في قلب الواحات البحرية، وُلد سمير حمودة قبل خمسة وخمسين عامًا؛ في كنف أرضٍ لم تكن مجرد موطنٍ؛ بل شريان حياة. ترعرع بين أشجار النخيل، واستقى من جذورها خبرة زراعية جعلت منه مزارعًا فذًا، يتنفس عبق الأرض ويُهدي الناس ثمارها. منذ صغره، كانت الزراعة أكثر من مجرد مهنة له، كانت حكاية عمر.
أشجاره التي تجاوز عمر بعضها الستين عامًا، تشهد على رحلته الطويلة مع النخيل. في كل موسم، كانت واحات سمير تنتج أطيب التمور التي تعبر حدود الواحات إلى مختلف أنحاء مصر، حاملة معها اسم “الواحات البحرية” كشهادة جودة.
لكن خلال العقد الماضي، بدأ كفاح سمير يأخذ منحىً مختلفًا؛ فمياه الواحات التي طالما سقت أرضه، بدأت تقل بنسب متساوية على مر السنوات السابقة، كما ظهرت ملوحتها.
ملوحة المياه الجوفية زحفت إلى تربة حمودة؛ فملحت الأرض التي ورثها عن أجداده، وبدأت أجزاء منها تجف وتفقد خصوبتها. تلك الأرض التي كانت يومًا مصدرًا للخير الوفير، لم تعد كما كانت، تراجع الإنتاج، والكميات القليلة التي ينجح في جنيها بالكاد تُطعم أسرته.
ليس حمودة وحده من يعاني من هذه الأزمة؛ فالسكان الأصليون/الأوائل/القدامى للواحات البحرية جميعهم يواجهون نفس المأساة.
منذ سنوات، ومع بداية التسعينيات في عهد الرئيس المصري السابق “محمد حسني مبارك”، بدأ سكان القاهرة الكبرى والمحافظات الأخرى في جميع أنحاء مصر في الهجرة إلى الواحات؛ حيث رأوا في الأراضي الأرخص فرصة للاستثمار. كانت مصر -التي تواجه زيادة سكانية وضغوطًا على منطقة دلتا النيل المنتجة للغذاء في البلاد- تشجع استصلاح الأراضي في الواحات والصحراء الغربية المحيطة بها كوسيلة لتوسيع الزراعة.
نما عدد سكان المنطقة بالآلاف مع انتقال المشترين والشركات إلى المنطقة. على مدى السنوات الخمس الماضية، ووفقًا لمصادر محلية، ارتفع سعر فدان الأرض من 200 جنيه إلى 4000 جنيه.
هذا التدفق من الاستثمار له عيوبه؛ حيث إن المشترين يستصلحون الأراضي في المنطقة، وتحويل الصحراء البكر إلى أرض زراعية من خلال عملية معقدة من الري وتسميد التربة؛ فإنهم يحتاجون إلى حفر آبار أعمق للوصول إلى المياه الجوفية وري الحقول. ومع ذلك؛ فإن هذه العملية تؤدي إلى خفض منسوب المياه الجوفية، وزيادة مياه الصرف الزراعي إلى الأراضي الزراعية. ثم تتسرب هذه المياه المالحة إلى أراضي الواحات التي كانت منتجة وغنية بالمياه في السابق، وهي منخفضة بشكل طبيعي وتفتقر إلى أنظمة الصرف الهندسية. ويؤدي هذا إلى ارتفاع مستويات الملوحة والتصحر في تلك الأراضي المملوكة للسكان.
كما تؤدي تأثيرات تغير المناخ، مثل تعدي الكثبان الرملية، ودرجات الحرارة المتغيرة، وانخفاض هطول الأمطار، وتحولات مواسم الزراعة في الشتاء والصيف، إلى تفاقم المشكلة.
استنادًا إلى أنظمة المعلومات الجغرافية (GIS)، يسلط هذا التقرير الضوء على معدل التصحر المتصاعد في واحة الواحات البحرية بسبب الملوحة، وانخفاض مستويات المياه الجوفية بسبب استخراج المياه الجوفية.
