منذ أشهر قلائل، اندلعت حالة من الجدل في العراق بعدما أعلنت مديرية استخبارات محافظة الديوانية، عن اعتقال أحد المسؤولين في حركة “العلاهية” الدينية. وذلك بعد أن قام بقتل شخصين قدمهما “قربانًا لله” على حد زعمه. أعادت تلك الحادثة حركة العلاهية إلى الواجهة الإعلامية من جديد، ليُثار السؤال حول الجذور التاريخية لتأليه الإمام علي بن أبي طالب. كيف بدأت الممارسات الداعية لتأليه الإمام علي؟ وما هي أهم الحركات التي اعتنقت تلك العقيدة؟ وكيف تعامل الساسة مع تلك الحركات عبر القرون؟
السبئية
تذكر المصادر الشيعية أن الإمام علي بن أبي طالب تحدث -فيما يشبه النبوءة- عن غلوّ بعض الناس في شخصه. بحسب ما ورد في كتاب “نهج البلاغة” قال علي: “سيهلك فيّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق. وخير الناس في حالًا، النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم؛ فإن يد الله مع الجماعة”.
كانت جماعة السبئية هي أولى الجماعات التي غالت في شخص علي بن أبي طالب، حتى أوصلته إلى منزلة الإله. تُنسب تلك الجماعة إلى شخص غامض يُدعى عبد الله بن سبأ. تتضارب الأقوال في الوجود التاريخي لهذا الشخص. ويؤكد العديد من علماء أهل السنة والجماعة حقيقة الوجود التاريخي لابن سبأ، ويرون أنه اضطلع بدور عظيم في أحداث الفتنة الكبرى بدايةً من النصف الثاني من خلافة عثمان بن عفان في عشرينيات القرن الأول الهجري. على الجانب الآخر، يذهب أكثرية علماء الشيعة إلى أن ابن سبأ شخصية مزيفة، وأن مصدر كل ما ورد عنه في الكتب التاريخية يعود إلى الراوي الكذاب سيف بن عمر التميمي، وذلك بحسب ما يذكر مرتضى العسكري في كتابه “عبد الله بن سبأ”.
بغض النظر عن الوجود التاريخي لعبد الله بن سبأ، تذكر المصادر الإسلامية أن جماعة السبئية ادعت أن علي بن أبي طالب هو الله. يذكر أبو الحسن الأشعري في كتابه “مقالات الإسلاميين” أن أفراد تلك الجماعة زعموا “أن عليًا لم يمت، وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا، وذكروا عنه -أي ابن سبأ- أنه قال لعلي: أنت أنت! يقصد أنه الله”. كذلك ذكر المؤرخ المطهر بن طاهر المقدسي في كتابه “البدء والتاريخ” أن السبئية قالت لعلي: “أنت إله العالمين، أنت خالقنا ورازقنا وأنت محيينا ومميتنا…”. تؤكد الروايات التاريخية أن علي بن أبي طالب لم يتهاون مع تلك الجماعة؛ حيث قام بالقبض على الكثير منهم وأحرقهم بالنار. كما أعلن تبرأه من فكرهم المنحرف بشكل واضح وصريح.
تحظى شخصية علي بن أبي طالب بمكانة سامية في المُعتقدات العلوية، ويُنظر إلى علي باعتباره الظهور الأخير والأكمل من بين جميع الظهورات الإلهية التي عرفها البشر
زمن الأمويين والعباسيين
لم ينته الاعتقاد بإلهية علي بن أبي طالب مع القضاء على جماعة السبئية. بقيت تلك المعتقدات قائمة طوال العصرين؛ الأموي والعباسي، وانتشرت بين عدد من الجماعات والفرق المنحرفة عن التشيع. يعدد عبد القاهر البغدادي تلك الجماعات المنحرفة في كتابه “الفرق بين الفرق”. فيذكر منها فرقة البيانية، أتباع بيان بن سمعان التميمي، والذي أدعى “أن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ثم انتقلت إليه منه -يعني نفسه-؛ فادعى لنفسه الربوبية على مذهب الحلولية”. بقي بيان بن سمعان يردد تلك المعتقدات حتى قبض عليه والي العراق خالد بن عبد الله القسري وقتله. وفرقة الجناحية التي قالت إن “روح الإله دارت في علي وأولاده”. وفرقة الذمية، التي اعتقدت أن علي بن أبي طالب “هو الله، وشتموا محمدًا وزعموا أن عليًا بعثه ليثني عنه فادعى الأمر لنفسه”. وفرقة الشريعية التي اعتقدت بأن الله تعالى حل في خمسة أشخاص، وهم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وزعموا “أن هؤلاء الخمسة آلهة”. وفرقة الخطابية المنسوبة إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي. والذي قال بإلهية الأئمة المنحدرين من نسل علي بن أبي طالب.
