بعد سقوط نظام بشار الأسد، تتداخل مشاعر الحزن والخوف والارتباك مع بصيصٍ من الأمل في غدٍ أفضل؛ فأنا كمواطنة سورية، وككاتبة تنتمي للطائفة العلوية، وجدت نفسي أمام منعطف عميق، تتأرجح مشاعري بين المتشابكة والمتناقضة، كأنني أحمل في داخلي وطنًا بأسره، مليئًا بالأسئلة والتحديات والأحلام. وأنا كامراة أرى النساء السوريات كن حاضرات في كل منعطف تاريخي تمر به بلادنا، وأديبات سوريا لسن استثناءً. من خلال أقلامهن، كتبنَ عن الحرية والحب، والألم الذي عصف بوطننا لعقود، وأحاول هنا أن أصطف مؤدية دوري جوار هؤلاء.
على أثر كوليت خوري، التي تعتبر واحدة من أبرز الأديبات السوريات، كانت صوتًا نسائيًا قويًا يواجه القيود الاجتماعية والسياسية في زمنها، وذلك عبر أعمالها الأدبية؛ فلم تكن فقط كاتبة تبحثُ عن الذات؛ بل كانت أيضًا نموذجًا للمرأة السورية التي تصرّ على أن يكون لها دور في صياغة هوية الوطن. فالكاتبات، من كوليت خوري إلى جيلنا الحالي، كسرنَ حاجز الصمت وتحدين القوالب التقليدية التي حاولت تهميش أصواتهن، ومن خلال أقلامهن قدمنّ رؤى مختلفة لسوريا، رؤى تجمعُ بين الحلم والألم، بين التحدي والأمل. اليوم، ونحن نعيش هذه اللحظة المفصلية في تاريخنا، والتي تمهد لدولة جديدة كليًا علينا، أجد نفسي حقيقةً مدينة بشكل كبير لهؤلاء النساء؛ فإن إرثهنّ يلهمني، ويذكرني بأنّ الكلمة يمكن كثيرًا بأن تكون سلاحًا أقوى من كل أدوات القمع.
إن سوريا الحرة بحاجة إلينا جميعًا، بحاجة إلى كُتابها ومعلميها، لمزارعيها وصناعها، لخبرائها وشبابها، سوريا بحاجة إلى قلوبنا وأحلامنا؛ فلنعمل معًا، ولنكتب فصلًا جديدًا من تاريخنا؛ فصلًا يليق بتضحياتنا، وإنسانيتنا.
الكتابة في هذه المرحلة ليست فقط وسيلة للتعبير عن الذات؛ بل هي أيضًا فعلُ مقاومة؛ مقاومة لكلّ الصور النمطية، لكلّ الأحكام المسبقة، ولكلّ محاولات تكميم الأصوات، لكن كل ذلك -للحقيقة- لا ينفي بشاعة الشعور عندما أضطر إلى التبرير أو التوضيح: “أنني علوية، لكنني لستُ مسؤولة عن أفعال النظام”، هذا الشعور يقيدني، لكنه في الوقت نفسه يدفعني للاستمرار، لأن الكتابة هي الطريق الوحيد الذي أجد فيه نفسي حرة، ولو للحظات.
الجراح الشخصية بين الهوية والانتماء
لطالما شعرت بأن انتمائي للطائفة العلوية كان أمرًا معقدًا، خاصة في ظل غياب مرجعية دينية أو فكرية واضحة للطائفة، وهذا الغياب كان دائمًا بالنسبة لي مصدرًا للقلق، وكأنه يتركنا في فراغ يجعلنا عُرضة لأن تُعرّفنا السياسة بدلًا من أن نعرّف أنفسنا، ومع سقوط نظام بشار الأسد، أصبحت هذه الأزمة أكثر وضوحًا؛ فقد ورثنا إرثًا مثقلًا بالاتهامات والارتباط السياسي الذي لم نختره، هناك تراكم متزايد من أصابع الاتهام التي تُوجه للطائفة ككل، وكأننا جميعًا مسؤولون عن الظلم الذي مارسه النظام!
