في أكتوبر الماضي، حلّت الذكرى 35 لاتفاق الطائف اللبناني الذي أنهى حربًا أهلية لبنانية ظلت 15 عامًا منذ سنة 1975 حتى عام 1990، ولطبيعة هذا الاتفاق التي قسّمت سلطات الدولة بين الطوائف الدينية، كان لزامًا علينا فهم ومناقشة ذلك الاتفاق من نفس الزاوية التي انتهى إليها، وهي حصر سلطات رئيس الجمهورية للمسيحيين الموارنة، ورئاسة الحكومة للمسلمين السنة، ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة.
نادى الاتفاق بالتعايش المشترك بين الطوائف الثلاث، وبعلاقات جيدة مع سوريا والسعودية بوصفهما رعاة الاتفاق، وبعيدًا عن أجوائه السياسية وتفاصيله المتنوعة، يبقى الملف الطائفي الذي أخرج الاتفاق على هذا النحو مهيمنًا طيلة 35 عامًا حتى الآن، ثم يليه الملف الأيديولوجي المتمثل في تقسيم الداخل اللبناني لتيار مقاومة للاحتلال الإسرائيلي، وتيار اعتدال يطالب بعلاقات متوازنة مع الجميع، مما أوجد مشكلة سياسية عبّر عنها الكاتب “علي حسين باكير” في مجلة البيان بتاريخ يناير 2006م، أنّ اتّفاق الطائف قد نصّ صراحة على سحب سلاح جميع الميليشيات اللبنانية (بما فيها تلك التي كانت تقاوم الاحتلال أيضًا مثل أمل والشيوعي وغيرهما)، وأنّ استثناء حزب الله من هذا النص كان بقرار سوري وبدعم إيراني، وحيث إنّ القوات السورية انسحبت والجميع متمسك بتطبيق اتّفاق الطائف؛ فإنّه يجب على حزب الله أن يسلّم سلاحه.
بينما يرى الشيخ محمد الغزالي خلاف ذلك في كتابه “تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع صـ 106” بقوله: “إن الرؤساء العرب قدموا اتفاق الطائف على أساس أن يرأس الدولة مسيحي عربي يتعاون المسلمون معه تعاونًا شريفًا! وهيهات أن يقع الصلح! المطلوب نظام سيأسى يتعاون مع إسرائيل على محو العروبة والإسلام”.
ومن كلام الغزالي وحسين باكير يتبين أن لبنان انقسمت فعليًا ليست لثلاث طوائف، ولكن لرأيين أساسيين، الأول يضع لبنان ضمن محور مقاومة إقليمي ضد إسرائيل، والثاني يضع لبنان كدولة مستقلة عن أي محاور، وبناءً على هذا التقسيم الثنائي جرى رسم المشهد اللبناني الداخلي منذ التسعينيات وإلى الآن؛ حيث تخللت عدة أحداث قوية ومفصلية خلال هذه الفترة عززت هذا الانقسام الثنائي، وهي تحرير جنوب لبنان عام 2000 وحرب عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، وأخيرًا اشتباكات 7 آيار/ مايو 2008 بين معسكري الموالاة والمعارضة، المعروفة بأحداث شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله، والتي بناءً عليها رسم اللبنانيون توازن الردع الحالي.
جذور اتفاق الطائف المذهبية
تعود جذور اتفاق الطائف إلى الميثاق الوطني اللبناني الصادر عام 1943م، وهو ميثاق غير مكتوب لكنه مُلزِم بإشراف الرئيس اللبناني آنذاك “بشارة الخوري”، ورئيس وزرائه “رياض الصلح”، وقد أفضى الاتفاق على تخصيص حقيبة رئاسة الجمهورية للمسيحيين الموارنة، وحقيبة رئاسة الوزراء للمسلمين السنة، وحقيبة رئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة، مع قبول مبدأ عروبة لبنان عند الموارنة وعدم الوحدة مع سوريا عند المسلمين.
