في الموسم الآتي، سيأكل آدم تفاحتين
وذنبه لن يغفرا
الأرض سوف تشيخ قبل أوانها
الموت سوف يكون فينا أنهرا
وسيَعبر الطوفان من أوطاننا
من يقنع الطوفان ألا يعبرامحمد عبد الباري، "ما لم تقله زرقاء اليمامة"
الزمان: ظهيرة الرابع عشر من يوليو/ تموز، المكان: ليس بيروت ولا الضاحية الجنوبية، ولا “بنت جبيل” معقل حزب الله؛ بل أحد المقاهي في مدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية في مصر، هي نفس مصر التي حالفت العدو رسميًا بعد معاهدة السلام. الحدث: خطاب مرتقب للسيد حسن نصر الله، بعد الهجمات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية، شائعات كثيرة تفيد استهدافه، ورائحة الدماء تطوف بين أكواب الشاي وكركرة الشيشة، والموقف متشابك ومعقد للغاية، دقائق انتظار طالت بعض الشيء، ثم جاء الصوت مدويًا: “البارجة الحربية العسكرية الإسرائيلية، انظروا إليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الإسرائيليين الصهاينة”. صمت عنيف ومطبق يخنق الأجواء، وفجأة ترتج جدران المقهى بهتاف المصريين: “لبيك يا نصر الله”.
في نفس اللحظة، كان هناك طفل صغير يجلس على حافة كرسيه، متابعًا مندهشًا، يسأل نفسه: لماذا نهتف هنا في مصر معقل السنة، لشخص شيعي مارق عن نظام الدولة اللبنانية يحارب دولة أخرى، بيننا وبينها معاهدة سلام رسمية؟ ما علاقتنا “نحن” المصريين بتلك الحرب؟
لماذا نحن هنا؟
العرب أمة واحدة، مسلمين ومسيحيين وملحدين ومارونيين ولا أدريين، وغيرهم، وقد حُكمت المنطقة الواقعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي كبقعة جغرافية واحدة في معظم أوقات التاريخ، وبلا أية تقسيمات عرقية أو طائفية، حتى قبل انتشار اللسان العربي كثابت في المعادلة، حسنًا، والمسلمون أيضاً أمةٌ واحدة، يحكمهم كتاب واحد، يدينون له جميعًا بالولاء، مع اختلاف آرائهم في كيفية استخدام هذا الكتاب، والعرب والمسلمون هم الأكثرية في تلك المنطقة الواقعة بين المحيط والخليج، ولكنهم يعيشون في سلام تام مع الأعراق والعقائد المختلفة، ودون أن يحاول أحدهم القضاء على الآخر، لأن العقائد المختلفة هي السمة الغالبة على الإقليم، وبالتالي فغير العرب والمسلمين ليسوا أقلية بالمعنى المعروف، وقد ظلت حالة الوفاق تلك قائمة لمئات السنين، حتى جاءت اللعنة.
لعنة الاستعمار بالطبع، والتي تمثلت في قوى الاستعمار الغربي التي جاءت من وراء البحر المتوسط، طامعةً في ثروات المنطقة؛ حيث عمدت إلى تقسيم تلك الأمة الممتدة تاريخيًا وجغرافيًا إلى دويلات صغيرة، وبناءً على هوى في نفس الجنرالات الغزاة؛ حيث أوجدوا صيغة لضبط الأمور في المنطقة، والسيطرة عليها بقلة قليلة من الجنود، وبعدد قليل من الأموال، وذلك عن طريق:
- تدجين الأسرة العلوية بعد القضاء على آمال “محمد علي” في التوسع، ثم القضاء على ما تبقى من الدولة العثمانية -التركية- مع انتهاء الحرب العالمية الأولى.
