بين أشجار الدفلاء والصفاف الوارفة وهدير المياه الجارية، تتمايل أشعة الشمس لتلقي انعكاسها على صفحة الماء، وفي هذه الجنة، يجتمع سكان الجنوب اللبناني، كلُّ في قريته لقضاء أيام الصيف الحارة، متكئين على كتف وادي الليطاني؛ حيث نسمات الهواء تنعش قلوبهم التي حُرمت طويلًا من هذا النهر. فقد كان قبل تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000 مكانًا بعيد المنال بالنسبة لهم.
هكذا وصفت لينا ابنة بلدة يحمر الشقيف، وهي من بلدات وادي الليطاني، طبيعة المكان، تسرد لـ”مواطن” قصصهم مع النهر، تقول: “الأوقات التي كنّا نقضيها هناك لا تنسى، نجتمع مع الأقارب والأصدقاء، وإذا زارنا ضيف من خارج الجنوب، ندعوه إلى النهر؛ حيث تختلط رائحة الشواء بدخان النراجيل، وتعلو ضحكات النسوة وهنّ يحضرن التبولة والحمص وفراكة اللحمة، الطبق الذي تتميز به المائدة الجنوبية، بينما يسبح أولادهنّ عكس التيار، مستعرضين مهاراتهم في القفز من فوق الصخور الشاهقة”.
تُضيف لينا: ” قبل تحرير العام 2000 كان النهر محظورًا على السكان، وحتى على أصحاب البساتين الذين اضطروا إلى ترك خيراتهم لمدة ثلاثين سنة”. تتذكر لينا: “في احدى المرات، قرر ثلاثة إخوة المغامرة والذهاب إلى قطاف الزيتون من أرض يملكونها على ضفة النهر، ولكن الجيش الإسرائيلي أطلق عليهم النار واضطروا للاختباء في المغارة لمدة ثلاثة أيام”.
حكاية نهر
يتدفق نهر الليطاني من ينابيع العليق الواقعة على ارتفاع حوالي 1000 متر فوق سطح البحر، غرب مدينة بعلبك في سهل البقاع، ويسلك مسارًا جنوبيًا حيث يتغذى من روافد عديدة تأتي من الجبال المحيطة به، ينعطف بعد ذلك غربًا ليشق طريقه عبر التلال والجبال، مكونًا وادي الليطاني، وينتهي به المطاف في البحر الأبيض المتوسط شمال مدينة صور، بعد قطعه مسافة تقدر بحوالي 170 كيلومترًا. يعتبر الليطاني شريان حياة رئيسي، لأنه النهر الأطول والأكبر في لبنان، ويُستخدم كمصدر أساسي للمياه العذبة، ويستثمر لتوليد الطاقة الكهربائية، كما يمثل مصدرًا لري المشاريع الزراعية في جنوب البلاد وسهل البقاع.
بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، تشعر “إحسان”، من بلدة قعقية الجسر بالقلق، لأنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي ما زال يسيطر على الجهة المقابلة للبلدة، تقول لمواطن: “خرجنا من الحرب مصدومين ولا نفهم كيف سينتهي اتفاق وقف إطلاق النار؛ هل سيكون من الآمن العودة الى أيامنا المعهودة؛ حيث كنا نذهب إلى النهر لننسى همومنا وأتعابنا، قريبًا تنزل الشلالات من كتف الوادي، وأنتظر اللحظة التي يسمح لنا بزيارته لأكون أول الواصلين”.
في العام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت، بذريعة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد المجازر المروعة التي قامت بها، انسحبت إلى نهر الأولي، ومن ثم إلى نهر الليطاني حيث فرضت قيودًا صارمة على حركة السكان، وألزمتهم الحصول على تراخيص للانتقال من بلدة إلى أخرى، ومنعتهم الوصول إلى النهر لمدة ثلاثين عامًا، هي فترة الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة الجنوب.
يروي أبو علي نمر، من بلدة زوطر الشرقية، وهي من بلدات وادي الليطاني، لمواطن ما تحفظه ذاكرته عن النهر: “تتفجّر الينابيع من الجبال ويأتي الناس إليها لشرب الماء الصافي، وتستغلها البلديات لإمداد المنطقة بالمياه العذبة، بالإضافة إلى تدفق الينابيع الدافئة، ومنها نبع التنور الذي أطلق عليه اسمه لأنه حار كالتنور الذي تخبز فيه الأمهات، كذلك يلجأ الرعاة إلى ضفاف النهر؛ حيث تتغذى قطعانهم على النباتات البرية، وفي أيام العواصف يبيتون في المغاور المنتشرة، والتي تعرف باسم المشتيّة لأنها تحميهم من أمطار الشتاء”.