علمًا بأن جذور الميثاق الوطني تعود للانتداب الفرنسي على لبنان (1920- 1943)، والذي أعلن فيه الجنرال “هنري غورو” المفوض السامي دولة لبنان الكبير التابعة لفرنسا عبر سياستين:
الأولى: عبر عنها “نجيب سليم الدحداح” في كتابة ” لبنان الكبير في التاريخ” المنشور في مجلة المشرق يناير 1936، أن فرنسا من خلال بيان الانتداب اعترفت بالقادة الدينيين كزعماء للبنان؛ فجرى ترسيخ فكرة قيادة المجتمع اللبناني من خلال زعمائهم الروحيين والعقائديين؛ فكانت هي اللبنة الأولى لتقسيم لبنان طائفيًا بشكل أكثر توسعًا في وقت لاحق.
الثانية: جرى فيها تعيين حدود لبنان الجغرافية بإضافة أربع مناطق ذات أغلبية سكانية مسلمة إلى لبنان، عرفت (بسلخ الأقضية الأربعة عن سوريا)، وهي “بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا”؛ فاختلت بناء على هذه القرار تركيبة لبنان السكانية من أغلبية مسيحية مطلقة لأغلبية طفيفة طبقًا لإحصاء عدد السكان عام 1932م، وبناءً على عوامل أخرى سياسية كالهجرات المسيحية للخارج والمواليد والهجرات الإسلامية للداخل اختلت تلك الأغلبية الطفيفة مرة أخرى حتى أوائل السبعينيات، وهو الذي أدى لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 لرفض كثير من المجتمع المسيحي وجود منظمات فلسطينية في لبنان.
يرى الشيخ محمد الغزالي في كتابه "تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع صـ 106": "إن الرؤساء العرب قدموا اتفاق الطائف على أساس أن يرأس الدولة مسيحي عربي يتعاون المسلمون معه تعاونًا شريفًا! وهيهات أن يقع الصلح! المطلوب نظام سيأسى يتعاون مع إسرائيل على محو العروبة والإسلام".
فجرى التوصل لاتفاق الطائف من أجل إيقاف الحرب الأهلية بتأكيد بنود الميثاق الوطني عام 1943، والمعروف ببيان الاستقلال عن فرنسا، ولكن في صيغة اتفاق مكتوب وملزم هذه المرة، يمنع تغول طائفة على أخرى، أو يخل ببنود ميثاق الاستقلال، وهو الاتفاق الذي صنع حدود المحاصصة الداخلية بين الطوائف الدينية، وأعطى لها حصصًا متساوية في الحكم والإدارة منعًا لتغول طائفة على أخرى، وهو إن كان اتفاقًا نجح في حل مشكلة آنية بين اللبنانيين، لكنه لم ينجح في العموم ببناء دولة قوية بجيش قوي ومؤسسات قوية؛ حيث وبترسيخ الطائفية بالمحاصصة خلق ذلك نوعًا من التصنيف العقائدي والقومي للمواطن؛ فاللبناني هو سني قبل أن يكون لبنانيًا، وشيعيً أو مسيحيً قبل أن يكون لبنانيًا، وتعد هذه من الآثار السلبية للمحاصصة بالعموم.
التدخل الخارجي
ساهم توقيت صياغة اتفاق الطائف سنة 1989 في نفس العام الذي انتهت فيه حرب العراق وإيران في رسم مخرجات الاتفاق، لتتماشى مع مخرجات اتفاق السلام بين العراق وإيران، وهي مخرجات تبدو في ظاهرها الهدوء والسلام، لكن في جوهرها (الانشقاق المذهبي) لسببين اثنين:
الأول: إضعاف سلطة الرئيس اللبناني المسيحي من الطائفة المارونية، لصالح سلطات الحكومة السنية ومجلس النواب الشيعي، مما أغضب المارون بقيادة زعيم الجيش آنذاك “ميشيل عون”، وحسب الكاتب “جاري سي جامبل” في نشرة “ميدل إيست” عام 2003 قال: “هناك احتجاج حاشد من قبل العديد من الموارنة ضد البطريرك صفير في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، استنكروا فيه دعمه لاتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، كونه يصب في صالح سوريا وإيران والمسلمين بشكل عام، والغاضبون الموارنة كانوا من أنصار ميشال عون؛ فأحرقوا الإطارات خارج العديد من الكنائس واقتحموا المقر الأبوي، واعتدوا على البطريرك صفير وأجبروه على تقبيل صورة عون”.