وجدت نفسي عالقة بين هويتي الفردية وانتمائي الطائفي، أحيانًا أضطر لتقديم نفسي كواحدة من الطائفة العلوية حتى يفهمني الآخرون، وهذا شعور مؤلم، لماذا يجب أن تُختزل هويتي في انتماء ديني أو طائفي؟ لماذا لا أكون إنسانة سورية ببساطة؟
الخوف من التفتت وذاكرة الانتداب
يتسلل إلى قلبي خوف لا يفارقني، خوفٌ من تلك الأحداث الفردية المتكررة التي تطرق أبوابَ الجوار دون استئذان، حالاتُ القتل الفردي والخطف والتصفيات التي تتغذى على خطابِ الكراهية والطائفية، جميع هذه الأحداث ليست مجرد وقائع معزولة؛ بل إشارات مُقلقة على هشاشة النسيج الاجتماعي الذي بدأ يتشقق تحتَ وطأة الغضب والثأر
والأكثر إيلامًا وقلقًا، كان سماعي عن أن بعض المناطق في سوريا اضطرت للمطالبة بالحماية الدولية من فرنسا! هذا المطلب أعادني قسرًا إلى الذاكرة السورية القديمة أيام الانتداب الفرنسي، تلك الحقبة التي لم تجلب سوى المزيد من التفكك والتبعية، إنّ فكرة العودة إلى تلك الأيام تُرعبني بقدرِ ما يُرعبني استمرار هذا التدهور الأمني، لا أستطيع تخيّل أن تُصبح سوريا مسرحًا لتدخلاتٍ خارجية جديدة، تُغذي الصراعات بدلًا من إخمادها
أنا لا أُحبذ العودة إلى ماضٍ لم نُشفَ من جراحه بعد، ولا أقبل أن نُسلّم مستقبلنا للخوف أو للانتقام، إنني أتوق إلى سوريا يسودها العدل والأمن والأمان، إلى سوريا التي تُحترم فيها كرامة الإنسان، ويشعر فيها كل فرد -بغضّ النظر عن طائفته أو خلفيته- بالأمان في بيته وشارعه ومدينته.
أحلم بوطن لا يُهدد أفراده بالخطف أو القتل، ولا يجدون أنفسهم مضطرين لطلب الحماية من قوى خارجية، وطنٌ قوي بعدله، راسخ بتسامحه، لا يحتاج سوى إلى سواعد أبنائه لبنائه من جديد.
السوريون الأعداء
أجد صرخة أدبية عميقة في رواية “السوريون الأعداء”، التي تعكس حال السوريين في ظل الصراعات والانقسامات؛ في هذا العمل، يصوّر لنا فواز حداد كيف تحولت العلاقات بين أبناء الوطن الواحد إلى علاقات قائمة على الريبة والخوف، وكيف دفعت الحرب الأهلية السوريين ليصبحوا أعداءً داخل وطنهم.
يتناول “حداد” ببراعة فكرة الانتماء، وكيف يمكن أن يتحوّل من شعور بالهوية إلى عبء يُثقل كاهل الفرد، ويعكس هذا تمامًا الشعور الذي أعانيه؛ كوني محسوبة على طائفة معينة، أشعر وكأن انتمائي أصبح عبئًا يجب تبريره أمام الآخرين، وسط تصاعدِ الخطاب الطائفي.
“الحرب جعلت السوريين أعداء أنفسهم، لا أحد بريء، والكل متورط بطريقة أو بأخرى، حتى الصمت كان خيانة”، هذا الاقتباس الذي جاء في الرواية، يُجسد بعمق شعور الخوف الدائم من الاتهام، والتورط القسري في معركة لم نختر خوضها؛ فالصمت أحيانًا لم يعد خيارًا آمنًا؛ بل صار يُنظر إليه كتواطؤ أو خيانة.
كما تطرّق حداد إلى فكرة العدالة الغائبة والبحث عن الأمان؛ حيث يقول: “في زمن الحرب، لا مكان للعدالة، إما قاتل أو مقتول، لا منطقة رمادية للنجاة”
هذا الوصف يشبه خوفي العميق من انعدام الأمان وتلاشي العدالة، ويُبرز كيف أصبح الخوف جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية؛ في ظل حالات القتل والخطف وتصاعد الكراهية.
وللحقيقة، إن ما يجعل هذه الرواية مهمة هو أنها لا تكتفي بسرد وقائع الحرب؛ بل تغوص في تفاصيل النفس البشرية؛ في هشاشتها وقلقها وخوفها، ويعكس هذا تمامًا حالتي ككاتبة تحاول أن تكتب بصدق، لكنها تجد نفسها مضطرة لتفسير انتمائها حتى لا يُساء فهمها أو تُتهم بشيء لم ترتكبه. دعانا “حداد” إلى التفكير بعمق في سؤال الهوية والانتماء والعدالة، وهي أسئلة أطرحها على نفسي يوميًا، خاصة مع تصاعدِ العنف والخوف من أن يتحوّل المجتمع إلى ساحة انتقامية.
“السوريون الأعداء” لا تقدّم إجابات جاهزة، لكنها تفتح الباب واسعًا للتأمل في حالنا كسوريين؛ في صراعاتنا الداخلية والخارجية، وفي خوفنا من المستقبل، هي رواية تشبه وجعي، وجع كل امرأة سورية تخشى أن تضيع في خضم الاتهامات والانقسامات.
وأنا أضم صوتي لصوت الرواية، أتمنى أن يأتي يوم نستطيع فيه أن نُعرّف أنفسنا كـ”سوريين” فقط، بلا حاجة لتفاصيل تُفسر من نكون. أحلم بوطن يُعاملني كإنسانة، لا كامتداد لطائفة أو نظام.
