توقيف السلطات اللبنانية عبد الرحمن يوسف، الشاعر والناشط الحقوقي المصري، أثناء قدومه من سوريا. لم تكن تلك اللحظة سوى بداية سلسلة من الأحداث التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والإعلامية. بعد أيام من الاحتجاز، وفي ظل طلبات استرداد من مصر والإمارات، تم ترحيله إلى أبوظبي دون منح أسرته أو محاميه أي معلومات عن مكان احتجازه أو حالته.
وواجهت كل من لبنان والإمارات انتقادات حادة تتعلق بانتهاك الحقوق الأساسية والحريات العامة تحت ذريعة القانون، وفيما يبدو مصيره غامضًا حتى الآن، تستمر الضغوط الحقوقية للإفراج عنه أو إعلان مكان احتجازه وإجراءات محاكمته؛ خاصة في ضوء تردد معلومات (غير مؤكدة) عن مصيره. عبّرت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية عن قلقها إزاء هذا التحرك، مشيرة إلى أن الإمارات واجهت في السنوات الأخيرة انتقادات بشأن سياسات التعامل مع الأصوات المعارضة، رغم جهودها لتقديم نفسها كدولة تتبنى التسامح والانفتاح.
واعتبرت بعض المنظمات الحقوقية القضية دلالة لانتهاكات حقوق الإنسان العابرة للحدود، والتي توظف فيها الحكومات نفوذها السياسي لتكميم الأصوات المعارضة.
ومن جهتها، بررت السلطات الإماراتية الإجراء بأنه يتماشى مع القوانين المحلية ومكافحة الأنشطة التي قد تضر بالمصالح العامة، واعتبر آخرون أن القبض على يوسف قد يعكس توترًا أوسع في العلاقة مع الحركات المعارضة ذات الامتدادات الإقليمية.
يقول محمد صبلوح محامي “القرضاوي” في حديث خاص لـ”مواطن” إنه لا يعرف حتى اللحظة منذ تسليمه للإمارات، الأربعاء الماضي، أية معلومات حول مقر احتجازه أو إجراءات محاكمته، وكذلك أسرته، بينما تتابع كافة الأطراف بكثير من القلق الأنباء المترددة عن تعرضه للتعذيب وتدهور حالته الصحية، مشيرًا إلى أنه لا يستبعد الأمر.
في 2022، أصدرت الإمارات قانونًا جديدًا للجرائم الإلكترونية يُجرّم أي انتقاد للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعزز الرقابة الشديدة على الإنترنت ويقيد حرية التعبير بشكل أكبر.
ويضيف صلبوح أن لبنان خالف كافة الأعراف والقوانين حين سلم “القرضاوي” بهذه الطريقة، من أجل مصالح خاصة، في المقابل تعهدت الإمارات بمراعاة كافة بنود حقوق الإنسان لكنها لم تلتزم بذلك؛ إذ إن أهم حقوق الشخص الموقوف هو إبلاغ أسرته بمكانه وإعلان إجراءات محاكمته بشكل شفاف، ذلك ما يزيد المخاوف بشأن تعرضه للتعذيب؛ خاصة أن الإمارات لها سوابق تاريخية بانتهاج التعذيب.
ويؤكد صلبوح على استمرار التنسيق بكافة الطرق مع مختلف المنظمات الحقوقية في العالم، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، وذلك للضغط على السلطات الإماراتية للإعلان عن مكان احتجاز “القرضاوي” وطبيعة وضعه الصحي والإفراج عنه، كما تراجع المنظمات الدولية توجيه إدانة لحكومة لبنان باعتبارها مسؤولة عن تسليم “القرضاوي” بالمخالفة للمواثيق الدولية؛ خاصة اتفاقية مناهضة التعذيب الموقع عليها لبنان.
من جهته يقول الناشط الحقوقي الإماراتي، حمد الشامسي، المدير التنفيذي لمركز مناصرة معتقلي الإمارات، لـ”مواطن”: “إن ما حدث لعبد الرحمن يوسف القرضاوي هو اختطاف واضح وليس إجراءً قانونيًا مشروعًا، كونه ليس مطلوبًا على خلفية أي حكم قضائي في الإمارات، ولا يحمل الجنسية الإماراتية”.