الثاني: نظرًا لطبيعة الحرب بين العراق وإيران التي اشتعلت بعاملين اثنين (قوميًا ودينيًا)، ويمكن تلخيصها في ثنائية (العرب × الفرس) و(السنة × الشيعة)، وعلى هذه التقسيمة جرى شق الصف الإسلامي اللبناني بناءً على هذا النحو لتظهر كتائب شيعية مقابل كتائب سنية؛ فكان لزامًا على قادة الشيعة أن يحافظوا على سلاح كتائبهم وعدم سحبه أسوة بسحب كتائب أخرى، لارتباط مخرجات حربهم اللبنانية بمخرجات الحرب الإيرانية العراقية وصعود الخوميني ودولة ولاية الفقيه.
فجرى تبرير استثناء حزب الله من سحب السلاح؛ أولًا بوصفه أهم حزب شيعي لبناني ضد الرئيس المسيحي ورئيس الوزراء السني، وثانيًا لكونه عنصرًا في تيار المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي الذي حدث منذ عام 1982م، وهو تيار جرى تأسيسه بناء على تحالف وصداقة بين إيران وسوريا فيما بعد؛ فظهر أن هناك خللًا عبّر عنه الكاتب “طارق فريد زيدان” في مقالهبجريدة الشروق المصرية بقوله “إن اتفاق الطائف بشكله الممارس منذ العام 1992 إلى 2005 لا يمتّ بصلة إلى صيغته الأصلية. هناك فرق بين الأساطير والنصوص. اتفاق الطائف جاء تعبيرًا عن إرادتين؛ خارجية أولًا ولبنانية ثانيًا، تلتقيان عند أولوية إنهاء الحرب”.
مما يعني أنه وبرغم أن لبنان نظريًا محكوم وفقًا لمخرجات اتفاق الطائف، لكنه عمليًا محكوم وفقًا لتوازن ردع بين الطوائف هو الذي أدى لاشتباكات لاحقة عام 2008 بعدما اختل ذلك الميزان لصالح أحد الأطراف، وهو حزب الله، الذي خرج من حرب 2006 منتشيا بزهو القوة العسكرية التي حصل عليها، والانتصار المعنوي والمادي الكبير الذي حدث، مما أثار غبن الطرف الآخر فامتلك الرغبة على رفض هذا الاختلال، مما يعني أنه وبرغم سيطرة حزب الله في الواقع السياسي، لكن المشهد من الناحيتين الاجتماعية والفكرية يقول بشيء مختلف.
الانشقاق الطائفي الداخلي والحلول
يقول الشيخ “علي بن نايف الشحود” في كتابه “الرد المفصل على الحضارة الغربية” الجزء الخامس: “كان لفقدان الموارنة لبعض الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها قبل اتفاق الطائف أثره في تولد شعور عام لدى المسيحيين بالتهميش، وأن حقوقهم تُسلب منهم شيئًا فشيئًا. وهذا الشعور هو السبب وراء سعي العماد “ميشيل عون” جاهدًا لاسترداد ما كان لرئيس الجمهورية الماروني من صلاحيات قبل اتفاق الطائف”. ويُضيف في نفس السياق: “قوبلت محاولات إقرار عروبة لبنان كهوية أساسية ضمن دستور 1943م، برفض كبير من مسيحيي لبنان، ولم يتم الاعتراف بهذا الانتماء دستوريًا إلا بعد اتفاق الطائف عام 1989م، والذي نص لأول مرة على أن لبنان عربي الهوية”.
وهنا تبرز واحدة من أبرز أزمات الهوية في الشرق الأوسط؛ حيث تمخضت الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) إلى واقع اجتماعي وديني وقومي وسياسي مختلف بشكل كبير عما كان قبل الحرب، وهذا الواقع الجديد الذي شهد بتنامي قوة العرب والمسلمين، هو الذي أفرز الأزمة الحالية في لبنان؛ حيث كان يُعتقد قبل الحرب أن هوية لبنان فينيقية وفقًا لمعتقد حزب الكتائب، وأخرى مسيحية نظرًا للغالبية المسيحية من جانب مختلف، لكن فترة ما بعد اتفاق الطائف وخصوصًا زمن ما يسمى “الوصاية السورية 1991- 2005″، أعطت انطباعًا بوضع ديني وقومي مختلف، ومن ذلك نشأت أزمة الهوية اللبنانية.
