توفي قابوس بن سعيد سلطان عمان في يناير من العام 2020، عن عُمرٍ يناهز ال79 عامًا، وبعدما قضى الخمسين عامًا الأخيرة في حياته حاكمًا مطلقًا لعُمان، حرصت إسرائيل على نعيه، وفي نعيه لقبه بنيامين نتنياهو بـ”الزعيم العظيم” الذي عمل بلا هوادة على تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
فطوال الخمسين عامًا من حكم عُمان؛ استعان قابوس بالخبرات الأمنية والتكنولوجية لإسرائيل، ومثّل لها بوابة للتواصل مع الدول الخليجية المجاورة مثل قطر والإمارات وغيرها، وقدّم خدمات سياسية لساسة الكيان أنفسهم، حاولوا استغلالها للوصول إلى المناصب السياسية الأهم. فكيف إذا بدأت قصة السلطان قابوس مع إسرائيل؟ وما الخدمات التي قدمها للإسرائيليين؟ وكيف ساهم بشكل غير مباشر في الاتفاقات الإبراهيمية؟
صداقة بدأت على حساب ثورة شعبية
وصل قابوس بن سعيد لسدة الحكم عام 1970، بعدما نجح في الانقلاب على والده سعيد بن تيمور، بمساعدة صديقه ضابط الاستخبارات البريطاني تيموثي لاندون، والعقيد هيو أولدمان، الذي عمل سكرتيرًا لوزير الدفاع في حكومة السلطان سعيد، وقاد الانقلاب على الأرض العميد جون جراهام، والذين نجحوا بعد التنسيق مع سلاح الجو الملكي ومساعدة ضباط بريطانيين وجنود عرب وبلوش؛ في محاصرة قصر السلطان سعيد، الذي رفض الاستسلام في البداية، وبعد معركة بالأسلحة النارية أدرك أنه لا جدوى من المقاومة، ليتم نقله بعد ذلك لقاعدة تابعة لسلاح الجو البريطاني في صلالة، ثم إلى قاعدة أخرى في البحرين مع عدد من خدمه، لينتهي به المطاف في إنجلترا للعلاج، وخلال ذلك جرى إجباره على التوقيع على وثيقة تنازل عن العرش باللغتين الانجليزية والعربية.
قرر السلطان قابوس اللجوء للكيان الإسرائيلي واستقدام مستشارين ورجال أمن، من أجل مكافحة المد الثوري المدعوم من الاتحاد السوفيتي واليمن الجنوبي، ووصلت ذروة الدعم الإسرائيلي وقتها عندما قَدِم "إفرايم هاليفي" مدير الموساد الإسرائيلي إلي عُمان عام 1975 لتقديم الاستشارات الأمنية، وتحديد الكيفية التي يمكن بها مكافحة هذه المنظمة السياسية - جبهة تحرير ظفار
ومع وصول قابوس للحكم، وجد أنه مهدد بفعل الاضطرابات السياسية التي فرضتها عليه ثورة ظفار، والتي انطلقت في العام 1964 بمساعدة حكومة اليمن الجنوبية (جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية)، والتي شكل خلالها الثوار ما عرف باسم “جبهة تحرير ظفار”، والتي تحول اسمها إلى الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل، ذات المكوّن الماركسي، والتي كانت تهدف للإطاحة بكل الأنظمة التقليدية في الخليج العربي. واصلت الجبهة حرب العصابات في عُمان لأجل تحقيق تغييرات جذرية في بنية المجتمع والنظام العُماني، حتى وصلت لحدود السيطرة الكاملة على إقليم ظفار.
ومن هنا قرر السلطان قابوس اللجوء للكيان الإسرائيلي واستقدام مستشارين ورجال أمن، من أجل مكافحة المد الثوري المدعوم من الاتحاد السوفيتي واليمن الجنوبي، ووصلت ذروة الدعم الإسرائيلي وقتها عندما قَدِم “إفرايم هاليفي” مدير الموساد الإسرائيلي إلي عُمان عام 1975 لتقديم الاستشارات الأمنية، وتحديد الكيفية التي يمكن بها مكافحة هذه المنظمة السياسية، رغبة منه في التدرب لمكافحة منظمة التحرير الفلسطينية في المستقبل.
