الصور الفوتوغرافية هي مرآة للمجتمع والتغييرات التي تحدث فيه عبر العصور. وقد تكون أيضًا مؤرخة لأزمان مختلفة سياسيًا واقتصاديًا، وتوثق مستوى الوعي ودرجة الحقوق التي يتمتع بها المواطنون وال”مواطن“ات في حقب مختلفة. عدسة عبد الرحمن الغابري كانت من أهم وسائل التوثيق التي صورت لنا كيف تغيرت اليمن عبر السنين، وفي كل مرة ينشر فيها الغابري صورة عبر وسائل التواصل الاجتماعية يتعجب متابعوه ويتساءلون “معقولة!.. هل هذا حدث فعلًا في اليمن؟”. عين اليمن أو ذاكرة اليمن، هذه هي الألقاب التي لقب بها هذا الرجل متعدد المواهب؛ فهو من وثق تاريخ اليمن بعدسته، وعمل أيضًا في الإخراج والصحافة.
ذاكرة اليمن الحية
وثق بالصور قطاعًا عريضًا من التاريخ الاجتماعي والثقافي والأدبي والسياسي في كلّ محافظات اليمن الكبير؛ شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، كمحايد لا ينتمي إلى أيّ تيّار سياسيّ على الإطلاق، “كلّ هذه الصفات والألقاب أكسبوني إيّاها دون أن يعرفوا كيف كانت طفولة اليتيم الذي فقد أباه منذ نعومة أظفاره، لولا والدته التي كافحت لتعليمه، وابتعاثه إلى صنعاء للدراسة فقيرًا يتيمًا، لكنّه أدرك معنى الحياة، وكافح دون أية مساعدة من غير والدته، سوى الدفع المعنوي من علاقاته التي توسّعت مع أدباء وفنانين كبار، لذلك توسّعت مداركه في مجالات الفنون والآداب والصحافة، والسينما كتخصّص، والمسرح والفوتوغراف خاصّة، حتّى وصل إلى جزء من مبتغاه”. حسب قول الغابري، لـمواطن.
“كان يلتقط الصور بوعي، وحسّ تاريخي يفتقر إليه الكثير؛ حيث كان يحتفظ بتلك الصور مدركًا أنها ستصبح وثيقة تاريخية وثقافية فيما بعد، وهذا ما لم يدركه الكثير من زملائه المصورين”. حد قول الأكاديمي والناقد الفني، قائد غيلان.
يقول الغابري: "اختلافات شتى حدثت مؤخرًا؛ فقد كانت المرأة اليمنية في الريف اليمني عامة لا تعرف البرقع أبدًا ولا السواد، كانت تشارك الرجل في كل الأعمال، وتعمل في البيت والحقل. وكانت هناك مجموعات من رجال ونساء تؤدى أهازيج عن الزراعة وتبتكر الكلمات وتغنيها بما يسمى الزجل".
التعرف على الكاميرا
بدأت علاقة المصور اليمني بالفواتوغراف، بفنّ التصوير منذ الطفولة: “دون أن أعرف أنّ هناك كاميرات تلتقط المشاهد التي جذبتني، وأحببت أن أحبسها لتبقى أمام عينيّ في منطقتي؛ محميّة (عتمة) الغنيّة بالجمال. أعتقد أنّ ذلك كان -أساسًا- الدافع الأوّل لمهنتي في التصوير، إلى أن اشتغلت محمّضًا لأفلام غيري، وطبعها في (الدارك روم)”.
ويضيف حول البدايات: “عملت على كاميرات تابعة لجهة رسميّة إلى أن حصلت على كاميرا خاصة بي رغم ضعف تقنياتها، إلّا أنّني عملت بها منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي، وبرزت في عملي الميدانيّ والداخليّ حتّى تعدّدت الكاميرات من موديلات مختلفة. وإلى اليوم ما زلت أقتني أحدث الكاميرات، وأحتفظ بكلّ الكاميرات التي بدأت بها تباعًا”.
وُجد التصوير الفوتوغرافيّ الميدانيّ في اليمن عبر الأتراك المحتلّين لأغلب مناطق شمال اليمن؛ خصوصًا صنعاء في بداية القرن العشرين، وكذلك عبر الرحالة الفوتوغرافيّ الألمانيّ “بور شارت” عام 1900م حتّى عام 1909م، واغتيل في منطقة “دمت“، لكنّ يمنيًّا مرافقًا له احتفظ بأعماله، وسلّمها لبلاده ألمانيا، و”شارت” كان أفضل من صوّر في اليمن. أمّا من أسّس التصوير الفوتوغرافيّ كيمنيّ ميدانيّ؛ فهو رائد التصوير اليمنيّ (أحمد عمر العبسي) في أربعينيّات القرن الماضي حتّى وفاته مطلع السبعينيّات من ذلك القرن، بعدها وُجد مصوّرون، لكنّ أغلبهم مصوّرو استوديوهات، وليسوا ميدانيّين إلا ما ندر منهم، كالفنّان (محمّد عقبات) والغابري.