- الإتيان بعبد العزيز آل سعود على عرش جزيرة العرب، بعدما استند على أفكار محمد بن عبد الوهاب الإقصائية المتطرفة، التي تحتقر الشيعة والملحدين والمثليين والمسيحيين والدروز، وأي شخص لا يؤمن بسلطة عبد العزيز آل سعود وأولاده، وولاية الفقيه محمد بن عبد الوهاب الدينية على تلك المنطقة.
- تأمين مناطق نفوذ محدودة ومحددة القوة والسِعة والمكان لسائر أبناء الشريف حسين، قائد الثورة العربية الكبرى، مثل فيصل الأول، ملك العراق، وعبد الله الأول، ملك الأردن، شرط أن يصبحوا تابعين في كل الأمور، تنظيميًا وسياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
والتبعية تعني الفساد، والفساد يولّد الكبت، والكبت هو أساس العنف، والعنف المستمر والدائم في بلاد كثيرة العدد، قليلة الدخل، ممتدة الجغرافيا، كثيرة الطوائف؛ يعني الدخول في حرب أهلية دائمة، وقد نجحت تلك السياسة فعلًا؛ إذ قتلت الحروب الأهلية في بلادنا أعدادًا أكبر مما قتله الاستعمار، رغم أن ما أراده الناس قبل ذلك التقسيم، هو دولة واحدة تضم الكل تحت رايتها؛ مثل محاولة أهالي الشام إقامة دولة عرفت باسم “المملكة العربية السورية” عام 1918، ضمت تحت إمرتها سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، وبعض أجزاء من العراق، لكن قوى الاستعمار أفشلت المحاولة، وأعادت تقسيم المنطقة كما نراها الوقت الحالي.
ثم جعلوا رأس حربتهم في الإقليم، كيان فصل عنصريًا يعتمد في تكوينه على الدين الموروث؛ أي أنه كيان قائم على أساس الفصل العنصري، وتعني العنصرية كراهية الآخر، والكراهية مقدمة العنف، والعنف مقدمة القتل، والقتل مقدمة الإبادة، أي أن بِنية إسرائيل قائمة على إبادتنا منذ اللحظة الأولى، ولا يستقيم مشروعها بغير ذلك، ولا تحتاج ذريعة للبدء، وهي مستمرة في عملها بوتيرة ثابتة أحيانًا، ومتسارعة في أحايين أخرى منذ أكثر من 80 عامًا كاملة؛ ما يعني أن أي محاولات لصدَّ تلك الإبادة المستمرة، هي فقط “محاولات لصد تلك الإبادة المستمرة”، وليست رميًا بالنفس إلى التهلكة، لأن هلاك الرابط الجمعي بين الناس من المحيط والخليج على اختلاف أعراقهم وتوجهاتهم وأديانهم، هو الشيء الذي تريده إسرائيل، وتسعى له فعلًا وقولًا منذ بداية المشروع الصهيوني.
هذا ما قاله: #الشهيد_القائد_السيد_حسن_نصر_الله في لقاء خاص على قناة #الميادين
— Bas Baraket (@BasBaraket) October 10, 2024
«يمكن يجي يوم نقاتل في وقت واحد في جبهات عديدة مفتوحة»
«العدو ما مجزئ المعركة، العرب مجزئيها» pic.twitter.com/j08GkPmukz
سلسال الدم
"في الموسم الآتي مزاد معلن، حتى دم الموتى يباع ويشترى".
محمد عبد الباري
وعندما يمتزج كل ذلك بالأساطير التوراتية والصهيونية عن أرض الميعاد، و”إسرائيل الكبرى” الممتدة من سيناء مصر حتى فرات العراق، كان من الطبيعي أن تبدأ محاولات العدو لتوسيع نطاق نفوذه سريعًا، وكان عليه أن يبدأ بدولتين؛ مصر ولبنان، أما مصر؛ فحاول كسرها بعدوان ثلاثى، ثم نكسة عام 1967 جعلت من سيناء مستوطنة صهيونية، وعندما ظهرت دعوات المقاومة، وأثبتت القيادة السياسية، ممثلةً في جمال عبد الناصر، ألا تفاوض على الأرض العربية، حاولوا تحييدها بأساطير “العرق المصري” النقي، ثم بدعوى السلام مع السادات، ثم سارعت باجتياح “بيروت” بعد أشهر قليلة من تحييد مصر.