ومع توقع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل أو ما يعرف بـ”اتفاق كامب ديفيد”، انقسم العالم العربي على نفسه بخصوص موقف مصر المنفرد من إسرائيل، وتم مقاطعة نظام السادات عربيًا، وطردت مصر من منظمة الدول العربية، ونُقل مقرها من القاهرة إلى تونس، وفي تلك الأثناء كانت عُمان إلى جانب المغرب والسودان، الدول الوحيدة التي وثّقت علاقاتها بالنظام المصري؛ بل وسعى نظام قابوس إلى إعادة مصر لجامعة الدول العربية، وتحقيق اتفاق سلام عربي/إسرائيلي شامل في ضوء اتفاقية كامب ديفيد.
وبجانب العلاقات الدبلوماسية والأمنية مع إسرائيل؛ وقعت عُمان مع الولايات المتحدة الأمريكية “اتفاقية الوصول إلى المرافق” عام 1980، والتي تُمكن القوات الأمريكية من الوصول إلى القواعد والمطارات العسكرية العُمانية واستخدامها، وذلك في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، لتصبح عُمان هي الدولة الخليجية الأولى التي تتعاون مع الولايات المتحدة عسكريًا وتزودها بالقواعد والمرافق، وهي الاتفاقية التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في إطلاق عمليتها العسكرية الفاشلة لاستعادة الدبلوماسيين المخطوفين في إيران، انطلاقًا من قاعدة مصيرة الجوية، وبموجب تلك الاتفاقية التي تم تجديدها آخر مرة عام 2010؛ يستطيع الجيش الأمريكي استخدام المطارات العسكرية العُمانية في مسقط ومصنعة ومصيرة؛ حيث يتم تخزين معدات وذخائر شديدة الانفجار تابعة لسلاح الجو الأمريكي، بالإضافة لاستقبال الزيارات العسكرية الدورية من البحرية الأمريكية.
مواضيع ذات صلة
استمرت العلاقة بين قابوس وإسرائيل عن طريق الموساد سرية لما يقارب عقدين من الزمن، حتى منتصف التسعينيات، وتحديدًا بعد توقيع اتفاقيتي أوسلو ومدريد، لتستضيف العاصمة العمانية مسقط، أول وفد إسرائيلي رسمي في العام 1994، واستُقبل رئيس الوزراء إسحاق رابين في صلالة، وهي الرحلة الأولى لمسؤول إسرائيلي كبير لمنطقة الخليج العربي، بعدها تسارعت مساعي عُمان لتطبيع العلاقات مع إسرائيل عندما استقبل قابوس رئيس الوزراء شيمون بيريز عام 1996، والذي تولى السلطة بعد اغتيال رابين، ومعه افتتح بيريز مركز دراسات إسرائيلي لتحلية المياه،
((the Middle East Desalination Research Centre ، والذي عمل على إتاحة الخبرات والتكنولوجية الإسرائيلية في مجال تحلية المياه للمناطق الصحراوية، بالإضافة لافتتاح مكتب تجاري إسرائيلي يعمل فيه ثلاثة دبلوماسيين إسرائيليين، ليصبح بشكلٍ أو بآخر سفارة إسرائيلية، لكن غير رسمية وبدون رفع علم إسرائيل.
ويقول جاريد كوشنر بأن لحظة التنوير الناتجة من لقائه بالسلطان قابوس هي التي أدت مستقبلًا إلى ميلاد الاتفاقات الإبراهيمية "Abraham Accords" والتي وقعت عليها كلٌ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين في سبتمبر من العام نفسه.
ومع زيارة بيريز لعمان بدأت تتبلور فكرة تقديم إسرائيل كحليف محتمل للبلاد الخليجية؛ فساهم قابوس في تحقيق التواصل بين شيمون بيريز وخليفة آل ثاني أمير قطر في ذلك الوقت، وتوجت مساعيه بافتتاح مكتب للتجارة الإسرائيلية في الدوحة عام 1996، وبهذا الاختراق الدبلوماسي هدف بيريز إلى تعزيز فرصه في إعادة انتخابه رئيسًا للوزراء مرة ثانية.
من الانتفاضة الثانية للاتفاقات الإبراهيمية
اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 مؤشرةً بذلك فشل اتفاقية أوسلو، وعلى إثرها تعطلت قاطرة التطبيع التي قادها قابوس من مسقط؛ فتم تجميد مسار التطبيع المُعلن منذ عام 1994، وأمر بإغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي في العاصمة، لكنه أبقى على مركز دراسات تحليل المياه ليقوم بوظيفته كقناة اتصال دبلوماسية بشكل غير مباشر مع إسرائيل، رغم ذلك؛ فإن العلاقات العمانية الإسرائيلية كانت قد أخذت في التوتر منذ وصول بنيامين نتنياهو لمنصب رئيس الوزراء وهزيمته لشيمون بيريز؛ فموقف “نتنياهو” المتشدد من القضية الفلسطينية جعل موقف “قابوس” من التطبيع تحت ضغط داخلي محلي وخارجي عربي وخليجي.