الفوتوغرافيا كوثيقة تاريخية
عندما اختفت دروس الموسيقى في شمال اليمن منذ التسعينيات من القرن الماضي، تغيرت اليمن وزاد التطرف والتعصب الديني. تُظهر صور الغابري فتيات يمنيات يحملن أدوات موسيقية ويرتدين الزي المدرسي؛ قميصًا أبيض وتنورة طويلة، تبدو الصورة غريبة في زمننا هذا؛ حيث إن المدارس الحكومية لا يوجد فيها دروس للموسيقى، والفتيات لا يرتدين هذه الثياب.

يحدثنا الغابري عن هذه الصورة: “هذه الصور صوّرتها في مدارس تعز وإبّ عام 1980م، وكانت المدارس اليمنيّة بمختلف درجاتها بعد ثورة 26 من سبتمبر الخالدة، تخصّص حصصًا للفنون بأشكالها؛ سواء أكانت الموسيقى أو المسرح أو الرسم، وبسبب تسلّط أحزاب الإسلام السياسيّ تمّ إلغاء هذه الحصص واستبدالها بحصص دينيّة مع وجود المعاهد العلميّة الدينيّة. تمّت أدلجة التعليم، وتقليص التعليم المواكب للعصر، واليوم سبب مصائبنا هو التعليم الإيديولوجي غير الوطني”.
عندما وثق الغابري مسيرة الفن في اليمن، ووجود الفن في المدارس كان ذلك نابعًا من حبه للفن الذي درسه في دمشق: “أنا درست الموسيقى في دمشق في معهد خاص -أثناء دراستي الإعلامية هناك- تخصّص عود، وكنت أغنّي غناءً فرديًّا، ولي ألحان كثيرة غنّتها فرق جماعيّة ومطربون آخرون، ودرست الجيتار على يد بروفيسور كوريّ، وتجاربي في الإنشاد الجماعيّ كانت مع الزملاء، علي الأسدي وعلي العودي ويحيى الشلال وعلي الرداعي، وفي عام 1980 كنّا قد وزعنا أغانيَ تراثيّة، وخاصّة للأسبوع الثقافيّ اليمنيّ الأوّل في دولة الكويت، وكان هذا الأداء الجماعيّ رائعًا، وكانت أوّل فرقة غناء وإنشاد في الشمال حينها؛ فيما سبقنا لذلك فرقة الجنوب الرائعة بقيادة الموسيقار “بن غودل”، وتتالت تلك الأعمال الجماعيّة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعظم الدول العربيّة، وقد غنّينا في فرقتي “صنعاء وعدن” غناءً مشتركًا في عدن بمصاحبة فرقتي الموسيقى، وكانت من أروع الأعمال، للأسف لم تبثّ لكنّها مسجّلة، ونحتفظ بأشرطة كاسيت لها”.
يعتقد غيلان أن “تجربة عبدالرحمن الغابري تشكل دراسة أنثروبولوجية بصرية؛ فما كانت تقوم به عدسته هو ما كان يجب أن يقوم به قلم الباحث الأنثروبولوجي في توثيق حياة الإنسان اليمني كما هي في مرحلتها التاريخية، ولهذا فهي تصلح الآن مادة للدراسة الثقافية؛ فبنك الصور الذي يمتلكه الغابري يصلح لدراسات تحليلية، أو هي ملهمة أو معينة لكثير من الدراسات الأنثروبولوجية للمجتمع اليمني”.
كتب الغابري المقالة الصحفية عن الفنون والآداب، وكتب المقالة النقديّة المجتمعيّة فيما يشبه السرد الصحفيّ، وكتب قصصًا أو حكايات صور نشرتُها في الفيس بوك، وكتب الرواية مبكّرًا، أي قبل أربعين عامًا، “احتفظت بمسودّاتها في قصاصات، لأنني كلّما جاء الصفاء الذهني أكتب ما يخطر في بالي على أي ورقة أو قصاصة، حتّى على “باكيتات” السجائر، وأنا عابرٌ في طريق، أو في قمّة جبل، أو في السهول. وبإصرار بعض الأدباء الأصدقاء طُبعت لي رواية (بيت الزوقبي) في مصر عن دار عناوين بوكس، ولديّ حاليًّا رواية طويلة جدًّا عنوانها (أرخبيلات أسعد)، هي الأخرى كتبتها على مراحل طويلة، وبإصرار الزملاء ستطبع قريبًا؛ فأنا لم أنهِ خاتمتها بسبب الحرب والشريعة، وهموم يوميّة معيشيّة مُحبطة وكثيرة، وكتابة الرواية أو القصّة تحتاج مزاجًا هادئًا، وأجواءً دون التوتّرات اليوميّة”.