ويضيف: “الضغوط التي مارستها الإمارات على السلطات اللبنانية لتسليمه تشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وحقوق الإنسان. هذه الحادثة تعكس سلوكًا ممنهجًا من الإمارات لتوظيف نفوذها السياسي والمالي في ملاحقة النشطاء والمعارضين حول العالم.
ماذا حدث؟
في 27 من ديسمبر/ كانون الأول 2024، أوقفت السلطات اللبنانية عبد الرحمن يوسف أثناء عودته من سوريا، بناءً على طلبين من مصر والإمارات لتسليمه. اتهمته النيابة العامة الإماراتية بـ”نشر معلومات مثيرة للفتنة وغير صحيحة” عبر الفيديو المذكور. بعد تحقيقات في لبنان، تم ترحيله إلى الإمارات في 9 من يناير/كانون الثاني 2025.
“القرضاوي” هو شاعر وناشط مصري، وابن الداعية الراحل يوسف القرضاوي، في أواخر ديسمبر 2024، نشر عبد الرحمن مقطع فيديو من داخل المسجد الأموي في دمشق، انتقد فيه بعض الأنظمة العربية، واصفًا إياها بـ”الصهاينة العرب” و”الخزي العربي”.
اعتبرت السلطات الإماراتية أن الفيديو الذي نشره عبد الرحمن يتضمن تحريضًا ونشرًا لمعلومات كاذبة تهدف إلى إثارة الفتنة، كما أن هناك أحكامًا غيابية صادرة ضده في مصر، من بينها حكم بالحبس لمدة 3 سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة في 2016.
مواضيع ذات صلة
من جهتها، أعربت أسرة عبد الرحمن عن قلقها من مصيره بعد الترحيل؛ خاصة في ظل مخاوف من تعرضه للتعذيب أو محاكمة غير عادلة. أكد المحامون أنهم لم يُمنحوا الوقت الكافي لاستكمال الإجراءات القانونية في لبنان قبل الترحيل.
وفي وقت سابق، قال محمد صبلوح، محامي القرضاوي، لـ هيومن رايتس ووتش: “إن السلطات اللبنانية اعتقلت القرضاوي في 28 من ديسمبر عند معبر المصنع الحدودي لدى عودته من سوريا، بناء على مذكرة توقيف صادرة بحقه في مصر”.
وذكر صبلوح أن طلب توقيف آخر صدر في 30 من ديسمبر/كانون الأول من الإمارات. قالت الحكومة اللبنانية في قرارها إن الإمارات طلبت في 2 يناير/كانون الثاني استرداد القرضاوي، على خلفية تهم؛ منها نشر أخبار وإشاعات كاذبة والإخلال بالنظام العام. وقال: “إن طلب التوقيف الإماراتي سببه منشور على منصات التواصل الاجتماعي للقرضاوي خلال زيارته لسوريا”.
وتقول هيومن رايتس ووتش إنها تحققت من المنشور المقصود، ولم تجد أنه يُشكل أي جريمة مُعترف بها في القانون الدولي، مؤكدة أن “الضمانات الشفوية بالمعاملة العادلة لا يمكنها أن تعادل سجل الإمارات من المحاكمات الجائرة والتعذيب وسوء المعاملة السيئة”.
منذ إلقاء القبض عليه، كثفت منظمات حقوقية ضغوطها للإفراج عن عبد الرحمن يوسف، وفي بيان مجمع؛ طالبت 28 منظمة حقوقية بالإفراج الفوري وغير المشروط عنه، والسماح له بالعودة الآمنة إلى تركيا التي يحمل جنسيتها ويقيم فيها، وطالبت الإمارات بالكشف عن مكان احتجازه وظروفه الحالية، وضمان سلامته الجسدية والنفسية، وضمان حصوله على حق التواصل مع أسرته ومحاميه بشكل منتظم ودون قيود، وتمكينه من الدفاع عن نفسه أمام أية اتهامات قد تُوجه إليه.