ولتفسير أعمق للمشكلة الطائفية بلبنان يقول “الشحود” في نفس الكتاب: “إن الزعيم الدرزي وليد جنبلاط سعى إلى تحسين شروط مشاركة طائفته في السلطة، كمطالبته في اتفاق الطائف بإنشاء مجلس للشيوخ يكون برئاسة الدروز، وهو في سبيل تحقيق زعامته الداخلية، يحاول منع ظهور أي شخصية درزية سياسية تنافسه السلطة في طائفته ومنطقته، وقد ردد مرارًا مقولته المشهورة: “إن الشوف لا يتسع لقصرين”. ولذلك نجده يحاول حصر “التمثيل البرلماني للدروز بجماعته والإمساك بمشيخة العقل وبالأوقاف الدرزية”، مما يعني أن قصص التمثيل الإداري في المحاصصة لم تكن محصورة بين الطوائف الدينية الثلاث بمسماها العام؛ بل نشأت أزمة أخرى وفقًا لمعتقد الدروز عن أنفسهم؛ حيث يجري تسمية حصص المسلمين للسنة والشيعة، لكن الدروز لا يجري تسميتهم كمسلمين؛ فما جدوى المحاصصة بالنسبة للدروز؟
جدوى المحاصصة
يمكن القول بأن أفضل من صنعته المحاصصة هو وقف الحرب، والشعور بالراحة والطمأنينة لمخرجات اتفاق الطائف، لكن هذا على المدى القصير قد يكون مفيدًا، لكنه ليس مفيدًا على المدى الطويل؛ إذ تترسخ أكثر سلطة الطوائف وزعمائها برسوخ المحاصصة، وهو ما يهدد فكرة المواطنة الحديثة التي هي أحد أهم بنود حقوق الإنسان الدولية التي عرفها العالم، ودخلت سائر الدساتير الحديثة.
يقول د. محمد مورو في مقاله بمجلة البيان في أغسطس 2005: “إن الأزمة اللبنانية سابقة على الوجود السوري في لبنان -وهي أزمة بنيوية حقيقية بسبب نظام المحاصصة الطائفية- التي ربما لا يكون هناك بديل عنها حتى الآن. وبسبب ما يمكن أن نسميه الجمود السياسي اللبناني الذي يجعل كل طائفة مرؤوسة لعائلات معينة، تتوارث النفوذ والثروة والسلطة، ويصعب اختراقها جدًا، وهؤلاء الزعماء التقليديون شاركوا في كل شيء؛ في الخطأ والصواب؛ شاركوا في جعل لبنان مجرد شركة اقتصادية وليست دولة، شاركوا في بناء ميليشيات، شاركوا حتى في النساء والسرقات والرشوة والمحسوبية، التي عادة ما يهاجمونها، شاركوا في الإعداد للحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا دون أن يفهم ماذا يريد كل طرف من الداخلين فيها من أهداف من تلك الحرب، ثم شاركوا في اتفاق الطائف بعد ذلك”.
ومن كلام مورو تبين وجه آخر للأزمة اللبنانية، أن السلطة الحقيقية في لبنان وفقًا للمحاصصة لم تكن محصورة فقط لرجال دين الطوائف بوصفهم محتكري وصف وتعريفات الآخر في المخيلة الدينية، ولكن صارت لزعماء الطوائف من الأعيان والأثرياء، وهم في الواقع الذين يتحكمون ويوجهون الانتخابات اللبنانية لصالح الطائفة، بينما تقوم أهم قواعد الديموقراطية على الانتخاب الحر دون النظر لحواجز الدين والعرق واللغة والثقافة.
مستقبل اتفاق الطائف في ظل حرب غزة
قلنا إن لبنان منقسم فعليًا لرأيين أساسيين، الأول يضع لبنان ضمن محور مقاومة إسرائيل، والثاني لا يضعها ضمن أي محاور، ويفضل تصنيف لبنان كدولة مستقلة لها احترام مع دول الجوار، لكن مشكلة الرأيين أنهما حدثا في ظل استقطاب سياسي وإقليمي وديني كبير في الشرق الأوسط؛ فالفتنة السنية الشيعية التي اندلعت منذ عام 2006 ألقت بظلالها على التحالفات داخل لبنان؛ حيث وضعت السنة مع بعض المسيحيين في مواجهة حزب الله بوصفه شيعيًا مدعومًا من إيران التي تريد عزل لبنان عن محيطه العربي، بينما وضع الشيعة المؤيدون للمقاومة أنفسهم مع بعض المسيحيين ضد طرف الموالاة بوصفه أقرب لإسرائيل ومهادنًا لها، أو لا يراها عدوًا.