على الرغم من كثرة وتعدد تلك الفرق، إلا أنها انقرضت جميعًا ولم يبق لها أثر. حدث ذلك بسبب شذوذ أفكارها وانصراف الناس عنها ورفضها من قِبل أئمة الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية والزيدية من جهة، وبسبب قمعها من جانب السلطات السياسية -الأموية والعباسية- من جهة أخرى. رغم ذلك عرفت فكرة تأليه علي بن أبي طالب طريقها لبعض الجماعات التي حافظت على وجودها حتى الآن، ومنها على سبيل المثال؛ العلويون والبكتاشية والكاكائية.
العلويون
ظهرت جماعة العلويين في القرن الثالث الهجري على يد محمد بن نصير النميري. تذكر الروايات التاريخية الشيعية، أن محمد بن نصير كان تلميذًا للإمامين علي الهادي والحسن العسكري، الإمامين العاشر والحادي عشر عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية. عقب غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، ادعى ابن نصير أنه الباب إلى المهدي المنتظر. ولكن الشيعة الاثني عشرية رفضوا دعوته، واتهموه بالكذب. فيما اتبعه فريق قليل العدد، عُرف هذا الفريق باسم العلويين، كما عُرف أيضًا باسم النصيرية، نسبةً لابن نصير.
بشكل عام، تحظى شخصية علي بن أبي طالب بمكانة سامية في المُعتقدات العلوية، ويُنظر إلى علي باعتباره الظهور الأخير والأكمل من بين جميع الظهورات الإلهية التي عرفها البشر. بحسب دراسة ماتي موسى “ألوهية علي بن أبي طالب: النظام العقائدي النصيري”؛ فإن كتب النصيريين “مليئة ومُتخَمَة بأحاديث وشهادات فيها إشارات إلى ألوهية علي”. على سبيل المثال، ورد في كتاب المشيخة، وهو من الكتب المُعتبرة عند العلويين “أشهَدُ بأنّه ليس إلهًا إلا علي بن أبي طالب الأصلع المعبود، ولا حجاب إلا السيد محمد المحمود، ولا باب إلا السيد سلمان الفارسي المقصود… أشهَدُ بأنّ الصورة المرئية، التي ظهرت في البشرية، هي الغاية الكلية، وهي الظاهرة بالنورانية، وليس إلهًا سواها، وهي علي بن أبي طالب، وأنّه لم يُحَط ولم يُحصَر، ولم يُدرَك ولم يُبصر…”. بناء على هذا التصور، يحتل علي بن أبي طالب مكانه كواحد من الأضلاع الثلاثة المقدسة في الثالوث العلوي الإلهي. ويُرمز له بحرف العين الذي يشير للذات الإلهية. إلى جانب حرف الميم الذي يرمز للنبي محمد، وحرف السين الذي يرمز لسلمان الفارسي.
مواضيع ذات صلة
البكتاشية
في القرن الثالث عشر الميلادي، ظهر في الأناضول صوفي شهير يُدعى حاج بكتاش ولي، ونُسب له عدد كبير من الكرامات والمعجزات، مما أسهم في نشر أفكاره بين الآلاف من التركمان، واكتسبت فيما بعد أفكار حاج بكتاش بعدًا سياسيًا بعدما راجت أفكاره بين القوات الانكشارية العثمانية.
