أسباب كثيرة أدت لارتفاع معدلات الباحثين عن عمل في سلطنة عمان؛ منها النمو السكاني والتوسع في التعليم العالي، وزيادة عدد الخريجين، إضافة إلى الأزمات المالية العالمية والمحلية التي كان لها الكثير من التأثيرات السلبية على حجم الإنفاق، وسياسات التوظيف في القطاعين الحكومي والخاص.
حتى إن السلطان هيثم بن طارق حرص بعد توليه الحكم بفترة قصيرة، خلال لقائه بعدد من الشباب المشاركين بالمؤتمر الوطني للرؤية المستقبلية “عمان 2040″، على أن يدعو الشباب “للمبادرة وانتهاز الفرص، والإقبال على القطاع الخاص وعدم انتظار الوظيفة الحكومية؛ بل الاتجاه إلى حيث يمتلكون المقدرة”.
تذكر الأرقام الرسمية أن هناك ارتفاعًا في معدل الباحثين عن عمل من حملة درجة البكالوريوس، ليصل إلى 9.7% بنهاية شهر مايو الماضي، كما ارتفع معدل الباحثين عن عمل الذين يحملون مؤهل دبلوم التعليم العالي، ليصل إلى 9.5%. أما العدد الإجمالي فتتفق أغلب التقديرات على أنه يزيد عن 100 ألف باحث ينتظر فرصة الحصول على وظيفة، في بلد يقل عدد سكانه عن 3 مليون نسمة طبقاً لبيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات حتى يوليو العام الجاري.
حكومية ولكن!
إلا أن السعي للحصول على وظيفة حكومية لم يتوقف، رغم التشجيع الحكومي المتواصل للإقبال على العمل الحر؛ بل إن الكثير من شباب الخريجين يفضلون عدم تسجيل بياناتهم في الوظائف التي يعلن عنها القطاع الخاص عبر وزارة العمل، والانتظار لسنوات طمعًا في اقتناص فرصة حكومية، رغم أن تلك الفرص تكاد تكون نادرة، والمطلوب للوظائف عدد متواضع لا يستوعب الآلاف من الباحثين والقابعين في قوائم الانتظار. وعلى سبيل المثال أعلنت وزارة العمل مؤخرًا عن توفر عدد 557 وظيفة شاغرة لدى بعض الجهات الحكومية، لكن المفاجأة أن الوظائف بعقود عمل محددة المدة وليست كما كان متبعًا في السابق، ولهذا جاءت ردود الأفعال والتعليقات على حساب وزارة العمل الرسمي على منصة إكس ذات دلالة على ما يحدث: فقال شاب: “كل مرة نسجل ولا نحصل وظيفة، ومعي شهادة الثانوية العامة ونريد وظيفة في القطاع الحكومي والخاص، ونريد وظيفة في ديوان وشركات، والسنوات تمضي بدون وظيفة”. وعلّق آخر: ما الحكمة من عقد عمل وظيفة محددة المدة طالما أنها بمخصصات الدرجة المالية؟ أليست الحكمة تقتضي أن يُلغى نظام العقود، ويتم التعمين على الدرجة المالية بوظيفة دائمة؟ خاصةً كما تعلمون أن الباحثين عن العمل لهم سنوات ينتظرون فرصة التعمين، وبعد هذا الانتظار يتم تعيين؟” وأضاف ثالث: “ما ذنب من قضى عمره في الانتظار للحصول على الوظيفة؟ هل هذه خطؤه؟ ياحسرة على عمر مضى للكثير من الشباب والباحثين عن عمل”.
من الصعب الجزم أن كل رواتب القطاع الخاص قليلة، لأن هناك شركات كبيرة وقوية وتعطي ثلاثة أضعاف القطاع الحكومي، لكن القطاع الخاص هو مرآة للوضع الاقتصادي، وهدفه الأول وقبل أي شئ هو الربح من خلال تعظيم الفوائد وتقليل التكلفة بكل الطرق الممكنة، حتى لو كان هذا على حساب القوة العاملة لديه.