الواحات البحرية
تبلغ مساحة واحة الواحات البحرية حوالي 1800 كيلومتر مربع، وتقع على بعد حوالي 370 كيلومترًا جنوب غرب القاهرة، و200 كيلومتر غرب وادي النيل.
تاريخيًا، كانت الواحة مركزًا زراعيًا حيويًا منذ عصر المملكة الوسطى (2050 إلى 1710 قبل الميلاد) في مصر. يبلغ عدد سكان الواحة حوالي 36,000 إلى 40,000 نسمة، ويتألفون في المقام الأول من سكان الواحات الأصليين، الذين يُعتقد أنهم من نسل القبائل القديمة التي سكنت المنطقة. يعتمد الاقتصاد المحلي في الواحات البحرية على مزيج من الزراعة؛ خاصة زراعة أشجار النخيل والمشمش والزيتون والحمضيات والخضروات والنباتات العطرية. كما تشتهر بصناعة التمور؛ حيث تبلغ طاقتها الإنتاجية حوالي 4600 طن.
ومع ذلك؛ فإن إمكاناتها الزراعية لا تُستغل بالكامل؛ حيث تُزرع نسبة صغيرة فقط من الأراضي بسبب مشاكل ندرة المياه. ويُضطر المزارعون في الوقت الحاضر إلى الحفر بآبار أعمق بكثير مما كان عليه الحال في السنوات السابقة للحصول على المياه.
قامت “مواطن” بالاعتماد على نظم المعلومات الجغرافية (GIS)، التي تعد أدواتٍ أساسية لتحليل البيانات الجغرافية والمكانية، ورصد التغيرات على مدى فترات زمنية ممتدة. باستخدام برامج متقدمة مثل (Erdas) للاستشعار عن بعد و(ARCGIS) لتحليل وإعداد الخرائط، كما تعاونت “مواطن” مع خبير في نظم المعلومات الجغرافية لتحليل مرئيتين فضائيتين تغطيان فترتي عام 1990 وعام 2024.
قلت مساحات الأراضي الزراعية بنسبة ١٨٪ بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٢٤؛ فبعدما كانت حوالي ٤١٧ كم مربعًا عام ١٩٩٠، تراجعت لتكون حوالي ٣٤٣ كم مربعًا عام ٢٠٢٤.
لاحظت “مواطن” من تحليل المرئيات الفضائية أن الأراضي الزراعية ذات الكثافة (الجودة) العالية، زادت بحوالي ٤٩ كم مربعًا بين العامين ١٩٩٠ و٢٠٢٤، وزادت الأراضي الزراعية في الكثافة (الجودة) المتوسطة أيضًا بحوالي ٥٩ كم مربعًا بين نفس العامين، أما الأراضي الزراعية ذات الكثافة (الجودة) المنخفضة؛ فقد قلت بحوالي ١٨٢ مترًا مربعًا.
هجرة داخلية
واحد من هؤلاء الذين اتجهوا للواحات البحرية بغرض استصلاح الأراضي للزراعة، مدفوعًا برخص أسعار الأراضي آنذاك، واهتمام الدولة بالتوسع الزراعي في الصحراء الغربية، كان المهندس الزراعي، عويس حسين عام ٢٠٠٦، قد بدأ العمل في الواحة الجديدة عليه.
يزرع حسين مثل غيره من الداخلين الجدد على الواحة، العديد من الأصناف في أرضه بالواحات البحرية، ولكن الصنف الأكثر ملاءمة للبيئة وطلبًا هو النخيل والتمور، يأتي بعد ذلك الذرة والقمح وغيرها من المحاصيل البعلية.
يقول حسين لـ “مواطن”: “أراضي الواحات البحرية الجديدة التي نملكها جيدة، ولكن بها أزمات أخرى مثل توافر المياه الصالحة للري”.

إن استصلاح الأراضي في مصر يحول الصحراء إلى أرض زراعية من خلال توسيع أنظمة الري، وتحسين التربة بالمواد العضوية والأسمدة، وتطوير البنية الأساسية للزراعة، والوصول إلى الأسواق، ثم يتم استخدام التقنيات الحديثة مثل الري بالتنقيط لزراعة المحاصيل، وتعزيز الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي.