وجد أهالي بلدات الليطاني الكثير من الآثار، ومنها عملات قديمة وجرار فخارية ومدافن، يقول أبو علي: “يوجد شيء نسميه (السقّاطة)، وهي شبيهة بمقصلة الإعدام، ولكن لا نعرف الى أي عصر تعود، سمعت من أجدادي أن الكنعانيين بنوا تجمعات صغيرة قريبة من مجرى النهر، كذلك كان الفينيقيون يعتمدون عليه للحصول على مياه الشفا، أما الجسور التي أصبحت شبه مندثرة بسبب عوامل الطبيعة؛ فقد بناها الصليبيون بعد أن شيدوا قلعة الشقيف في أعلى الجبل للاحتماء بها من الغزوات”. يضيف أبو علي : “في معظم بلدات مجرى النهر، تنتشر طواحين الماء التي كانت تستخدم لطحن الحبوب كالقمح والشعير، ولتشغيل معدات أخرى مثل مكابس الزيتون”.
يأسف أبو علي لتهميش هذه المناطق على الخريطة السياحية؛ حيث تصنفها السفارات الأجنبية ضمن النقاط الحمراء التي يمنع على مواطنيها الذهاب إليها بسبب عدم استقرارها أمنيًا؛ الأمر الذي أدى الى عدم رعاية الدولة لهذه الآثار وتحوّلها الى أطلال بعد أن كانت جزء محوريًا في حياة الناس.
يمتلك سكان مجرى النهر معرفة محدودة بتاريخ نهرهم الحديث، لكنهم يجزمون بأنه عايش مختلف المراحل التي مر بها لبنان، بدءًا من الحكم العثماني، مرورًا بالانتداب الفرنسي، وصولًا إلى الاستقلال وبناء الدولة الحديثة.
خلال الحرب الأهلية التي نشبت في العام 1975، لعب النهر دورًا محوريًا، ولكنّه غاب عن اهتمام وسائل الإعلام. يروي أبو علي نمر لـ”مواطن”: “هرب الناس من بيروت نحو الجنوب الذي نجا من ويلات المعارك التي اجتاحت العاصمة. في تلك الأثناء، كانت البلدات الجنوبية تعيش حالة من التهميش، واعتمد سكانها على الزراعة وصناعة الفحم من أشجار السنديان، لم تكن فيها شبكة كهرباء أو إمدادات مياه، وكان الناس يستعينون بالنهر لتأمين ضرورياتهم اليومية. خلال الصيف كانوا يمشون لساعات طويلة عبر طرق وعرة، ويستريحون في محطات نعرفها جميعًا. أما في فصل الشتاء؛ فكان الأولاد ينقلون الحطب من النهر إلى البلدة يحملونه على رؤوسهم لتستخدمه النساء في الطهي والغسيل والتدفئة في ظل غياب الغاز”.
في العام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت، بذريعة القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد المجازر المروعة التي قامت بها، انسحبت إلى نهر الأولي، ومن ثم إلى نهر الليطاني حيث فرضت قيودًا صارمة على حركة السكان، وألزمتهم الحصول على تراخيص للانتقال من بلدة إلى أخرى، ومنعتهم الوصول إلى النهر لمدة ثلاثين عامًا، هي فترة الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة الجنوب.
في تلك الفترة، كان نهر الليطاني أحد أبرز النقاط الاستراتيجية التي تربط ضفتي جنوب لبنان، ما جعله هدفًا مستمرًا لعمليات المقاومة التي كانت في حينها تقتصر على مبادرات فردية، على سبيل المثال؛ قامت الشابة يسرا إسماعيل، ابنة الثمانية عشر عامًا بعملية فدائية في وادي الليطاني، برفقة مجموعة من الشباب المنتمين إلى الحزب الشيوعي، وعلى الرغم من قلة الموارد العسكرية، إلا أنّ معالم مرحلة جديدة من كفاح الجنوبيين ضد الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم قد بدأت تظهر بشكل أوضح.