على مستوى البيانات الحكومية الرسمية؛ فقد أعلنت وزارة العمل أن نسبة الإنجاز في خطة التوظيف للنصف الأول من عام 2024 وصلت إلى 54%، في القطاعين الحكومي والخاص. وأوضحت مؤشرات خطة التوظيف للنصف الأول من العام 2024 أن عدد الذين شملهم التوظيف والإحلال في القطاعين الحكومي والخاص بلغ 14,074 شخصًا. وبينت وزارة العمل أنه تم توظيف 6,963 شخصًا في القطاع الحكومي من أصل المستهدف بالخطة، والذي يبلغ 10,000 شخص، بينما تم توظيف 7,111 شخصًا في القطاع الخاص من أصل المستهدف بخطة التوظيف، والذي يبلغ 16,000 شخص.
وأكدت وزارة العمل أنها تعمل على إيجاد فرص العمل للمواطنين في مختلف القطاعات لتنظيم سوق العمل، ورفع نسبة القوى العاملة الوطنية في القطاعين الحكومي والخاص؛ ما يسهم في دفع عجلة الاقتصاد والرقي بمستوى السوق العُماني، وزيادة نسبة التعمين في جميع قطاعات العمل، تحقيقًا لأهداف رؤية عُمان 2040.
القطاع الخاص نكث بوعوده
يرى الإعلامي سالم اللويهي: أن العمانيين يحبون الوظائف الحكومية؛ ففيها أمان وظيفي، بينما يتجنبون القطاع الخاص، لأنه في أية لحظة يكونون مهددون بالتسريح، وبالفعل هناك الكثير من العمانيين تم تسريحهم من العمل، رغم مالديهم من التزامات ومسؤوليات؛ خاصة للبنوك أو شركات التمويل، وبعضهم للأسف الشديد دخلوا السجن لعجزهم عن الوفاء بهذه الالتزامات، بعد أن تم تسريحهم وحرمانهم من مصدر دخلهم. لهذا فقد استقر في قناعة الباحثين عن عمل أن القطاع الحكومي أفضل وأكثر أمانًا من القطاع الخاص.
يقول لـ”مواطن”: “ابني ضمن هؤلاء المسرحين عن عمل، ومنذ 3 سنوات يجلس بلا عمل في انتظار فرصة مناسبة ولا يجد؛ خاصة وأن أغلب رواتب القطاع الخاص متدنية جداً إذا قورنت بالرواتب في القطاع الحكومي، لأن هناك قرارًا جائرًا أصدره مسؤول لا يعلم شيئًا عن أوضاع وحياة العمانيين، وضع حدًا أدنى للراتب قيمته 335 ريال فقط”.
ويؤكد اللويهي أن القطاع الخاص نكث بوعوده، وهناك الكثير ممن أصبحوا بلا عمل ولا حماية، كذلك تقوم بعض شركات القطاع الخاص بتسريح الموظفين الذين يتقاضون رواتب عالية، ثم يعيدون توظيفهم بعد فترة برواتب أقل.
ويضيف: سأضرب مثالاً لموظف في القطاع الخاص كان يعمل في إحدى الشركات الكبيرة، ويصل راتبه إلى 1500 ريال تم تسريحه، وبعد فترة قليلة أخطروه بإمكانية رجوعه للعمل ولكن براتب 500 ريال فقط! لنا أن نتخيل كم المشاكل التي يمكن أن يواجهها هذا الشخص ولديه التزامات، وقام بترتيب حياته على مستوى معين من الدخل، ثم يجد نفسه مضطرًا للقبول بالثلث فقط، أو يقبل بالبقاء في صفوف الباحثين عن عمل، وهي مأساة كبيرة ولا بد من تدخل حكومي قوي لمواجهتها والحد من آثارها السلبية على الأسرة والمجتمع العماني.
