الإخفاء القسري في اليمن.. كيف يؤثر على الصحة النفسية للأبناء؟
في إحدى أيام صيف 2016، اختفى عادل الحداد فجأة من حياة أسرته. لم يكن هناك وداع، ولا رسالة تشرح سبب غيابه. فقط فراغ ثقيل خلفه في المنزل، وجدران لم تعد تحمل صدى صوته. على مدار السنوات التي تلت، تحوّل الانتظار إلى كابوس دائم. انطفأت ضحكات الطفولة، وحلّ محلها الخوف والقلق. لم تعد الابنة إيناس، تلك الطفلة المليئة بالحياة؛ بل أصبحت تفضل العزلة، تتجنب اللعب مع أقرانها، بينما يعاني الابن سهيل من نوبات قلق وصعوبة في التركيز، انعكس ذلك على دراسته؛ فانخفض مستواه التعليمي بشكل ملحوظ. تقول أروى فضل (40 عامًا)، والدة الطفلين: “إنّ اختفاء والدهما، عادل الحداد، ترك جروحًا نفسية غائرة انعكست سلبًا على حالة طفليها؛ الصحية والنفسية، مُسببة لهما معاناة لا تُخففها الأيام”.
وتضيف: “لقد ثقلت على صحتهما النفسية مشاعر الفقد والألم والحزن المتراكمة، مُسببةً لهما معاناةً كبيرة؛ فإيناس التي كانت مفعمة بالحياة أصبحت اليوم تعاني من الخوف والعزلة المفرطة، وتفضل البقاء وحيدة لساعات طويلة؛ فيما يعاني سهيل من القلق والاكتئاب وصعوبة التركيز . مشيرة إلى أنّ ألم الحزن الذي خلفه فقدان والدهما بشكل مفاجىء فاقم من معاناتهما، وتسبب أيضًا في تدهور حالتهما الصحية، وتراجع مستواهما التعليمي بشكل ملحوظ”. كما بينت، أنّ حالتهما النفسية تتدهور وتزداد سوءًا كلما سمعا كلامًا سلبيًا عن أبيهما، مُعيدًا بهما الأمر إلى نقطة الصفر، وكأنّ من يُحدّثهما عن أبيهما مُتعمد قتلهما ببطء، حسب تعبيرها.
وبكلمات يملؤها الأسى والحزن تنهي حديثها قائلة: “لا شيء أصعب من آلام هذا الفقد الذي يعيشه ابناي، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟ هذا هو قدري، وطفلاي الاثنان اللذان لا ينفكان بالسؤال عمّا إذا كان والدهما سيعود مجددًا، ولا أعرف ماذا أقول لهما.
لكن مأساة سهيل وإيناس ليست حالة فردية؛ بل جزء من قصة أكبر وأكثر إيلامًا. مئات الأطفال في اليمن يعيشون المعاناة ذاتها، بعدما غُيِّب آباؤهم قسرًا؛ في ظاهرة تحوّلت إلى جرح غائر في المجتمع اليمني. هؤلاء الأطفال لا يعانون فقط من فقدان الأب، ومن بين هؤلاء، الطفلة إيمان العاقل وشقيقاتها الثلاث، اللواتي تحولت حياتهن بعد اختفاء والدهنّ قسرًا إلى فصول من المعاناة والحزن المتواصل.
يُعد اليمن واحدًا من أكثر الأماكن خطورة في العالم للأطفال؛ حيث يعاني البلد من ارتفاع معدلات الأمراض المعدية، ومحدودية فرص الحصول على خدمات التحصين الروتينية والخدمات الصحية للأطفال والأسر، والممارسات غير السليمة لتغذية الرضع والأطفال الصغار، وقصور أنظمة الصرف الصحي.
تروي والدتهنّ معاناتهن بعد اختفاء والدهن، بهيج زيد العاقل، قسرًا قائلة: “غرقت بناتي في بحر من الألم والحزن، وتوالت عليهن الصدمات من كل جانب حتى أنهكت عزيمتهنّ؛ خاصة في ظل غياب الدعم النفسي الذي بات بعيد المنال وسط معاناتهن الشديدة”.
وتقول: بصوت حزين “لقد سلبهنّ هذا الفقد المؤلم والغياب الطويل لوالدهن طفولتهنّ وآمالهن في المستقبل، وجعلهنّ في حالة من اليأس والإحباط”.
آثار نفسية خطيرة على الأبناء
ومن جانبه يشير الدكتور عبدالله البعداني أستاذ علم النفس في جامعة صنعاء، إلى أن أطفال الآباء المخفيين قسرًا في اليمن يعانون من آلام نفسية شديدة، بسبب جهلهم بحال آبائهم، الذين يُعدّون مصدر الحنان والأمان لهم. مؤكدًا بالقول: “إن عدم حصول هؤلاء الأطفال على معلومات حول آبائهم وأماكن وظروف احتجازهم، جعلهم فريسة سهلة للعديد من المشاكل والاضطرابات النفسية والسلوكية والعلائقية”.
