قبل اندلاع الحرب في اليمن، لم يكن المشهد مألوفًا أن تجد نصرانيًا يمنيًا يُبشر بالدين المسيحي، ويدعو أقرانه اليمنيين من الأغلبية المسلمة إلى اتباع تعاليم المسيح، أما اليوم؛ فينشط بعض الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي في الدعوة للدين الذي اعتنقوه مؤخرًا، من بين أولئك الشباب جون غانم.
جون غانم، محمد سابقًا، بدأ التشكيك في صحة ديانته الأولى –الإسلام- حين التحق بالجامعة في العام 2014. يقول جون لـمواطن: “بدأت في التشكيك في الطقوس والمعتقدات الإسلامية علانية، وبعد عودتي من أداء فريضة الحج بمكة مع عائلتي، تحداني أحد الأصدقاء أن أظهر بقميص عليه رسمة الصليب علانية؛ ففعلت! طلبت من أصدقائي تصويري ونشرتها على صفحتي في وسائل التواصل الاجتماعي”.
واجه جون العديد من التعليقات الغاضبة والانتقادات اللاذعة بسبب تلك الصور. يقول: “دفعني هذا الموقف لزيارة مكتبة في مدينة تعز اليمنية لشراء الإنجيل، وحين بدأت التحدث عن قراءتي له دخلت في نقاشات حادة حول المسيحية، وتعرضت لمضايقات من الأسرة والأصدقاء الذين نعتوني بالجنون”.
اضطر جون للسفر إلى اليونان في العام 2017، وهناك اعتنق المسيحية رسميًا، وحين أراد العودة لليمن مُنع من ذلك -حد قوله- وتبرأت منه عائلته، واختارت زوجته تطليق نفسها منه وحرم من حضانة ابنتيه، لكن تلك المضايقات لم تمنعه عن الاستمرار في مهمته الجديدة التي اختارها لنفسه؛ وهي التبشير بالمسيحية.
يؤكد جون أنه استطاع تعميد “مؤمنين يمنيين جدد” يقول لمواطن: “مسيحيو اليمن مضطهدون كما اضطهدت، وما زلت أتعرض لمضايقات وتهديدات من داخل اليمن”.
يعيش جون اليوم في بريطانيا، ويمارس التبشير بين أبناء الجاليات اليمنية والعربية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن تلقى دروسًا في تعاليم المسيحية في الكنائس الإنجليزية.
التبشير.. واقع جديد أم ظاهرة
يشكك أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء الدكتور عبد الجبار ردمان؛ في أن اعتناق بعض الشباب اليمني للمسيحية نابع من إيمان حقيقي بالدين المسيحي، يقول لمواطن: “ما دفع الكثير من هؤلاء الشباب إلى اعتناق المسيحية هو الرغبة في الهروب من الحرب التي فرضت عليهم، والأزمات الاقتصادية المصاحبة لها. كما يرى أن الأمر لا يرتقي لمستوى الظاهرة”.
ويرى “ردمان” أن كثيرًا من الشباب يلجؤون للتحايل والتظاهر باعتناق المسيحية، رغبة في الحصول على فرصة عمل في أوروبا أو أمريكا، وبعد أن يحققوا حلمهم في السفر يتراجعون عما أقدموا عليه؛ فهم لم يعتنقوا المسيحية حقًا.
لا يستبعد “ردمان” ارتداد البعض عن الإسلام عن قناعة، لكنه يرجع الأمر للأحداث المؤلمة التي عاشتها اليمن من عنف مارسته جماعات دينية متطرفة.
صُنفت اليمن في المرتبة الخامسة من البلدان التي يصعب فيها أن يكون المرء مسيحيًا وفقًا لقائمة المراقبة العالمية لعام 2024 (WWL).
بالمقابل يرد جون على ردمان بأنه خلال معيشته في اليمن، كانت حالته المادية ميسورة كحال عائلته، وأن الحرب لم يكن لها أي تأثير في قرار اعتناقه المسيحية. ويشاركه في الرأي محمود الكليبي، شاب يمني ثلاثيني اعتنق المسيحية قبل اندلاع الحرب، يقول الكليبي لمواطن إنه يعرف يمنيين كُثرًا اعتنقوا المسيحية قبيل اندلاع الحرب الحالية.