بعد تأسيس حزب الله في منتصف الثمانينات تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية المنظّمة، وبسبب قدراته العسكرية المتفوقة حينها، انسحبت إسرائيل في أيار من العام 2000 وبشكل مفاجئ من منطقة شمال وجنوب نهر الليطاني، ليتحرر الجنوب كاملًا باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
بعد التحرير، شهدت بلدات الجنوب نهضة عمرانية غير مسبوقة، وأصبح نهر الليطاني مركز جذب لكثيرين، انتشرت المطاعم وافتتحت الصالات أبوابها لحفلات الزفاف والمناسبات السعيدة. اكتسبت العديد من البلدات شهرة واسعة، ومنها بلدة القاسمية بسبب طبيعتها الباردة خلال الصيف، وأصبحت كلمة “مي وفي”، التي تعني الماء والظل باللهجة اللبنانية، رمزًا لهذه الأجواء المفعمة بالحياة.
تصف ميساء من بلدة الخرايب رحلتها من شمال النهر إلى جنوبه، تقول لمواطن: “في فصلي الربيع والصيف، تتراءى أمامك مناظر تشبه الحدائق المعلّقة، تتأرجح بين صعود ونزول، وتتباين درجات اخضرار الأشجار، في مزيج رائع من الأصفر والبرتقالي، وتفوح رائحة زهر البرتقال، وينتشر الباعة على جوانب الطرقات يحملون سلال قش مليئة بفاكهة “الأكيدنيا”، بالإضافة إلى الليمون، اللوز الأخضر ونبات الهليون، وكلها من خيرات الأرض، وخلال مرورك بالوادي، تتداخل أصداء الغناء بطريقة فوضوية تعكس حاجة إنسانية غريزية للفرح، لكنها تُظهر خوفًا لدى مرتادي النهر من فقدانه مرة أخرى”.
هل تُطفأ مياه الليطاني نار الحرب الإسرائيلية بعد تطبيق القرار 1701؟
مشاهد تفخيخ الأحياء وتفجيرها بلحظة واحدة، ومشاهد الجرافات الإسرائيلية وهي تخّرب الطرقات الرئيسية وتقطع أواصر البلدات في منطقة جنوب نهر الليطاني، ومشاهد الجنود الإسرائيليين على شرفات ما تبقى من منازل، تكشف عن حقيقة مأساوية، انتهاك إسرائيل لاتفاق الهدنة واستغلال فترة الستين يومًا للانسحاب من الجنوب، ضاربة بعرض الحائط بنود القرار 1701.
هذه المشاهد لمسح معالم هذه المنطقة عن الخريطة وتحويلها إلى بلدات معدومة الحياة، لا تدل إلا على حقد دفين وجشع مكنون في النوايا الصهيونية نحو جنوب لبنان، الجغرافيا الوحيدة التي ما زالت تشكل تهديدًا له، والشوكة التي لم يستطع كسرها رغم كل وحشيته في السيطرة عليها عسكريًا. وتظهر تحذيرات الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي لسكان الليطاني للخروج من بلداتهم والتوجّه نحو نهر الأولي في شرق مدينة صيدا التوجّس الإسرائيلي، ولكنّ الأحداث السابقة التي شهدتها هذه المنطقة، تؤكّد أنّ الرغبة في السيطرة على نهر الليطاني ليست وليدة الحرب الحالية ومساندة غزة.
منذ العام 1978، شنت إسرائيل هجومًا واسعًا أطلقت عليه اسم “عملية الليطاني”، وهدفت من خلاله إلى إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن منطقة جنوب النهر، واستطاعت تعزيز نفوذ جيش أنطوان لحد (الميليشيا اللبنانية المدعومة من إسرائيل)، وتمّكنت من احتلال مساحات واسعة من جنوب لبنان وإنشاء منطقة عازلة بعد قتل المئات، وتشريد السكّان وتدمير البنية التحتية.
رأى ديفيد بن غوريون في جنوب لبنان منطقة ذات أهمية استراتيجية حيوية لإسرائيل، وذلك لما تحويه من موارد مائية ومرتفعات جغرافية تطل على الشمال، مما يجعلها عمقًا استراتيجيًا للدولة العبرية.
لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على منطقة جنوب الليطاني، وكذلك لم تتوقف عمليات المقاومة التي أدت إلى تحرير الجنوب في العام 2000، الانتصار الذي أعاد لمنطقة النهر روحها، وحقّق للسكان حلمًا كان مستحيلًا، العودة إلى بيوتهم وزراعة أراضيهم وصيد الأسماك في مياه النهر، وعاشوا في استقرار ورخاء حتى العام 2006. فقد شنت إسرائيل حربًا مدمرة بعد أسر حزب الله لجنديين في محاولة منه لتحرير الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية، ورغم الآثار المدمرة والتكاليف الباهظة التي تكّبدها اللبنانيون، إلا أن إسرائيل لم تحقق أهدافها في السيطرة على منطقة الليطاني.