وحملت المنظمات الحقوقية السلطات الإماراتية المسؤولية الكاملة عن سلامته الجسدية والنفسية، وعن أي انتهاكات لحقوقه الأساسية، كما طالبت السلطات التركية بطلب رسمي عاجل لزيارة قنصلية للاطمئنان عليه، ونشر بيان عاجل يوضح ظروف احتجازه، والتأكد من سلامته الجسدية والنفسية، وممارسة كافة الضغوط اللازمة لضمان إطلاق سراحه في أسرع وقت ممكن وعودته.
مخاوف من تعرضه للتعذيب
حتى اللحظة لم تفصح السلطات الإماراتية عن مكان احتجاز “القرضاوي” أو طبيعة إجراءات محاكمته، فيما تحذر أوساط حقوقية من احتمال تعرضه لانتهاكات أو تعذيب داخل محبسه.
إلى ذلك يقول رئيس مركز مناصرة معتقلي الإمارات حمد الشامسي في حديثه مع “مواطن”: “إن احتمال تعرض عبد الرحمن يوسف القرضاوي للتعذيب وارد للغاية، مشيرًا إلى أن الإمارات لديها سجل موثق من الانتهاكات الجسيمة في هذا السياق. تقارير منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي، بالإضافة إلى شهادات معتقلين سابقين، أكدت تعرض السجناء السياسيين في الإمارات للتعذيب الجسدي والنفسي”.
ويضيف: “القانون الإماراتي، وتحديدًا المادة 28 من قانون جهاز أمن الدولة، يسمح باحتجاز الأفراد لمدة تصل إلى 90 يومًا دون الحاجة إلى إذن النيابة، خلال هذه الفترة، يتم احتجاز المعتقلين في مراكز احتجاز سرية تابعة لجهاز أمن الدولة؛ حيث تتوفر بيئة خصبة للتعذيب والإخفاء القسري، بالنظر إلى أن قضية عبد الرحمن تحمل طابعًا سياسيًا واضحًا؛ فإن احتمال تعرضه للتعذيب والمعاملة القاسية مرتفع جدًا”.
وبسؤاله عن الالتزامات القانونية والحقوقية التي يتوجب على الإمارات مراعاتها أثناء المحاكمة، يقول الشامسي: “إن سلطات بلاده لا تملك أساسًا قانونيًا لمحاكمة عبد الرحمن يوسف القرضاوي، والالتزام الوحيد الذي يقع على عاتقها هو الإفراج الفوري عنه وإعادته إلى مكان آمن. تعرض عبد الرحمن لعملية اختطاف لا يمكن وصفها بأي مصطلح قانوني آخر: إذ لم تصدر بحقه أي أحكام قضائية، ولم يرتكب أي جرم يبرر اعتقاله أو تسليمه”.
ويقول حمد الشامسي: "إن واقعة عبد الرحمن يوسف القرضاوي ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة من الانتهاكات الإماراتية العابرة للحدود؛ فقد دأبت الإمارات على استخدام نفوذها السياسي وعلاقاتها الإقليمية لاستهداف النشطاء والمعارضين خارج أراضيها".
ويلفت النظر إلى أن ما قامت به الإمارات بالتعاون مع السلطات اللبنانية، يمثل انتهاكًا للقانون الدولي، الذي يضمن حماية الأفراد من التسليم التعسفي والاختفاء القسري، وعلى الإمارات أن تلتزم باتفاقياتها الدولية، بما في ذلك اتفاقية مناهضة التعذيب، وأن تضمن سلامة عبد الرحمن وحمايته والإفصاح عن مكانه.
انتقادات حقوقية واسعة للإمارات
تواجه الإمارات انتقادات مستمرة من المنظمات الحقوقية الدولية بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، ومن أبرز القضايا التي تثير القلق؛ قمع حرية التعبير والرأي من خلال استهداف الصحفيين والنشطاء، واعتقالهم في ظروف قاسية، وغالبًا دون محاكمات عادلة.
بالإضافة إلى ذلك، توجه اتهامات للدولة بممارسة التعذيب وسوء المعاملة في السجون؛ خاصة بحق المعتقلين السياسيين والمعارضين، وتتهم السلطات الإماراتية أيضًا بإصدار قوانين تقيّد حرية التنظيم والتجمع السلمي، بما يعزز السيطرة الأمنية على المجتمع المدني. بالإضافة إلى ذلك، يشكل استغلال العمالة الوافدة قضية بارزة؛ حيث يتعرض العمال لانتهاكات تتضمن العمل القسري، تأخير الرواتب، وظروف سكن غير إنسانية، مع غياب ضمانات قانونية كافية تحمي حقوقهم.