درس الكليبي العلوم السياسية في جامعة دمشق، وخلال فترة دراسته بسوريا اعتنق المسيحية، لكنه لم يغير اسمه، يقول الكليبي لـ “مواطن”: “عندما رجعت لصنعاء أخفيت الأمر عن أهلي، لأنني أعرف أنهم سيرفضون اعتناقي للمسيحية”. قرر الكليبي السفر إلى إثيوبيا والزواج هناك من امرأة إثيوبية، وأصبح حاليًا مستقرًا في العاصمة أديس أبابا.
جبريل شاب يمني آخر اعتنق المسيحية أواخر العام 2015، يرفض أن يتم وصفه بالخائن والمرتد عن الإسلام، يقول لـ “مواطن”: “بصراحة؛ الإسلام أنتج لنا متطرفين دينيًا في اليمن يتقاتلون على الحكم، ونحن كشباب نريد التغيير ونريد أن نعيش حياتنا في سلام، ونمارس حريتنا في اختيار المعتقد الديني لكننا لم نجد ذلك”.
اضطهاد أم عدم تقبل؟
في الخامس من نوفمبر 2014، أقدمت النيابة العامة اليمنية على إحالة المحامية الثلاثينية فاطمة سالم إلى مصحة للأمراض العقلية بعد إلقاء القبض عليها بتهمة “الارتداد عن الإسلام واعتناق الديانة المسيحية”؛ في مدينة باجل التابعة لمديرية الحديدة غرب صنعاء.
يمنع القانون اليمني التحول من الإسلام لأي ديانة أخرى، وتنص المادة 259 في القانون اليمني على أن: “كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقب بالإعدام بعد الاستتابة ثلاثًا، وإمهاله ثلاثين يومًا. ويعتبر ردةً الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد أو إصرار؛ فإذا لم يثبت العمد أو الإصرار وأبدى الجاني التوبة فلا عقاب”.
وفي صنعاء الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، يتعرض من اعتنق المسيحية من اليمنيين المسلمين للسجن بتهمة الردة، وهو ذات الحال في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا في تعز ومأرب. وقد تصل عقوبة المرتد حد الإعدام. بحسب المحامي محمد عبد الله محمد في حديثه مع مواطن؛ فإن الأجهزة الأمنية والمؤسسات القضائية اليمنية بموجب القانون والدستور، تشدد في مسألة العقوبة ضد المرتد الذي يُصر على رغبته بالتحول من الإسلام الى المسيحية أو ديانة أخرى، وهذا أمر محسوم.
هذا وتخلو العاصمة اليمنية صنعاء من أي وجود للكنائس عدا الكنائس الصغيرة التي كانت تتبع مقار الشركات النفطية المحلية والأجنبية، وأما عدن المدينة، والتي كانت تضم عددًا من المسيحيين الأجانب بحكم تواجد الاستعمار البريطاني؛ فتوجد فيها ثلاث كنائس كانت تدار شؤونها بواسطة القنصلية البريطانية بعدن، لكنها اليوم باتت مغلقة، ولهذا فإن الأجانب المسيحيين وبعض اليمنيين الذين انتقلوا إلى المسيحية يمارسون طقوسهم الدينية في بيوت خاصة وفي سرية، بحسب تأكيد وديع اليمني أحد معتنقي المسيحية في اليمن.
ويؤكد الشيخ جبري إبراهيم وكيل وزارة الأوقاف اليمنية بصنعاء في حديثه لـ “مواطن”: “إن المجتمع اليمني لن يقبل بوجود يمنيين مسلمين مرتدين عن دينهم مهما كان الثمن”.