مشيرًا في حديثه لـ “مواطن” إلى أن من أبرز المشاكل النفسية التي يواجهها أطفال الآباء المخفيين قسرًا، القلق والاكتئاب وفقدان الأمان العاطفي، وانخفاض الثقة بالنفس ومشاكل سلوكية كالعدوانية والعصبية.
وفي الوقت الراهن، يعاني الأطفال في اليمن، أكثر من غيرهم، من وطأة الصراع الدائر منذ عام 2015م، وما نتج عنه من تداعيات إنسانية مرة، وتجارب مؤلمة، وصدمات نفسية عميقة؛ فقد أثر هذا الصراع بشكل بالغ على نفوسهم، معرضًا إياهم لمخاطر جسيمة تهدد مستقبلهم وسلامتهم النفسية والجسدية.
وحسب دراسة مدنية حديثة لمنظمة “سام للحقوق والحريات”، حول تأثير الصراع المسلح بعنوان: “طفولة معذبة“؛ فإنّ الصراع في اليمن أدى إلى تدهور الصحة النفسية على أوسع نطاق، وتتسبب بالعديد من الآثار والاضطرابات النفسية لدى الأطفال، والتي تُصيب الأطفال بدرجات متفاوتة.
وبمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، أشارت منظمة Save the children (أنقذوا الأطفال) في تغريدة على منصة “إكس”، أن العديد من الأطفال اليمنيين يعانون من اضطرابات نفسية أو سلوكية، لكنهم غالبًا لا يحصلون على الدعم الذي يحتاجونه.
وتصدرت اليمن قائمة بلدان المنطقة التي تشهد نزاعات وحروبًا في معدل مشكلات الصحة النفسية والعقلية؛ إذ يقدر عدد الأشخاص الذين يعانون من الصدمات النفسية والإجهاد الناجم عن النزاع المستمر بنحو 7 ملايين شخص، أي ما يقارب ربع سكان اليمن، وفق تقرير حديث لمنظمة الأمم المتحدة
كما يُعد اليمن واحدًا من أكثر الأماكن خطورة في العالم للأطفال؛ حيث يعاني البلد من ارتفاع معدلات الأمراض المعدية، ومحدودية فرص الحصول على خدمات التحصين الروتينية والخدمات الصحية للأطفال والأسر، والممارسات غير السليمة لتغذية الرضع والأطفال الصغار، وقصور أنظمة الصرف الصحي وفق تقرير أممي حديث.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد عدد المختفين قسرًا في اليمن بدقة، تمكنت منظمة العفو الدولية من توثيق بعض الحالات وفق بيان المنظمة العفو الدولية ومنظمات أخرى في العام 2023، فإن الأطراف المتنازعة في اليمن ارتكبت (1,168) حالة اختفاء قسري بين عام 2014 ومطلع عام 2023. وكانت جماعة أنصار الله (المعروفة أيضًا بالحوثيين) مسئولة عن (596) حالة، تليها المجلس الانتقالي الجنوبي الذي كان مسئولا عن (349) حالة، والحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا التي كانت مسؤولة عن 223 حالة. بالإضافة إلى ذلك، ارتكب التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات (38) حالة اختفاء قسري، وارتبطت قوات النخبة الحضرمية بـ (28) حالة، والقوات المشتركة بـ (15) حالة، وقوات العمالقة بالشراكة مع قوات دفاع شبوة بـ (9) حالات اختفاء قسري.
الطفولة في مواجهة الإهمال
في المقابل، وفي ظل ما خلفه هذا الفقد المؤلم من تداعيات نفسية عميقة، تتجاهل السلطات الرسمية معاناة والآم هؤلاء الأطفال اليمنيين، ولم تقدم لهم الاحتياجات اللازمة، تاركة إياهم يواجهون التداعيات السلبية التي تركها هذا الإخفاء المفاجئ والتغييب القسري لآبائهم، وهو ما تشكو منه أم أطفال المخفي قسرًا منذ عام 2019م (حسين الحاشدي)؛ حيث تشكو من تجاهل السلطات معاناة وآلام أطفالها. تقول والدتهم أفراح الحاشدي (52 عامًا): “إن السلطات الرسمية تتجاهل معاناة أطفالها، ولم تقدم لهم الدعم النفسي الذي يساعدهم على تجاوز الآم الفقد، مؤكدة في حديثها لـ “مواطن” أن كلما حصل عليه أطفالها من الدعم من قبل المتطوعين لم يفدهم بالشكل المطلوب”.
يشير الخبير النفسي وأستاذ علم النفس (عبدالله البعداني) إلى أن وضع أطفال الآباء المخفيين قسرًا يحتاج اهتمامًا عاجلًا من المجتمع والجهات الرسمية.