أما لبنان، فقد أمّن لها الاستعمار نظامًا سياسيًا معقدًا، لا تستطيع خلاله ضبط صيغة للتعايش السلمي، نظامًا يوزع مناصب الدولة على الطوائف المختلفة بنسب محددة بحجة ضمان حقوق الأقليات؛ فإذا بتلك الأقليات تسلح نفسها من مصادر متعددة -منها إسرائيل- لضمان حقها في التمثيل السياسي، ومع الاشتباكات المستمرة والحروب الأهلية الممتدة، ووجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، التحمت فصائل لبنانية مسلحة مع المقاومة الفلسطينية انطلاقًا من فكرة الأمة الواحدة، التي أشرنا إليها سابقًا، في محاولة لتحرير الأرض العربية المحتلة.
فصائل بدأت كتنظيمات علمانية اشتراكية؛ مثل حركة “الناصريين المستقلين”، وقوات “كمال جنبلاط المشتركة” التي ضمت تحت لوائها تنظيمات فلسطينية ولبنانية، ولكن بعد الغزو الصهيوني لبيروت عام 1982، وخروج منظمة التحرير من لبنان إلى تونس، وخفوت نجم الحركات الشيوعية في العالم لصالح الحركات الدينية؛ خاصة بعدما فشل النموذج السوفييتي في دعم حلفائه، استُبدل النموذج العلماني المقاوم، بنموذج إسلامي مقاوم أيضًا؛ أي أن هزيمة الحركات العلمانية فتحت الباب أمام الحركات الإسلامية لتقوم بنفس العمل بالضبط، مع اختلاف الأيديولوجيا المستخدمة في الشحن والتجييش فقط.
ملحوظة هامة: تلك الفصائل المسلحة ليست أندية كرة قدم أو جمعيات أهلية تؤمن بالديمقراطية والتعددية وحرية التعبير؛ بل هي جماعات أمنية مسلحة ومارقة عن نظام الدولي، لماذا؟ لأن النظام الدولي قائم لخدمة الاستعمار، والنظام السياسي اللبناني مُنقسم على نفسه، وليست لديه القدرة على مواجهة كيان توسعي على حدوده، ولذلك؛ أخذت تلك الجماعات على عاتقها مهمة تحرير الأرض بمنأى عن النظام السياسي المعترف به دوليًا وللسبب نفسه، لم يكن لديها بديل عن استخدام تكنيكات “حرب عصابات” تستنزف العدو، دون القدرة على تأمين غطاء دفاع جوي يحمي المدنيين من وابل الطائرات.
وبناء على تلك الصيغة؛ خرجت للنور في البداية “حركة أمل”، تحت قيادة الإمام الشيعي السيد موسى الصدر، ثم “حزب الله” بعد ذلك، تحت قيادة السيد عباس الموسوي، ومن بعده السيد حسن نصر الله، ذلك الرجل الذي دشن فترة جديدة من الصراع بين “الأمة” والعدو، صراع ولد من بدايته ليكون وجوديًا وصفريًا، أو هكذا أرادته إسرائيل.
لن تصبح الدولة اللبنانية قوية قبل حلحة النظام السياسي القائم، والنظام السياسي القائم لن يتحلحل قبل أن تسلم الجماعات المسلحة سلاحها للجيش الوطني، والجيش الوطني مكبل بالأغلال ولا يستطيع حماية الدولة، لأن سلاحه يأتيه من العدو، والجماعات المقاومة لن تسلم سلاحها قبل تفكيك نظام الفصل العنصري الحاكم في فلسطين المحتلة، لأنه يهدد المنطقة بالكامل حتى لو ادعى السلام، ونظام الفصل العنصري لن يتفكك إلا بضربات موجعة متتالية من المقاومة داخل وخارج فلسطين المحتلة، أما الضربات الموجعة تلك؛ فلن تأتي قبل حلحلة النظام السياسي القائم، وبلادنا لن تتحرر إلا إذا تحررنا “نحن” منها.