تذكر الباحثة بديعة محمد عبدالعال في كتابها “الفكر الباطني في الأناضول.. الإمام علي في معتقدات البكتاشية نموذجًا”، أن البكتاشية تأثرت كثيرًا بفكرة وحدة الوجود التي راجت في مناطق واسعة من الأناضول في القرن الرابع عشر الميلادي. كذلك تأثر الفكر البكتاشي بمفهوم الثالوث المنتشر بين المسيحيين الذين كانوا يعيشون في البلقان قبل أن يستولي العثمانيون عليه. من هنا، لم يكن من الغريب أن تعيد البكتاشية صياغة مفاهيمها العقائدية مستندة في ذلك لتقديرها المبالغ فيه للإمام علي. بحسب التقليد البكتاشي ظهر ثالوث “الله، محمد، علي” كبديل عن الثالوث المسيحي التقليدي “الآب، الابن، الروح القدس”. في هذا السياق، صار الإمام علي تجليًا من تجليات الذات الإلهية. وساعدت عقيدة وحدة الوجود المنتشرة بين الحركات الصوفية الباطنية على تمرير تلك الفكرة بين البكتاشيين دون صعوبة تُذكر.
لفترات طويلة، تبنى العثمانيون الفكر البكتاشي، وروجوا له باعتباره الصبغة الصوفية الروحية الرسمية التي تميز دولتهم. ولكن في سنة 1826م، وبالتزامن مع إلغاء الجيش الانكشاري أمر السلطان العثماني محمود الثاني بهدم تكايا الطريقة البكتاشية في الأناضول، بعدما رأى في أفكار البكتاشيين خطرًا على دولته، ونفى أفراد الجماعة خارج حدود تركيا؛ فسافر العديد منهم إلى مصر وألبانيا.
الكاكائية
تُعدّ الديانة اليارسانية واحدة من الديانات التي اشتملت على تأليه علي بن أبي طالب، وتنتشر اليارسانية -ومعناها أصحاب الحق أو عشاق الخالق- في كل من العراق وإيران والهند وباكستان وأفغانستان وجورجيا وأرمينيا. في العراق، يُعرف أتباع اليارسانية باسم الكاكائية، المُشتقة من كلمة كاكا بمعنى الأخ الأكبر. ويزيد عددهم عن 120 ألف نسمة، ويتوزعون على مناطق سهل نينوى والسليمانية وأربيل وحلبجة وخانقين وكركوك وديالى. وتُعتبر الشوارب الطويلة أبرز المظاهر التي تميز الكاكائيين.
يوجد خلاف واسع حول أصول الكاكائية، يرى الكاكائيون أن ديانتهم قديمة تمتد لما يزيد عن الثلاثة آلاف سنة. على الجانب الآخر، يعتقد البعض أن الكاكائية مذهب باطني منشق عن الإسلام. وأنه تأسس على يد سلطان إسحاق الذي ظهر في السليمانية في القرن الخامس عشر الميلادي.
يتحدث الباحث العراقي رشيد الخيون في كتابه “الأديان والمذاهب بالعراق”، عن منزلة علي بن أبي طالب في المعتقدات الكاكائية؛ فيقول: “إن الكاكائيين نظروا لعلي باعتباره الأخ الأول، وغالوا في تعظيمه ومحبته حتى ادعوا أنه نفسه الذات الإلهية، الأمر نفسه ذكره عباس العزاوي في كتابه “الكاكائية في التاريخ”، تحدث العزاوي عن اعتقاد الكاكائيين بحلول روح الله في البشر، وذكر أن كتاب الكاكائيين المقدس المعروف باسم “سرانجام” ذكر أن الله تجسد على الأرض في صورة الإمام علي.
تسببت تلك العقائد في اضطهاد الكاكائيين من قِبل العديد من الأنظمة السياسية الحاكمة في السنوات الأخيرة، على سبيل المثال، ذكرت بعض التقارير أن 254 من الكاكائيين وقعوا ضحايا للهجمات الإرهابية وأعمال العنف التي شهدتها العراق منذ سنة 2003م. كذلك أُجبر الكثير من الكاكائيين على النزوح من مدنهم عقب استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في سنة 2014م.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.