقات بين البحرين والإمارات والمغرب؛ بل على العكس في ديسمبر 2022، أي قبل موافقتها بشهرين، صوّت مجلس الشورى العُماني على منع العُمانيين من التعامل مع الإسرائيليين؛ سواء أكان شخصيًا أو عبر الإنترنت، ومن التواصل معهم في مجالات الاقتصاد والثقافة والرياضة.
ازدادت حدة موقف عُمان تجاه إسرائيل منذ اجتياح الأخيرة لقطاع غزة في أكتوبر الماضي. ويظهر هذا بوضوح من خلال الانتقادات الصريحة غير المعتادة التي عبر بها المسؤولون العمانيون عن قضايا الشرق الأوسط؛ إذ وجّه وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي في الـ 8 من ديسمبر انتقادات حادة للولايات المتحدة على منصة “إكس” (تويتر سابقًا)، بسبب استخدامها الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الأمن، يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. ووصف أكبر مسؤول دبلوماسي في مسقط فيتو واشنطن بأنه “إهانة مخزية للمعايير الإنسانية”، وأكد أن موقف الولايات المتحدة يُظهر استعدادها “للتضحية بحياة المدنيين الأبرياء من أجل الصهيونية”.
من الجدير بالذكر أيضًا أن عُمان لم تُدن رسميًا أفعال حركة “حماس” في السابع من أكتوبر، ولم تصفها بأنها عمل إرهابي. ووصف ممثل عُمان الدائم لدى الجامعة العربية، عبد الله الرحبي، هجوم “حماس” بأنه عمل مقاومة ضد عقود من الاحتلال الإسرائيلي. بينما، أكد البوسعيدي أن للفلسطينيين الحق في مقاومة إسرائيل، مشيرًا إلى أن حملة إسرائيل لتهجير سكان غزة هي “مقدمة للإبادة الجماعية”.
الرأي العام العماني
كما هو الحال في العالم العربي والإسلامي ودول الجنوب العالمي، يسود في عُمان رأي عام يرى أن الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تطبق معايير مزدوجة فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والنظام الدولي “القائم على القواعد”. إذ يستعر الغضب من الدعم الغربي لحرب إسرائيل على غزة في معظم أنحاء عُمان، ويُعبر عنه بطرق غير معتادة؛ بل وربما غير مسبوقة في السلطنة. على سبيل المثال، أظهر مقطع فيديو نُشر في 16 من أكتوبر على منصة “إكس” مواطنًا عُمانيًا يقترب من مجموعة من الضباط العسكريين البريطانيين في مدينة الدقم الساحلية ويأمرهم بمغادرة البلاد بسبب دعم المملكة المتحدة لإسرائيل.
يستخدم العُمانيون أيضًا قوتهم الاقتصادية لإظهار التضامن مع الفلسطينيين. خلال زيارتي الأخيرة إلى عُمان، علمتُ أن العديد من العُمانيين يقاطعون الشركات الأمريكية التي يُعتقد أنها مؤيدة لإسرائيل، مثل “ستاربكس” و”ماكدونالدز”، بالإضافة إلى المنتجات الإسرائيلية التي دخلت عُمان عبر ميناء جبل علي في دبي. ورغم أن الحكومة العُمانية لم تدعم رسميًا حملات المقاطعة تلك، إلا أنها أكدت احترامها لحق المواطنين والأفراد في عدم شراء منتجات معينة ترتبط بقضايا سياسية دولية.
يتفق الرأي العام العُماني على أن أفعال “حماس” مقاومة مشروعة، وليست إرهابًا. كما يعتقد العديد من العُمانيين أن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها “حماس”، كانت نتيجة متوقعة لسياسات إسرائيل التي حرمت الفلسطينيين لعقود من حقوقهم الأساسية وحريتهم وكرامتهم. الرؤية السائدة في عُمان هي أن حل العنف الذي تشنه “حماس” يتمثل في معالجة جذور الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وتسوية النزاع استنادًا إلى حل الدولتين، وأنه بدون اتخاذ إسرائيل مثل هذه الخطوات سيظل السلام بعيد المنال.
شارك المواطنون العُمانيون في احتجاجات ضد الحرب على غزة، بما في ذلك بعض الفعاليات المؤيدة لــ”حماس”. والجدير بالذكر أن مظاهرة تضامنية مع فلسطين أقيمت أمام السفارة الأمريكية في مسقط بعد 11 يومًا من السابع من أكتوبر، مما دفع الولايات المتحدة إلى تحذير المواطنين الأمريكيين والمتقدمين للحصول على تأشيرة، بالابتعاد عن المنطقة المحيطة بالبعثة الدبلوماسية في ذلك اليوم، وطلبت من الأمريكيين ” توخي الحذر وتجنب التجمعات الكبيرة”.
ومع استمرار الرأي العام العُماني في دعم القضية الفلسطينية بقوة، سيظل المسؤولون العمانيون يرزحون تحت الضغط، ويعبرون علنًا عن رفضهم لسياسة واشنطن الخارجية فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومن المحتمل أن يُسهم ذلك في عزل الولايات المتحدة على الساحة الدولية. ومع استمرار سياسة إدارة بايدن في الشرق الأوسط في إثارة قلق العديد من الدول العربية بشأن اعتمادها على واشنطن، قد تسعى عُمان إلى وجهات إقليمية أخرى لتعميق علاقاتها مع الصين وإيران وروسيا.
وبينما تتأجج الحرب في غزة، ستحاول عُمان حماية نفسها من تداعيات النزاع من خلال العمل مع الأطراف الدولية والإقليمية لاحتواء القتال ووقفه في نهاية المطاف. ورغم أن الولايات المتحدة ستظل لاعبًا رئيسًا في هذا الصراع، لكن شراكتها مع عُمان قد تصبح أكثر حساسية سياسيًا بالنسبة للسلطنة؛ خاصة إذا استمر تصاعد الأزمة الإنسانية والمجازر في غزة.