نقطة نظام
واكشف لإخوتك الطريق ليدخلوا
من ألف باب إن أرادوا خيبرا
ستجيء سبع مرة .. فلتخزنوا
من حكمة الوجع المصابر سكرا
سبع عجاف .. فاضبطوا أنفاسكم
من بعدها التاريخ يرجع أخضرامحمد عبد الباري.
كل شيء يبدأ وينتهي عند إسرائيل، كل دعوات السلام تقتلها إسرائيل، وكل فرصة للتفكير العقلاني تقصفه إسرائيل بأطنان من المتفجرات، ولذلك؛ فوجود حزب الله، أو الجماعات المقاومة أيًا كانت كُنيتها، قد يعني الطعن في سيادة الدولة التي صنعها الاستعمار، أما عدم وجودها، فيعني ابتلاع إسرائيل للمنطقة ثم إبادة كامل شعبها في عدة ساعات، دون أن يصاب أي صهيوني بخدش واحد، ويعني أيضًا أن معادلة “حيفا وما بعد حيفا”، صُكت بالأساس لأن إسرائيل تريدُ “لبنان وما بعد لبنان”؛ نعم؛ إسرائيل هي التي لا تريد السلام، ولم تخرج من أرض احتلتها قبل ذلك إلا بعد مقاومة مسلحة عنيفة وطويلة؛ كيف خرجت من سيناء؟ وكيف خرجت من جنوب لبنان؟ وكيف فكت ارتباطها مع غزة عام 2006؟ ذلك بسبب ضربات المقاومة المتتالية والمتلاحقة، تلك هي الحقيقة.
وخروج العدو من مكان ما، يعني خروجًا مؤقتًا حتى إشعار آخر، أما المقاومة فتنطلق دائمًا من موقع ردة الفعل. برأيك ما سبب اندلاع حرب تموز؟ لا، ليس اختطاف حزب الله للأسيرين الإسرائيليين كما يصور الإعلام؛ بل لأن إسرائيل أرادت العودة إلى لبنان مرةً أخرى ثم تحججت بالأسيرين، ولو لم تقع حادثة الأسر تلك، لاخترعت ألف حجة وحجة لمعاودة الدخول إلى لبنان، أما خطف الحزب للأسيرين، فهو الذي جاء كردة فعل على تعنت إسرائيل، وإصرارها على بقاء المعتقلين اللبنانيين لديها دون قيد أو شرط، ورفضها كل سبل التفاوض، ولذلك حاول الحزب الضغط عليها “تفاوضيًا” بورقة جديدة؛ فإذا به يفاجأ بردة فعل عنيفة لا تتناسب مع حادث أسر بسيط واعتيادي، ما اضطره -والدولة كلها من حوله- لخوض حرب مفتوحة، بلا غطاء جوي.
حرب مفتوحة بدأت منذ 80 عامًا، واتخذت طابعًا جديدًا، فقط، خطاب نصر الله، الذي وعد بالمفاجآت، أمام أعين طفل صغير، جلس ثابتًا ومندهشًا على كرسيه في مقهى شعبي، في ضاحية من ضواحي مصر، طفل لم يسأل نفسه كل تلك الأسئلة العميقة بالطبع، ولكنه رأى السعادة ترتسم على وجه والده، فتأكد أن إسرائيل هي العدو الحقيقي، لأنها أقنعتنا أننا دويلات كثيرة، رغم أننا في الحقيقة، أمة واحدة.
أشتم رائحة القميص..
وطالما هطل القميص على العيون وبشرامحمد عبد الباري.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.