في هذه الأجواء كتب “د. حمد بن إبراهيم العثمان” في مقاله بجريدة الوطن عام 2007 بعنوان “الشرق الأوسط الجديد والتخدير الإيراني”: “إن جهود إيران في عزل لبنان عن لُحْمته العربية واضحة جدًا، وملامح هذه الجهود قديمة بدءًا من اتفاق الطائف؛ حيث اجتهدت إيران في مزاحمة دول مجلس التعاون ومحاولة قطع الطريق عليهم في حفظ استقرار لبنان وازدهاره بقيادة حكومة الحريري، وذلك من خلال دعم حزب الله وتسليحه وتصييره حكومة داخل حكومة، تعرقل وحدة القرارات السيادية، وما انفراد حزب الله وحده بقرار الحرب مع إسرائيل دون إرادة سائر الشعب اللبناني إلا أكبر دليل على ما نقول“.
يمكن القول بأن أفضل من صنعته المحاصصة هو وقف الحرب، والشعور بالراحة والطمأنينة لمخرجات اتفاق الطائف، لكن هذا على المدى القصير قد يكون مفيدًا، لكنه ليس مفيدًا على المدى الطويل؛ إذ تترسخ أكثر سلطة الطوائف وزعمائها برسوخ المحاصصة، وهو ما يهدد فكرة المواطنة الحديثة التي هي أحد أهم بنود حقوق الإنسان الدولية التي عرفها العالم، ودخلت سائر الدساتير الحديثة.
لكن التقسيم الديني ضعف كثيرًا في الأعوام الأخيرة؛ حيث تقربت بعض فصائل السنة لمحور المقاومة كالجماعة الإسلامية (فرع إخوان لبنان)، وهي تحارب حاليًا بجوار حزب الله في الجنوب تحت تصنيف “كتائب الفجر”، ويمكن القول بأن هذا التصرف للجماعة الإسلامية اللبنانية هو ما أثار انقضاء الفتنة الطائفية الإسلامية بين السنة والشيعة، والتي بدأت تظهر بوادرها في القضاء على داعش في سيناء والعراق وسوريا وليبيا، إضافة لأحداث الشيخ جراح في القدس عام 2021، والتي ألهبت شعور المسلمين وأعادت فتح ملف القدس إعلاميًا ودعائيًا وسياسيًا مرة أخرى.
وصولًا لطوفان الأقصى؛ فالشعور العربي والإسلامي العام لم يعد يرى في نفسه منقسمًا إلى سنة وشيعة؛ بل كهوية إسلامية وعربية واحدة تشعر بالخطر من الكيان الصهيوني، ولبعض الفئات المسيحية اللبنانية ذات التوجه العروبي أو القومي أو الديني المعارض لإسرائيل صارت لدينا شريحة لبنانية كبيرة لا ترى في حزب الله والمقاومة اللبنانية خطرًا يتهدد لبنان مثلما كان عليه الوضع قبل سنوات، وكأثر مباشر للفتنة الدينية المنقضية، وهذا وإن دل فيدل على أن مشكلة لبنان الأساسية هي في الاستقطاب الإقليمي دينيًا وسياسيًا؛ فتقارب السنة والشيعة، أو بين السعودية وإيران يعالج كثيرًا من مشاكل لبنان.
ولو أفردنا الخط التحليلي الزمني على استقامته يمكن القول بأن بقاء الوضع على ما هو عليه الآن عدة سنوات على الأقل 10 أعوام يعني أن مشكلة لبنان الأساسية في المحاصصة سيجري حلها، وما مشكلة انتخاب الرئيس إلا عارض للجوهر المتأزم وهي فقدان الثقة بين الطوائف والمحاور، وفي حال استمرار وترسيخ وتعزيز هذا السلام بين العرب والمسلمين، أو توجيه طاقات العرب فقط ضد إسرائيل سيشفى لبنان من مرضه، الذي هو بالأصل تاريخي وراثي؛ حيث ورث اللبنانيون كافة أمراض الفكر والصراعات القومية والدينية التي نشبت في الشرق الأوسط لأسباب متعددة، أبرزها تداخل لبنان جغرافيًا واجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا مع كل أطراف المشكلة.