وجدت “مواطن” من تحليل المرئيات الفضائية، أن مساحات الأراضي الصحراوية قلت بنسبة ٤٤٪ بعدما كانت ٨٨٤ كم مربعًا عام ١٩٩٠، قلت لتكون حوالي ٤٩٨ كم مربعًا عام 2024، وهذا دليل على الاستصلاح المستمر للأراضي الزراعية.
كما زادت مساحة التجمعات السكانية (العمران) في الواحة بنسبة ٣١٪ بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٢٤، وذلك بسبب الهجرة المستمرة لها على مدار السنوات الماضية بغرض استصلاح الأراضي والزراعة، مما تسبب في تراجع أراضي السكان الأصليين، الذين اضطروا لبيعها بثمن بخس بسبب فقدان قيمتها الزراعية، وفقًا لخبراء تحدثت معهم “مواطن”.
ولكن يتفق سمير وحسين والخبراء الذي تحدثت معهم “مواطن” على أن الزيادة السكانية وارتفاع حجم استصلاح الأراضي، كان له أثر سلبي على المياه الجوفية؛ إذ زاد السحب على المياه.
في الواحات البحرية، هناك آبار حكومية وأخرى أهلية؛ حيث تقوم كل مزرعة خاصة أو أهلية بحفر بئر خاص بها للحصول على مياه الري.
يقول حسين: “في البداية، كان الجميع يحفر بئرًا على عمق ٢٠٠ متر للحصول على المياه، أما الآن فقد قل المنسوب بشكل ملحوظ وكبير؛ فأصبح الجميع مضطرين للحفر على عمق 400 متر للحصول على المياه”.
ويضيف حسين بعدًا آخر لتراجع المياه، وهو الارتفاع الشديد في درجات الحرارة في السنوات الأخيرة؛ فيقول: “بلغت درجات الحرارة ٤٦ درجة مئوية في الواحات البحرية، وبسبب ذلك نستهلك مياهًا أكثر، كان معدل استهلاك النبات 40 مترًا مكعبًا في اليوم، ولكن الآن وصلنا ٥٠- ٥٥ مترًا مكعبًا لليوم، ومعدل التشغيل اليومي للآبار الجوفية كان ١٥- ١٦ ساعة، ولكن مع ارتفاع درجات الحرارة وصل لـ 20 ساعة”.
ولكن سمير حمودة يتهم السكان الجدد والشركات الكبيرة في الواحة بالاستحواذ على المياه بسبب الحفر على أعماق كبيرة، والحصول على معدل أكبر من المياه الجوفية.
يقول د. عبد الحميد النجار، أستاذ علوم التربة بجامعة المنصورة لـ”مواطن”: “المورد الوحيد للري في الواحات البحرية هو خزان الحجر الرملي النوبي، وهو مورد غير متجدد في الصحراء الغربية، ومع الزيادة المستمرة في استهلاك المياه تزيد الملوحة”.
ويضيف “النجار”، هناك آبار حكومية تبدأ أعماقها من ٦٥٠ مترًا، وهناك آبار أهلية خاصة بالأهالي وعمقها يبدأ من١٠٠ متر أو ١٥٠، وهذا النوع من الآبار يتأثر بالملوحة والغسيل الخاص بالأرض”. يؤكد “النجار” أن الشركات الكبيرة تكون أعماقها أكبر، ولذلك تكون ملوحتها أقل، وعلى العكس تكون آبار السكان القدامى.
كشفت دراسة بعنوان “هيدرو جيوكيمياء، وتقييم الجودة للمياه الجوفية في خزان الحجر الرملي النوبي في الواحات البحرية، الصحراء الغربية، مصر”، عن تفاوت مستويات ملوحة المياه الجوفية في الحوض النوبي وفقًا للموقع.
وأوضحت الدراسة أن الاستغلال المفرط للمياه الجوفية أدى إلى انخفاض تدريجي في المستويات الجهدية للحوض، مما يشكل خطرًا كبيرًا على استدامته، وقد يؤدي إلى نقص المياه في المستقبل.