دفعت هذه الممارسات منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية”، إلى المطالبة بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في الإمارات، إلا أن السلطات تواصل نفي هذه الاتهامات وتعتبرها تدخلاً في شؤونها الداخلية.
ويقول احمد الشامسي: “إن واقعة عبد الرحمن يوسف القرضاوي ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة من الانتهاكات الإماراتية العابرة للحدود؛ فقد دأبت الإمارات على استخدام نفوذها السياسي وعلاقاتها الإقليمية لاستهداف النشطاء والمعارضين خارج أراضيها”.
ويضرب مثالاً آخر على ذلك؛ هو اختطاف خلف الرميثي من الأردن وتسليمه إلى الإمارات، في تحدٍّ صارخ للقانون الدولي؛ فتظهر هذه الممارسات تمادي الإمارات في ملاحقة الأصوات الحرة، مما يثير مخاوف جدية حول غياب أي التزام حقيقي بالقوانين الدولية واحترام حقوق الإنسان.
تعد قضية معتقلي “الإمارات 94” من أبرز القضايا التي تواجه انتقادات حقوقية واسعة، ففي عام 2013، حُكم على 69 ناشطًا بالسجن لفترات طويلة في محاكمة جماعية، عُرفت باسم “الإمارات 94″؛ حيث وُجهت إليهم اتهامات بمحاولة الإطاحة بالحكومة، رغم أن المنظمات الحقوقية أكدت أن المحاكمة افتقرت إلى أدنى معايير العدالة، وأن المعتقلين تعرضوا للتعذيب وسوء المعاملة لانتزاع اعترافات قسرية.
وفي عام 2017، احتجزت السلطات الإماراتية الناشط الحقوقي أحمد منصور، الحاصل على جائزة مارتن إينالز للمدافعين عن حقوق الإنسان، واعتُقل بسبب تغريداته التي انتقد فيها انتهاكات حقوق الإنسان في الإمارات، ثم حُكم عليه بالسجن 10 سنوات وغرامة كبيرة بتهمة “الإضرار بسمعة الدولة”، وأكدت منظمات دولية أن “منصور” قد وُضع في الحبس الانفرادي وتعرض لظروف اعتقال قاسية.
وتتكرر التقارير حول انتهاكات حقوق العمالة الوافدة؛ مثل التأخير في دفع الرواتب، مصادرة جوازات السفر، والعمل لساعات طويلة دون راحة. في 2020، وأثارت قضية عمال معرض “إكسبو دبي” انتقادات واسعة؛ حيث وثّقت منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” ظروف عمل غير إنسانية، بما في ذلك نقص الحماية الصحية خلال جائحة كورونا.
واتهمت الإمارات بتورطها في انتهاكات لحقوق الإنسان في اليمن من خلال دعم قوات متهمة بارتكاب جرائم حرب، مثل التعذيب والاختفاء القسري. وثّقت تقارير دولية وجود سجون سرية تديرها الإمارات أو ميليشيات مدعومة منها في جنوب اليمن؛ حيث تعرض محتجزون للتعذيب والانتهاكات.
في 2022، أصدرت الإمارات قانونًا جديدًا للجرائم الإلكترونية يُجرّم أي انتقاد للحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعزز الرقابة الشديدة على الإنترنت ويقيد حرية التعبير بشكل أكبر.
ماذا بعد؟
بينما يكتنف الغموض مصير عبد الرحمن يوسف، تبقى قضيته شاهدًا على التحديات التي تواجهها الأصوات المعارضة في منطقة لا تزال تحاصرها القيود على الحريات والحقوق. وتبقى الأسئلة قائمة: إلى متى ستظل الأنظمة توظف قوانينها لتصفية الحسابات مع المعارضين؟ وهل يمكن أن ينجح المجتمع الدولي في إحداث تغيير ملموس يحمي حقوق الأفراد في مواجهة هذه السياسات القمعية العابرة للحدود؟