ويزعم الشيخ إبراهيم أنه قبيل اندلاع الحرب الجارية في اليمن منتصف مارس من العام 2015، كانت بعض المنظمات والمؤسسات المسيحية تنشط في عدد من المدن اليمنية؛ منها البعثة المعمدانية الأمريكية في جبلة بمحافظة إبّ وسط اليمن، والتي يمتد نشاطها إلى محافظتي تعز والحديدة وفي صنعاء وعدن، وينشط التنصير في سائر المحافظات اليمنية عن طريق الجمعيات الدولية ذات الاهتمام الإنساني، والمهتمة بالأمومة والطفولة وذوي الاعاقة والبيئة والسياحة، إضافة إلى المدارس الخاصة ومعاهد تعليم اللغات والابتعاث الدراسي.
ويرى السفير اليمني ناصر أحمد، أن الحديث عن وقوع انتهاكات تطال المسيحيين في اليمن مبالغ فيه؛ فمن وجهة نظره فإن أتباع المسيحية هم أقلية صغيرة جدًا، وغالبيتهم من الأجانب الذين كانوا يعملون في الشركات النفطية وفي مختلف القطاعات الاقتصادية، وهم يتمتعون بحقوقهم؛ فما تزال الكنائس موجودة في عدد من المناطق اليمنية، ولم يتم منع أي مسيحي من أداء طقوسه، وإن كانت هناك فترات تم منعهم بهدف توفير الحماية الأمنية لهم، ويقول أحمد لـ”مواطن”: “لا يمكن أن ينساق المجتمع اليمني نحو من يفرض عليه معقدًا أو دينًا، ولكل فرد حرية اختيار معتقده، لكن ليس له الحرية في أن يسعى إلى فرض أو نشر ما يعتقد وفقًا للقوانين اليمنية “.
استهداف ممنهج
في مارس/ آذار 2016 قتل مسلحون مجهولون، يعتقد أنهم متطرفون إسلاميون، قتلوا أربع راهبات كاثوليك واثني عشر شخصًا آخرين كانوا متواجدين في دار الأم تريزا للعجزة والمسنين بمدينة الشيخ عثمان. وفي سبتمبر/أيلول 2016، شهدت مدينة عدن أحداث عنف استهدفت المسيحيين؛ حيث اقتحم مسلحون كنيسة “القديس يوسف” الكاثوليكية بمنطقة كريتر وأحرقوها.
يتذكر محسن باشاجه، المواطن الخمسيني الذي كان يقطن بالقرب من مكان وقوع الحادثة، كيف أن عددًا من المسلحين الملثمين جاءوا فوق دراجات نارية، واقتحموا الكنيسة وأحرقوها، ثم خرجوا فارين دون أن يعترضهم أحد، خشية من أن يتم استهدافهم من قبل أولئك المسلحين. يقول “باشاجه” لـ “مواطن”: “كل من كان يقطن في حي البادري بكريتر استنكر الجريمة ولا يٌُعرف من قام بها، لكننا سمعنا فيما بعد أن مسلحين متطرفين هم من نفذوا الجريمة”.
وفقًا لبلقيس والي، الباحثة في منظمة “هيومن رايتس ووتش”؛ فإن عدد المسيحيين في اليمن يقدر بنحو 41 ألف مسيحي من اليمنيين الأصليين واللاجئين، لكن تقرير لجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية، أكد أن عدد المسيحيين في اليمن تقلّص من 40 ألفًا إلى بضعة آلاف، وهم لا يستطيعون ممارسة شعائرهم الدينية في الأماكن العامة خوفًا من الهجوم عليهم.
وجاءت اليمن في المرتبة الثامنة ضمن 17 دولة عربية هي الأكثر قمعًا للمسيحيين على مستوى العالم خلال عام 2018، بحسب تقرير أصدرته منظمة “الأبواب المفتوحة” المتخصصة في رصد القمع الذي يتعرض له المسيحيون حول العالم، كما صُنفت اليمن في المرتبة الخامسة من البلدان التي يصعب فيها أن يكون المرء مسيحيًا وفقًا لقائمة المراقبة العالمية لعام 2024 (WWL).
من خلال تعاملنا مع الآخرين بالحسنى وبالعمل الصالح، نسعى إلى أن نعكس الصورة الحقيقية كمسيحيين يمنيين، وهذا الأمر يضايق المتطرفين الذي ينكرون وجودنا، لكننا نقول لهم؛ سيأتي اليوم الذي نمارس فيه طقوسنا ونظهر إيماننا.