وتحذر الدراسة من أن الاعتماد المتزايد على المياه الجوفية، تسبب في ارتفاع مستويات الملوحة؛ ما قد ينعكس سلبًا على جودة المياه والإنتاجية الزراعية. وأظهرت بعض العينات وجود علامات ملوحة قد تضر بالمحاصيل الزراعية وصحة التربة، إضافة إلى احتمال ارتفاع تركيزات عناصر ضارة مثل الحديد والمنجنيز، والتي قد تتجاوز الحدود المسموح بها لمياه الشرب.
كما لفتت الدراسة إلى التأثيرات البيئية الناجمة عن انخفاض مستويات المياه الجوفية؛ حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تغييرات كبيرة في النظم البيئية المحلية، تشمل تراجع الغطاء النباتي والتنوع البيولوجي، مما يؤثر على استدامة الموائل الأرضية والمائية التي تعتمد على هذه الموارد.
أدى التراجع في المياه الجوفية إلى زيادة تكاليف الضخ بسبب الحفر على طبقات أعمق، مما قد يكون له آثار اقتصادية على المجتمعات المحلية والصناعات التي تعتمد على هذا المورد للأنشطة الزراعية والصناعية.
يقول د. عبد الحميد النجار، لـ “مواطن”: “يستطيع السكان الجدد على الواحة تحمل تكلفة حفر الآبار الكبيرة، ولكن الفلاحين الصغار من السكان الأصليين لا يستطيعون”.
يؤكد النجار لـ “مواطن”: “مع الوقت، الفلاحين بيتركوا الأرض وبيمشوا، لأن الأرض والمياه الجوفية ملوحتها عالية جدًا، وليس كل المحاصيل تستطيع تحمل هذه الملوحة؛ فتجف المزارع والنخيل لأنها حساسة للملوحة”.
غدق التربة القديمة
يقول د. عبد الحميد كليو، أستاذ الجغرافيا الطبيعية بجامعة المنصورة لـ “مواطن”: “ملوحة المياه الجوفية تسببت في زيادة الماء الأرضي؛ خصوصًا في المزارع القديمة التي تعاني عدم وجود، أو ضعف أنظمة صرف لماء الري أو الماء الأرضي، يؤدي ذلك إلى تخلل المياه للأراضي الزراعية، ومن ثم تملحها ثم تصحرها.
يقول د. عبد الحميد كليو: “بالطبع، السكان الأصليون هم المتضررون الأكثر، لأن المستحدثين عادة يعيشون على أطراف الواحة ويحصلون على مساحات شاسعة من الأراضي”.
يوضح د. عبد الحميد النجار هذا قائلًا: “الأراضي القديمة عادة تكون في الأماكن المنخفضة، وعادة يكون مستوى الماء الأرضي فيها عاليًا، والملوحة أيضًا عالية، ومع عدم وجود أنظمة للصرف، تزيد الأزمة مع الوقت”.

“الناس بقت تهرب من الجزء المنخفض من الواحة وتزرع في الأماكن العالية، والماء الناتج عن عملية الري أو الصرف؛ فتلاقي مستوى الماء الأرضي بيزيد مع الوقت، وبيحصل كمان غمر للأرض.
صحيح الناس بتتوسع في الأماكن العالية، ولكن بيحصل غدق وغمر للتربة في المناطق المنخفضة”. هكذا قال “النجار” لـ “مواطن”.
يوضح د. كليو الأزمة قائلًا: “الواحات البحرية، هي أصلاً في تدرج في الارتفاع بتاعها. الجزء الجنوبي أكثر تدرجًا وارتفاعًا من الجزء الشمالي، ومعظم التواجد السكاني موجود في الجزء الشمالي، والمناطق دي تلاقيها مناطق منخفضة وفيها بعض السبخات وبحيرة المعمور، طبعًا المنطقة شديدة الجفاف، ومعدلات سقوط الأمطار أقل من 5 ملم في السنة، ووجود مستوى ماء أرضي عالٍ؛ فبتتراكم الأملاح وتظهر السبخات، وفي أثر تراكم الأملاح على السطح، وده بيظهر على الجزء العلوي من الواحة”.