لكن كيف يمكننا أن نعيد بناء سوريا بطريقة لا تجعلنا عالقين في ماضٍ منظور، أسرى تاريخ من الظلم والقمع؟ أخاف أن يتحول حلم الدولة الجديدة إلى كابوس آخر؛ حيث يُنظر إلينا كطائفة مسؤولة عن كل ما حدث، الخوف من الانتقام أو العزل هو شعور حقيقي، خاصة عندما تكون الطائفة مرتبطة برأس النظام الذي حكم البلاد بالحديد والنار. لكنني أؤمن بأن الدولة التي نحلم بها يجب أن تكون دولة قائمة على العدالة لا الانتقام، العدالة التي تحاسب الأفراد على أفعالهم، وليس على انتماءاتهم، العدالة التي تعترف بالجراح، لكنها تفتح المجال للمصالحة. إن الدولة الجديدة لا يمكن أن تُبنى على أسس الطائفية، وإلا فإننا سنكرر نفسَ الأخطاء التي أدّت بنا إلى هذا الوضع، سوريا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد، يقوم على المواطنة الكاملة والاحترام المتبادل.
الحل في التسامح والعدالة
إنني وبشكلٍ شخصي أؤمن بأنّ سوريا الجديدة، لا يمكن أن تُبنى على أساس الطوائف أو الانتماءات الضيقة، إنما يجب أن تكون سوريا وطنًا للجميع، تتسع لكل الأصوات ولكل الأحلام.
يكون فيها التسامح هو المفتاح الأول لهذه النهضة، ولكن ليس التسامح الذي يعني النسيان أو الإنكار؛ بل التسامح الذي يعني بأن نفتح قلوبنا لتفهم تجارب بعضنا بعضًا، وأن نمد أيدينا لخلق مستقبل أفضل.
عندما أضطر إلى التبرير أو التوضيح: "أنني علوية، لكنني لستُ مسؤولة عن أفعال النظام"، هذا الشعور يقيدني، لكنه في الوقت نفسه يدفعني للاستمرار، لأن الكتابة هي الطريق الوحيد الذي أجد فيه نفسي حرة، ولو للحظات.
أما المفتاح الثاني فهو العدالة، العدالة التي تضمن حقّ كل من ظُلم، وتفتحُ الطريق أمام مساءلة حقيقية لمن ارتكب الجرائم، دون استثناءٍ أو تحيز، إن سوريا الجديدة يجب أن تتعلم من أخطائها، وأن تبني نظامًا يحمي الجميع، بغضّ النظر عن انتماءاتهم أو مواقفهم السابقة.
بعض الأمل
إني ورغم كل شيء، ما زلت حتى الآن أؤمن بأنّ الأمل ما زال قائمًا، نعم، رغم الجروح العميقة، ورغم الصراعات المعقدة، إلا أنني أؤمن كثيرًا بالمواطنة، وبأننا كشعب قادرون على تجاوز الأزمة التي فُرضت علينا لسنين. إننا الآن كسوريين بحاجة إلى شجاعة أكبر لمواجهة أنفسنا قبل أن واجه بعضنا بعضًا، علينا أن نسأل: ماذا تعلمنا من هذه التجربة؟ كيف يمكننا أن نمنع تكرارها؟
إلى كل سورية وسوريّ يقرأ هذه الكلمات، دعونا نبدأ من جديد، دعونا نكون أكبر من جراحنا، وأقوى من خلافاتنا، دعونا نعمل معًا من أجلِ سوريا لتكون لنا جميعًا، دون استثناء أو تمييز. رغم كل الألم؛ فإنني أرى في هذا التحول فرصة؛ فرصة عظيمة لإعادة بناء وطننا على أساس الحرية والعدالة والتسامح، وأؤمن بأننا إذا تمسكنا بالأمل، وإذا عملنا معًا؛ فإنّ سوريا يمكن أن تنهض من جديد.
وختامًا.. أود أن أضيف بأنّ تلك ليست مجرّد كلمات قد صفّت وكُتبت فقط؛ بل هي دعوة للتفكير والعمل، دعوة لتحكيم العقل والمنطق على الأقاويل والمورثات، دعوة لنفصل الدين عن الدولة، دعوة لأن نتسامح فيما بيننا و نضع أنفسنا مكان الآخر، دعوة لنستوعب مدى حجم عمق بئر الظلم والفساد الذي أجبرنا على تقبله وممارسته علينا لسنين طوال، دعوة للحرية والعيش، دعوة للشعور الحقيقي بمعنى كلمة مواطن، والتي -للأسف- لم أكن -شخصيًا- أشعر بها، أسمعها فقط بوسائل الإعلام وأقرأ عنها في الكتب، الآن ليس كالغد، والغد ليس شبيهًا بسابقه، إن سوريا الحرة بحاجة إلينا جميعًا، بحاجة إلى كُتابها ومعلميها، لمزارعيها وصناعها، لخبرائها وشبابها، سوريا بحاجة إلى قلوبنا وأحلامنا؛ فلنعمل معًا، ولنكتب فصلًا جديدًا من تاريخنا؛ فصلًا يليق بتضحياتنا، وإنسانيتنا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.