وفي هذا الصدد، يرى الناشط الحقوقي فراس شمسان، أن أحداث العنف التي تطال المسيحيين في اليمن ليست إلا فصولًا من سلسلة فصول عدم التعايش والتسامح الديني التي يعاني منها اليمنيون منذ اندلاع الحرب.
ويشير شمسان في حديثه مع “مواطن” إلى أن عدم الاعتراف بحقوق الأقليات الدينية، بما فيهم المسيحيون؛ فاقم الأوضاع المتدهورة في البلاد، ومن المتوقع حدوث فوضى الانتقام في المستقبل القريب.
وجود تاريخي وبحث عن القبول
لم تكن اليمن حديثة العهد بالدين المسيحي كما يعتقد البعض؛ فقد دخلت الديانة المسيحية اليمن في القرن الرابع الميلادي، عبر المذهب الآريوسي الشرقي الذي يُنسب للكاهن آريوس، المشتهر في مدينة الإسكندرية المصرية، كما أحرق الملك الحميري “ذو نواس” سكان منطقة نجران قبل أكثر من 1500 عام عقابًا على اعتناقهم الدين المسيحي.
بحسب دراسة معنونة بـ “المذهب الآريوسي المسيحي في بلاد اليمن ونجران والحجاز”؛ فقد ارتبط انتشار المسيحية في بلاد اليمن بالعلاقات التجارية والدبلوماسية التي جمعتها بالشام والعراق، وتعرض اليمن للاحتلال الحبشي عام 525م. شهدت فترة الاحتلال الحبشي لليمن انتشار وازدهار الديانة المسيحية، حينها بنا الأحباش في صنعاء كنيسة سُميت بالقلّيس.
وقد تمركـز المسـيحيون علــى مواقــع تجاريــة ممتــازة مثــل نجــران والمناطــق الســاحلية، مما جعلهــا محــط أنظـار الـدول الأخرى التـي كانـت قـد اتخـذت المسـيحية دينًـا لهـا؛ مثـل رومـا وبلاد الشـام والحبشـة.
في كتابها “الإرساليات التبشيرية في عدن”، كتبت الدكتورة هناء عبدالكريم”: علـى الرغـم مـن وجـود مكانـة للديانـة المسـيحية في جنوب الجزيــرة العربيــة؛ فإنها لــم تلــق قبــولًا في المجتمــع، وذلــك لارتباطها منــذ البدايــة بالإمبراطورية البيزنطيــة والحبشــة، الأمر الــذي أدركــه أبنــاء جنــوب الجزيــرة العربيــة، ورأوا في المســيحية امتــدادًا لنفــوذ الســيطرة الأجنبية، ممــا لـم يجعلهـم يقبلـون علـى اعتناقهـا؛ بـل علـى العكـس مـن ذلـك؛ فقـد حاربـوا الديانـة المسـيحية، والدليـل علـى ذلـك أنـه لـم توجـد غيـر جماعـات مسـيحية قليلـة في البلاد بعـد خـروج الأحباش، وبذلـك فقـد كان انتشـارها مرتبطًا بالنفوذ الأجنبي، أمـا وجـود الديانـة المسـيحية كعقيـدة اقتنـع النـاس بها؛ فلـم توجـد إلا عنــد جماعــات قليلـة تمسـكت بها حتـى قيـام الإسلام”.
يبحث مسيحيو اليمن في الوقت الراهن عن فرص للتعايش مع أتباع الأديان والمعتقدات الأخرى التي يتبعها أبناء جلدتهم داخل البلاد، بحسب “وديع”، أحد أتباع المسيحية في صنعاء، يقول وديع لـ “مواطن”: “من خلال تعاملنا مع الآخرين بالحسنى وبالعمل الصالح، نسعى إلى أن نعكس الصورة الحقيقية كمسيحيين يمنيين، وهذا الأمر يضايق المتطرفين الذي ينكرون وجودنا، لكننا نقول لهم؛ سيأتي اليوم الذي نمارس فيه طقوسنا ونظهر إيماننا.