ومرة أخرى وحتى نهاية العام 2023، عاش سكان الجنوب اللبناني هدوءً غير مسبوق، معتقدين أن إسرائيل لا تقدم على أي هجوم بسبب معادلة الردع التي فرضها حزب الله، بينما كانت إسرائيل تخطط وترصد اللحظة المناسبة لتوجيه الضربة القاضية لحزب الله، الذي ووفقًا للمصادر الإسرائيلية، قام بتخزين الأسلحة والصواريخ وحفر الأنفاق وإجراء مناورات برية بهدف غزو المستوطنات الإسرائيلية في منطقة جنوب الليطاني.
في هذا السياق يظهر أن ما تعرض له حزب الله من تفجيرات الأجهزة اللاسلكية واغتيال قادته في بداية الحرب، والتدمير الهمجي الذي تعرضت له قرى ومناطق الشيعة (وهم الحاضنة الشعبية للحزب)، أن قرار فتح جبهة المساندة لدعم غزة كان فرصة مثالية لتنفيذ إسرائيل مخططاتها من خلال استرضاء الرأي العالمي بأنها تدافع عن مستوطناتها الشمالية من تهديدات حزب الله.
وبناء على التاريخ المستمر من الاعتداءات الإسرائيلية على منطقة الليطاني، يتضح أن إسرائيل تسعى للسيطرة عليها من بداية تأسيس الكيان الصهيوني، فوفق دراسة صدرت في العام 2011 عن جامعة أوسلو، أعدها أندرس جريني هامري تحت عنوان “الليطاني الذي لا يُنسى: نهر الليطاني في الاستراتيجية المائية الصهيونية والإسرائيلية 1881-1956″،[1] يظهر الدور المحوري الذي لعبه نهر الليطاني في الاستراتيجية المائية الإسرائيلية عبر التاريخ الصهيوني والإسرائيلي؛ حيث كان “هذا المصدر المائي في الشمال مغريًا للغاية”، ولكنّ الدراسة تدحض الادعاء القائل بأن الحصول على الماء هو الهدف الوحيد للمطامع الإسرائيلية في نهر الليطاني.
رأى ديفيد بن غوريون في جنوب لبنان منطقة ذات أهمية استراتيجية حيوية لإسرائيل، وذلك لما تحويه من موارد مائية ومرتفعات جغرافية تطل على الشمال، مما يجعلها عمقًا استراتيجيًا للدولة العبرية. وبعد حرب 1948، ارتبط اسم نهر الليطاني ارتباطًا وثيقًا بأطماع بن غوريون التوسعية، إذ اعتبره امتدادًا طبيعيًا للكيان الصهيوني وخطًا دفاعيًا متقدمًا، خاصة مع تصاعد التوترات العربية الإسرائيلية. وقد سعى إلى استغلال الانقسامات اللبنانية الداخلية، لا سيما بين المسيحيين والمسلمين، لتأمين مصالح إسرائيل في المنطقة.
رغم صدور القرار الأممي 181 عام 1947، والذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، مع احترام الحدود الدولية، إلا أن إسرائيل لم تلتزم بهذه القرارات. فبالرغم من اتفاق الهدنة المبرم عام 1949 والذي أكد على احترام الحدود الدولية مع لبنان، كما نصت عليه اتفاقية نيوكومب، إلا أن إسرائيل واصلت انتهاك هذه الحدود وتوسيع نفوذها في المنطقة، والسعي المستمر للسيطرة على منطقة الليطاني."
تخلص الدراسة إلى وجود وجهتي نظر مختلفتين بشأن نهر الليطاني، راسختين في العقيدة الإسرائيلية، لكن من منطلقات مختلفة. أولئك الذين يؤيدون “منظور المياه” يسعون للسيطرة على الليطاني بهدف الاستفادة من مياهه، وهذا المنظور يعتبر ضعيفًا أمام “منظور الأرض” لما لنهر الليطاني من أهمية جغرافية عسكرية بسبب تضاريسه المرتفعة التي تطل على منطقة شمال فلسطين.