باستخدام مؤشر الملوحة الفرقي الطبيعي (NDSI)، وهو أداة استشعار عن بعد تستخدم لتقدير مستويات الملوحة في المسطحات المائية والتربة من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية؛ قامت “مواطن” بحساب الملوحة في عامي ١٩٩٠ و٢٠٢٤، لتجد أن الملوحة تزايدت في التربة بين ٨٣- ١٩٣٪، وذلك وفقًا لفئات الملوحة التي يحددها مؤشر NDSI. زادت فئات التربة الأشد حساسية للملوحة لنسبة ٩٠٪ بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٢٤، وزادت فئات التربة عالية الملوحة بنسبة ١٩٣٪، وزادت فئات التربة متوسطة الملوحة بنسبة ٨٣٪.
استخدمت مواطن مقياس آخر لمعرفة مدى توافر المياه الجوفية، وهو مؤشر الرطوبة الطبوغرافية (TWI)، هو مقياس يستخدم في علم المياه والعلوم البيئية لتقييم كيفية تأثير السمات الطبوغرافية على تراكم المياه وحركتها داخل المناظر الطبيعية. ويوفر رؤى حول إمكانات المياه الجوفية والتوزيع المكاني للرطوبة في مستجمعات المياه.
وجدت “مواطن” أن المياه الجوفية النادرة تغطي مساحة حوالي ١٤٣ كم مربعًا، والمياه الفقيرة تغطي حوالي ٧٥٨ كم مربعًا، والمياه الجوفية المتوسطة تغطي حوالي ٩٤٦ كم مربعً، والمياه الجوفية الممتازة تغطي أصغر مساحة حوالي ١٢٠ مترًا مربعًا.

تراجع الإنتاجية
يشكو المزارع سمير حمودة من تراجع إنتاجية أشجار نخيله؛ فمع مرور السنوات، بدأت إنتاجية أشجار النخيل، التي طالما كانت رمزًا للوفرة؛ في التراجع بشكل ملحوظ؛ خاصة خلال العقد الماضي. ولعل السنوات الخمس الأخيرة كانت الأكثر قسوة؛ إذ أصبحت آثار الملوحة تتجلى بوضوح على التربة والمياه؛ فتآكلت خصوبة الأرض وقل عطاؤها.
يقول حمودة، الذي اعتاد زراعة أصناف النخل الصعيدي والسيوي والمجدول؛ في حديثه لـ “مواطن”: “تتراجع الإنتاجية عامًا بعد عام، ولكن الأزمة الكبرى ليست فقط في المحصول؛ بل في التسويق، واحتكار السكان الجدد للسوق بمساحاتهم الشاسعة. نحن نصرف الكثير على زراعة النخيل، لكن العائد لا يغطي الإنفاق؛ فتتضاعف خسائرنا”.
يضطر حمودة، الذي يعتمد كليًا على الزراعة كمصدر لدخله، لبيع محصوله بأقل من سعر السوق، كي يتمكن من البقاء في أرضه. يحكي بمرارة: “الأسعار المفترض أن تزيد كل سنة، لكن عندنا العكس؛ لو الكيلو سعره 1500 جنيه، بنضطر نبيعه بـ 1000 أو حتى 800 جنيه فقط لنستطيع الاستمرار، ولأننا لا نريد التخلي عن أرضنا. ورغم ذلك، التكاليف تزداد بشكل كبير؛ شيكارة الكيماوي بـ 1200 جنيه، وعربة السماد بـ 8000 جنيه، وأدوية النخيل بـ 700 جنيه، والعمالة ترتفع أسعارها كل عام. نحن نخسر كثيرًا، لكننا متمسكون بأرضنا؛ فهي آخر ما نملك”.
وفقًا لنشرة الإحصاءات الزراعية الصيفية الصادرة عن وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، بلغت مساحة نخيل البلح في محافظة الجيزة التي تتبعها الواحات البحرية حوالي 25.13 ألف فدان عام ٢٠٢٢، بإجمالي إنتاج حوالي 148.72 كجم/ نخلة، وهذا الإنتاج قليل، إذا ما قارناه بالمساحة عام ٢٠١٣، التي كانت حوالي 3.59 ألف فدان، بإجمالي إنتاج حينها يساوي 127.86 كجم/ نخلة.