وفي ذات السياق، تشير الأخصائية الاجتماعية، ذكرى العروسي، إلى ضعف استجابة الجهات المختصة والسلطات لمواجهة آثار الاختفاء القسري، وتقديم الدعم اللازم لأطفال الآباء المخفيين قسرًا، مؤكدة لـ “مواطن” أن استجابة الجهات المختصة فيما يتعلق بمعالجة آثار الاختفاء القسري وتقدم الدعم النفسي للأطفال ضعيف جدًا، مرجعة ذلك إلى نقص الموارد وغياب التشريعات.
وأشارت في حديثها لـ”مواطن” إلى أن غياب الدعم النفسي والاجتماعي المناسب قد زاد من معاناة الأطفال الذين يعانون من آثار اختفاء آبائهم قسريًا، وفاقم من صعوبة تعافيهم من الصدمات النفسية التي يعيشونها.
وتعتبر الناشطة الحقوقية ورئيسة رابطة أمهات المختطفين، الأستاذة أمة السلام الحمادي، أن هؤلاء الأطفال يمثلون شريحةً منسية اجتماعيًا ورسميًا، ومهمشة إلى حدٍّ كبير؛ حيث لا يتم إيلاء وضعهم الاهتمام الكافي، بالرغم من كونهم الأكثر تضررًا بفقدان آبائهم.
وأضافت قائلةً: “إنّ السلطات لا تقدّم أي دعم يُذكر لهؤلاء الأطفال، وكل ما يحصلون عليه من مساعدات أو برامج دعم نفسي أو اجتماعي، هو بفضل جهود ذاتية بحتة من رابطة أمهات المختطفين، دون أي دعم من أية جهة رسمية؛ فقد قدّمنا بجهودنا الخاصة، العديد من الرحلات والدورات وجلسات الدعم النفسي لأكثر من 600 طفل في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، دون أية مساعدة من الجهات المعنية”.
من جانب آخر، يؤكد توفيق الحميدي، رئيس منظمة “سام للحقوق والحريات”، على غياب الدور الحكوميّ في تقديم الدعم لأطفال الآباء أو المخفيين قسرًا في اليمن، ويقول معبرًا عن أسفه الشديد: “للأسف الشديد، الدور الحكوميّ غائبٌ تمامًا؛ خاصةً في ظلّ عدم وجود مؤسسات ثابتة وخطط واضحة للمساعدة في مثل هذه الحالات؛ بل يمكن القول إن الدعم الحكومي؛ سواء أكان المالي أو النفسي أو الاجتماعي، غائبٌ تمامًا عن الأسر التي تعرّضت لانتهاكات جسيمة، كالتعذيب والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، بما في ذلك الأطفال أنفسهم”.
ما الذي يجب فعله؟
ومع تفاقم آثار هذا الفقد، وتزايد معاناة الأطفال بشكل حاد؛ لا سيما في ظلّ غياب الحلول الفعّالة للحدّ من الآثار المدمرة، والحاجة أيضًا إلى تدخل عاجل لإنقاذ هؤلاء الأطفال من تداعيات هذا الوضع الكارثي. يشير الخبير النفسي وأستاذ علم النفس (عبدالله البعداني) إلى أن وضع أطفال الآباء المخفيين قسرًا يحتاج اهتمامًا عاجلًا من المجتمع والجهات الرسمية، ووضع استراتيجيات شاملة تشمل برامج الدعم النفسي المتخصصة، وإنشاء بيئات آمنة تحفزهم على التعافي والتكيف والتغلب على تلك الإشكاليات.
بدورها؛ تبين الأخصائية الاجتماعية زينب مصلح، إلى الحاجة لجملة من الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لضمان حماية حقوق الأطفال وتقديم الدعم اللازم لهم. مؤكدة على ضرورة سن تشريعات القانونية لحماية الأطفال، وتجنيبهم مخاطر الانتهاكات وأشكال العنف، واتخاذ إجراءات متعددة لدعم الأطفال وحماية حقوقهم، تشمل سن تشريعات قانونية، وتعزيز التوعية بأهمية تلك الحقوق، وتوفير الرعاية الصحية والنفسية، وضمان تعليم جيد، وتقديم الدعم الاجتماعي. كما شددت على أهمية خلق بيئات آمنة، وإشراك الأطفال في بعض الجلسات النفسية، والتعاون مع المنظمات المحلية والدولية لضمان حقوقهم وحمايتهم من آثار الفقد
ختامًا، يبقى هؤلاء الأطفال في ترقبٍ مُلحّ للحلول والمعالجات التي تعيد آباءهم، مصدرَ الرعاية والأمان لهم، و الحل الوحيد الذي سيساعدهم على تجاوز هذه المحنة الأليمة، ويعالج الآثار النفسية العميقة التي خلفها الإخفاء القسري.