بينما يقول خلفان الطوقي، الخبير الاقتصادي لـ”مواطن”: “الإقبال على الوظائف الحكومية واقع في السلطنة ودول الخليج بوجه عام، نظرًا لارتفاع مستوى الرواتب مقارنة بما يقدمه القطاع الخاص من رواتب ضعيفة، كذلك فإن الوظيفة الحكومية مضمونة تمامًا، وليس فيها احتمالات الرفد نهائيًا، عكس القطاع الخاص حيث الرفد خطر يهدد الجميع.
ويضيف: النظرة المجتمعية للموظف الحكومي تختلف عن النظرة لموظف القطاع الخاص، إلا أن هذه النظرة تغيرت إلى حد ما تأثرًا بحملات التوعية والتثقيف التي تقوم بها الدولة، وجهات عديدة من أجل تشجيع الشباب على العمل الحر، لكن ما زال كثير من الناس لديهم قناعة أن العمل الحكومي مضمون ولا يريدون الدخول في مغامرات.
ويشير “الطوقي” إلى أنه من الصعب الجزم أن كل رواتب القطاع الخاص قليلة، لأن هناك شركات كبيرة وقوية وتعطي ثلاثة أضعاف القطاع الحكومي، لكن القطاع الخاص هو مرآة للوضع الاقتصادي، وهدفه الأول وقبل أي شئ هو الربح من خلال تعظيم الفوائد وتقليل التكلفة بكل الطرق الممكنة، حتى لو كان هذا على حساب القوة العاملة لديه.
ويرى “الطوقي” أن هناك آثارًا ناجمة عن هذا الوضع؛ أهمها عدم وجود توازن في سوق الوظائف واستمرارية الضغط على القطاع الحكومي ليستوعب المزيد من الموظفين، وهو ما يعني إرهاق الجهاز الحكومي إذا رضخ لتلك الضغوط، وأرى أنه مع مرور الوقت سيقتنع الكل بالمعطيات الموجودة ويتعامل مع الواقع كما هو، وسيتراجع الفكر التقليدي الذي يقدس الوظيفة الحكومية بشكل مطلق، مع اضطرار الآلاف من الباحثين عن عمل للقبول بالمتاح من وظائف، والنظر للعمل بمعناه المجرد.
ويقول سالم . م (متقاعد) لـ”مواطن”: جهود كبيرة تبذلها الحكومة من أجل حث الشباب على الاتجاه للعمل الحر والإقلاع عن التفكير وانتظار الوظيفة الحكومية، لكن للأسف لا تحقق هذه الجهود النتائج المرجوة منها، والأسباب معروفة وواضحة، وأهمها أن الوظيفة الحكومية تكفل مرتبًا جيدًا ودائمًا، إلا أن الاقتصاد لن يبنى بالوظائف الحكومية؛ بل بتضافر الجهود والإنجارزات بالمشاركة بين الحكومة والقطاع الخاص، كذلك فإن القائمين على الأمر يدركون جيدًا أهمية توجه الشباب إلى الأعمال الحرة، وخلق مشاريع توفر لهم فرص عمل، والدليل هو أن السلطان هيثم بن طارق أصدر توجيهًا للجهات المعنية بتهيئة البيئة المناسبة التي تساعد المواطنين على الالتحاق بالأعمال، وأهمية توعية الشباب بفلسفة العمل وثقافته السائدة عالميًا، وضرورة تشجيعهم على خوض مجالات الأعمال الحرة.
ويضيف سالم: كذلك اتخذت الحكومة مبادرات عديدة لدعم الابتكار، وأسست مجمع الابتكار، إضافة إلى البرامج التدريبية لتأهيل الشباب للانخراط في سوق العمل، كما أنشأت هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وصندوق “رفد”. ومن قبل ذلك أنشأت برنامج “سند”، وكلها مشاريع كان يجب عليها امتصاص فائض العمالة واستيعاب أغلب الباحثين عن عمل، والمشاركة بشكل حقيقي في حل المشكلة، ودفع المسار التنموي للبلاد، لكن في المقابل ما زال القطاع الخاص بعيدًا عن المأمول منه في استيعاب المزيد من الباحثين عن عمل، رغم ما منحته له الدولة من دعم ومساندة في السنوات الماضية.