زادت المساحة بين عامي ٢٠١٣ و٢٠٢٢ بحوالي ٦٠٠٪، ولكن الإنتاجية لم تزد سوى ١٦٪ خلال نفس الفترة، وهو ما يؤكد فكرة الزيادة في استصلاح الأراضي على حساب الإنتاجية الزراعية.
يقول م. شوقي الصالحي، استشاري زراعة النخيل، والذي يعمل بالواحات البحرية أيضًا، لـ “مواطن”: “إن تراجع إنتاجية المحاصيل في الأساس تكون في المزارع القديمة، بسبب الزراعة بطرق تقليدية جدًا، وعدم الرعاية الكاملة لأشجار النخيل.
يتفق معه م. عويس حسين قائلًا: “لما بدأت الشركات الكبيرة تدخل الواحات البحرية، بدأ السكان الأصليون يشتغلوا عند أصحاب الشركات؛ في ناس كتير باعت أرضها عشان يشتغلوا عند أصحاب الشركات، لأن المزارع القديمة مساحاتها صغيرة وإنتاجها شبه معدوم“.
تغير المناخ
في حين تساهم عمليات استصلاح الأراضي والضغوط البيئية في تفاقم أزمة الواحات البحرية، هناك أيضًا قضية تغير المناخ. يتفق الخبراء والمزارعون الذين أجرت “مواطن” مقابلات معهم على أن درجات الحرارة المعتادة، وموجات البرد قد تغيرت، جنبًا إلى جنب مع توقيت فصلي الصيف والشتاء.
يقول عويس لـ “مواطن”: “كنا بنزعل القمح في أوائل شهر نوفمبر، دلوقت بقينا بنأجله حوالي 20 يوم، وبنضطر نزرع في ديسمبر، وكذلك الذرة كنا بنزرع في نهاية أكتوبر، ولكن حتى الآن (ديسمبر 2024) لم نزرع، التغير المناخي غير خريطة الزراعة في الواحات سواء أكان بالارتفاع أو الانخفاض”.
غير ذلك يقول المزارع حمودة لـ “مواطن”: “أيضًا العواصف الرملية وغيرها من هذه المظاهر تسبب في “مقتل” النخيل، لأنها تساهم في انتشار أمراض النخيل”.
من تحليل المرئيات الفضائية، وجدت “مواطن” أن الكثبان الرملية زادت بنسبة ٥٨٪ بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٢٢. كما أن الرواسب الرملية في الواحات البحرية زادت بنسبة ٦٠٪ بين نفس الفترة.
في عمق الواحات البحرية؛ حيث الصحاري الشاسعة تلتقي بأشجار النخيل الباسقة، يقف سمير حمودة حائرًا أمام مصير لم يكن يتخيله. يقول بحسرة وهو يتفقد نخيله: “النخل يموت ببطء، الملوحة تلتهم الأرض، والأمراض مثل السوسة تدمر الأشجار واحدة تلو الأخرى. لا يوجد أي دعم حكومي لنا، وكأننا تركنا وحدنا في هذا الكفاح”.
حمودة، الذي لم يعرف موطنًا غير الواحات طوال حياته، يجد نفسه عالقًا بين واقع مرير ومستقبل غامض. رغم الخسائر التي أثقلت كاهله، يحاول أن ينقل مهنته، التي تحولت إلى إرث خاسر، لأبنائه الذين لم يعرفوا مهنة غير الزراعة، لكنه يدرك جيدًا أن التحديات تكبر، بينما الحلول تغيب.
في الجوار، يخطو المزارع “عويس” خطوات مختلفة؛ إذ يستصلح أراضي جديدة، محاولًا شق طريق جديد بين الرمال، بحثًا عن أمل ربما يكون على بعد مسافة حراثة أخرى. وبين أحلام حمودة وآمال عويس، تبقى الواحات شاهدة على نضال مزارعيها، الذين يقفون في وجه الملوحة والأمراض، بلا سند، سوى إرث الأرض وصبر السنين.
أنتجت هذه القصة بدعم من شبكة صحافة الأرض (EJN)