توقف المسار الرسمي لم يمنع وزراء الخارجية لكل من إسرائيل وعُمان من تبادل الزيارات، والتشاور بخصوص الملف العربي/الإسرائيلي، أو تحقيق اختراقات في القضية الفلسطينية، كما حدث من مقابلة وزير الخارجية يوسف بن علوي لديفيد ليفي في الأمم المتحدة عام 1999، أو مقابلته لوزيرة الخارجية تسيفي ليفني في قطر عام 2008، سهّل هذا التواصل من إبقاء إسرائيل على اطلاع بتفاصيل المفاوضات الأمريكية/الإيرانية التي بدأت على الأراضي العمانية، ووصلت ذروتها بتوقيع اتفاقية لوزان عام 2015 أثناء فترة إدارة الرئيس الأمريكي أوباما.
وفي أكتوبر من العام 2018، وجه السلطان قابوس لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو دعوة لزيارة العاصمة مقسط، وهي الدعوى التي سارع نتنياهو لتلبيتها من أجل استعمالها لكسب مؤيدين له في إسرائيل أثناء إعادة انتخابه؛ فبالنسبة للناخب إسرائيلي في تل أبيب، أصبح نتنياهو هو السياسي الإسرائيلي الذي نجح في إعادة تطبيع العلاقات مع الخليج من خلال عُمان مرة أخرى، وبذلك أصبحت زيارة بنيامين نتنياهو ومدير الموساد يوسي كوهين هي أول زيارة رسمية لبلد عربي (ماعدا مصر والأردن) منذ انهيار اتفاقية أوسلو عام 2000، ورغم أن الزيارة لم تُسفر عن ميلاد أية علاقات رسمية بين عمان وإسرائيل، إلا أنها حددت أهمية السلطان قابوس ونظامه بوصفه طرفًا مفاوضًا وحليفًا مهمًا في منطقة الخليج، يمكن اللجوء إليه في أي تعاون دبلوماسي مستقبلي.
يتحدث جاريد كوشنر كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في كتابه “Breaking History: A White House Memoir” في الفصل الثامن والعشرين، والمنشور أيضًا في مجلة “The Jerusalem Post” بعنوان “كيف يفكر سلطان عُمان بخصوص إسرائيل والفلسطينيين؟” يحكي كوشنر عن زيارته للسلطان قابوس في يناير من العام 2020، قبل وفاة قابوس بيومين، أنه في تلك الزيارة عرض عليه السلطان مقترحه لحل الصراع العربي-الإسرائيلي، أخبره فيها السلطان أن النظرة العربية لإسرائيل تقوم بأكملها على كذبة، وهي أن إسرائيل تريد هدم المسجد الأقصى، وهو لا يؤمن بتلك الكذبة؛ بل إن الصراع بأكمله يقوم على ادعاء الأنظمة العربية بخطر إسرائيل عليهم من أجل توجيه أنظار الشعوب العربية بعيدًا عن الأزمات الداخلية، وفقدانهم لأي شرعية سياسية، ووجه انتقادات لاذعة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بأنه غير قادر على إيجاد أي حل لهذا الصراع، وأنه غير قادر على التعلم من التاريخ، وفي تلك اللحظة النادرة يقول جاريد كوشنر إنه جاءته لحظة من التنوير “A eureka moment”؛ فهو قد أدرك للتو أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ينقسم الي صراعين، أحدهما بين إسرائيل والعرب، والآخر بين إسرائيل والفلسطينيين على حدود التقسيم الجغرافي وإدارة الأراضي المقدسة، وأن إسرائيل إن استطاعت ضمان حرية وصول المسلمين إلي المسجد الأقصى، حينها تفقد مزاعم هدمه أي مصداقية، ويقول بأن لحظة التنوير الناتجة من لقائه بالسلطان قابوس هي التي أدت مستقبلًا إلى ميلاد الاتفاقات الإبراهيمية “Abraham Accords” والتي وقعت عليها كلٌ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين في سبتمبر من العام نفسه.