مستقبل اتفاق الطائف في ظل حرب لبنان
في 26 نوفمبر الماضي جرى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، والذي كان سببه من جهة إسرائيل دعم حزب الله للمقاومة الفلسطينية واعتداء على سكان الشمال منذ يوم 8 أكتوبر عام 2023، ومن جهة حزب الله دعم الشعب الفلسطيني في محنته بجبهة إسناد لوقف المجازر الإسرائيلية في حق شعب غزة.
في ظل توازن القوى الداخلي اللبناني يمكن النظر لهذا الاتفاق على أنه مرحلة مهمة؛ فهو من جهة نظرية وعملية سيؤثر على وضعية حزب الله بالداخل اللبناني؛ حيث ومنذ أحداث آيار عام 2008 حتى 7 من أكتوبر 2023، وهناك توازن ردع بين مختلف الطوائف اللبنانية، أدى لتفوق حزب الله بصفته المعادل الأقوى معنويًا وماديًا من عدة نواحٍ؛ منها امتلاكه سلاحًا كبيرًا وقويًا ومعنويات هائلة، وحاضنة شعبية متحمسة لإنجازه ضد إسرائيل عام 2006، أما الآن وحيث لم يتحقق النصر الكامل لا للحزب ولا لإسرائيل؛ فينظر خصوم حزب الله له على أنه صار ضعيفًا نوعًا ما، وهذا ما سوف يشجع البعض من خصومه على استهدافه؛ فالبشر لا يعتدون سوى على الضعفاء، ولو كان خصمهم قويًا وأرادوا الاعتداء عليه سيعملون على تصويره ضعيفًا لتبرير سلوكهم بشكل غريزي.
لم يساهم اتفاق وقف إطلاق النار في هذا فقط؛ بل بهجوم ميلشيات هيئة تحرير الشام المعارضة (جبهة النصرة سابقًا) في سوريا على الجيش السوري يوم 27 نوفمبر، أي بعد توقيع وقف إطلاق النار بين الحزب وإسرائيل بيوم واحد، ثم سيطرتهم مؤخرًا على حلب وحماة؛ في طريق تقدمهم للسيطرة على حمص ودمشق، وبعيدًا عن تفصيل هذه الحوادث؛ فوضعية حزب الله في ظل هذه الأحداث المتسارعة مهمة للغاية في تشكيل وطبيعة مستقبل اتفاق الطائف؛ فتوازن الردع الديني والعسكري داخل لبنان يختل بضعف أحد قياداته الكبرى، أو انشغاله بمعارك ثانوية خارج لبنان تحد من قدراته، ولعل هذا من أحد أهداف هجوم جبهة النصرة على مقرات وقواعد الجيش السوري، ليس فقط كما هو معلن بقطع خطوط الإمداد العسكرية الإيرانية داخل سوريا، ولكن أيضًا لدفع حزب الله للخروج من لبنان وكسر هيمنته في الداخل، والتي ربحها بتضحيات كبيرة طوال 15 عامًا.
والمؤكد منه أن أي تغيير سياسي في سوريا سوف يؤثر بالتبعية على لبنان، نظرًا للتاريخ المشترك وعوامل الجغرافيا والبيئة والثقافة واللغة والدين، كلها عوامل جعلت من لبنان مسرحًا سوريًا والعكس صحيح، أي أن حصول أي تغيير في بلد منهم سينتقل آليا للبلد الآخر، ومن تلك الزاوية برر حزب الله موقفه في التدخل بالحرب السورية منذ عام 2013؛ حيث إن هجوم المعارضة على حمص والقصير والقلمون والزبداني، جعل من لبنان هدفًا للمجموعات الدينية المتطرفة، والتي تريد القضاء على المكون الشيعي والمسيحي بلبنان، مما يجعل من مستقبل اتفاق الطائف هدفًا هو الآخر بعمليات التغيير المتسارعة التي تجري، ويبقى السؤال عن طبيعة وشكل هذا التغيير المنتظر، وإلى أين سيصل القادة الجدد بتصوراتهم وخيالاتهم عن مستقبل المنطقة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.