بحسب المؤرخ الدكتور عصام خليفة؛ فإن المطامع الصهيونية في نهر الليطاني ترجع الى عدة أسباب: السبب الديني الذي ظهر بوضوح في مخططات الحكومة اليمنية المتطرفة، على اعتبار أن لبنان ذكر في التوراة خمسًا وسبعين مرة، الأمر الثاني مرتبط بعدم وجود حدود للكيان الإسرائيلي، وهذا ما أعلنه ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية وصاحب كتاب “الدولة اليهودية”، بأن حاجة الدولة الصهيونية للحدود ترتبط بعدد المهاجرين إليها، ما يدل على الرغبة المستمرة بالسيطرة على مناطق جديدة. والسبب الثالث هو أنّ اسرائيل لم تكتف بالسيطرة على مياه جبل حرمون أو ما يعرف بجبل الشيخ والاستفادة من مياهه العذبة والباردة لتعديل مياه بحيرة طبريا المالحة؛ بل طالبت بالحصول على مياه نهر الليطاني من خلال الاقتراح البريطاني الذي أطلقه دوفيل، والذي طالب بالسيطرة الإسرائيلية على نهر الليطاني، إلا أن الفرنسيين أصروا على الحدود الأساسية التي وضعتها اتفاقية سايكس-بيكو.
يضيف الدكتور خليفة لـ”مواطن”: “رغم صدور القرار الأممي 181 عام 1947، والذي نص على تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما عربية والأخرى يهودية، مع احترام الحدود الدولية، إلا أن إسرائيل لم تلتزم بهذه القرارات. فبالرغم من اتفاق الهدنة المبرم عام 1949 والذي أكد على احترام الحدود الدولية مع لبنان، كما نصت عليه اتفاقية نيوكومب، إلا أن إسرائيل واصلت انتهاك هذه الحدود وتوسيع نفوذها في المنطقة، والسعي المستمر للسيطرة على منطقة الليطاني.”
لا ينفي اللواء الركن د.عبد الرحمن شحيتلي الباحث في مجال الحدود اللبنانية أطماع إسرائيل في نهر الليطاني؛ حيث تتوفر كمية مياه كبيرة في حوضه. يقول اللواء الركن شحيتلي لمواطن: “في المرحلة بين الإعلان عن اتفاقية سايكس بيكو السرية في العام 1916 والإعلان عن تأسيس لبنان الكبير في العام 1920، كانت هناك مفاوضات بين فرنسا التي كانت تسيطر على لبنان وسوريا، وبريطانيا التي كانت تسيطر على فلسطين، من أجل ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين، وخلال هذه المفاوضات ضغطت الحركة الصهيونية للحصول نهر الأولي في جنوب لبنان، وبعد فشلها بتحقيق هذا المطلب تراجعت للقبول بحدود لها على نهر الزهراني، وبعد ذلك قدمت طرحا ثالثًا لتكون الحدود نهر الليطاني، إلاّ أن فرنسا رفضت هذه الطروحات جميعًا، لتكون الحدود كما هي موجودة اليوم على الخريطة اللبنانية”.
يضيف اللواء الركن شحيتلي: “تشكّل منطقة جنوب الليطاني تهديدًا وجوديًا للكيان الإسرائيلي؛ حيث يقترب مجرى النهر في بعض النقاط من الخط الأزرق (الذي وضعته الأمم المتحدة في عام 2000 بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، تنفيذًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 425)، بما يقارب خمسة كيلومترات فقط، وبالتالي فإن أي تحرك لمجموعات مقاومة صغيرة باتجاه شمال فلسطين المحتلة، لا يحتاج وقتًا كبيرًا، ويسهّل دخولها بشكل متخفٍ ومفاجئ؛ الأمر الذي يربك ويثير الرعب لدى الكيان”.
وفقًا للواء شحيتلي؛ فإن ما تقوم به إسرائيل حاليًا في مسافة 7 كيلومترات من جنوب نهر الليطاني، تهدف إلى جعل هذه المنطقة غير قابلة للحياة، وتحتاج سنوات لإعادة الحياة فيها، ومن الصعب جدًا ضمان استقرار هذه المنطقة، ومع وجود جيش قوي وضمانات دولية، قد يساعد ذلك على تهدئة هذه الجبهة وعودة سكان جنوب الليطاني إلى قراهم، وهو ما نصّ عليه القرار 1701.
إن التراكمات التاريخية التي خلّفتها الحروب الوحشية الإسرائيلية في جنوب لبنان، والتي لا تسمح لأولياء الدم بالتنازل عن حق أبنائهم، والانقسام اللبناني الداخلي حول الترسانة العسكرية لحزب الله، بالإضافة الى الصراعات الإقليمية بين إيران والولايات المتحدة، ناهيك عن الدور المحدود للأمم المتحدة في إرساء الاستقرار في المنطقة، تؤكّد جميعها على أن قرار حزب الله بفتح جبهة الإسناد لغزة، كان الشرارة التي أشعلت فتيل الحرب، لكنّه بالتأكيد ليس السبب الوحيد.