ويضيف: “احتضنت صنعاء كلّ مبدعي اليمن شمالًا وجنوبًا شرقًا وغربًا منذ قيام ثورة 26 من سبتمبر، وأيضًا قبل ذلك كانت صنعاء مهبط الفنون. إيقاعاتها، وأنغامها الموسيقيّة، وفنونها بحاجة إلى دراسة وتدوين، وهناك كتب ومؤلفات ليمنيّين وعرب ومستشرقين أجانب، تحكي عن الفنون اليمنيّة في كافة المدن ومنها صنعاء؛ مثل الدكتور اليمنيّ محمد عبده غانم، والدكتور الفرنسيّ جان لامبير، والفنّان العظيم محمد مرشد ناجي، وغيرهم الكثير”.
كما صورت عدسة الغابري الفرق الراقصة اليمنية رجالًا ونساءً يرقصون مع بعضهما رقصات يمنية، لا يبدو أن الأمر كان غريبًا لفترة قريبة. ولكن الأجيال الجديدة التي لم تشهد تلك الفترة تستغرب هذه الصور. يقول الغابري: “كان انجذابي شديدًا لتصوير الفرق الفنّيّة متعدّدة الأنماط في كلّ قرى ومديريّات ومحافظات اليمن، وتصوير أدائها الفرديّ والجماعيّ؛ فقد أحيت تلك الفرق مجمل الفنون اليمنيّة من موسيقى ومسرح ورقص، وثبّتتها بأداء جسّد الأصالة، وأحيت تراثًا يمنيًّا غنائيًّا متفرّدًا بإيقاعاته وأنغامه ورقصاته التي لا يملكها في العالم سوى اليمن. الفنون اليمنيّة وفنّانوها بمجملهم تعرّضوا لحرب وطمس وإلغاء وتشويه، من قِبَل جميع تيّارات الإسلام السياسيّ؛ فكلّهم كانوا -وما زالوا- أعداء الفنون والآداب والمشتغلين بها. انحسرت بعض الفنون نتيجة تلك الحرب، لكنّ الشعب اليمنيّ ما زالت فنونه في ضميره بمن فيهم أنا؛ فقد دوّنتُ تلك الفعاليّات منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي، لأنّني كنت خائفًا عليها من الاستهداف والطمس، وهو ما حصل، وستبقى الصورة المتحركة والثابتة حافزًا للأجيال لاستعادة فنونهم الأندر في العالم”.
وتنتشر إلى اليوم صور الغابري على وسائل التواصل لنساء يمنيات رائدات في حقوق المرأة كاشفات وجوههن، وجزءًا من الشعر، لا يرتدين العباية وإنما ملابس معتادة ملونة، وصور أخرى لطالبات في جامعة صنعاء، تبدو الصورة وكأنها من المستحيل أن تكون في اليمن، ولكنها كانت في فترة الثمانينيات.
يقول الغابري: “اختلافات شتى حدثت مؤخرًا؛ فقد كانت المرأة اليمنية في الريف اليمني عامة لا تعرف البرقع أبدًا ولا السواد، كانت تشارك الرجل في كل الأعمال، وتعمل في البيت والحقل. وكانت هناك مجموعات من رجال ونساء تؤدى أهازيج عن الزراعة وتبتكر الكلمات وتغنيها بما يسمى الزجل، تلك الكلمات تناسب تلك اللحظة المناسبة للموسم وتجلب الهمة، أو بمعنى أدق تحفز على العمل أكثر. وبعد الثورة، كانت المرأة في المدن متحررة من قيود الأئمة التي فرضت عليها؛ فكانت في المسرح والمصنع، وكانت تقود الدراجات النارية والسيارات، وكانت تشارك الرجل في الدفاع عن الثورة أثناء حصار السبعين”.
ويرى قائد غيلان، أن الغابري يمتلك ذكا اجتماعيًا حادًا مكّنه من التقاط العديد من الصور التي ما كان لغيره أن يحصل عليها؛ فنحن نعرف أن أصعب شيء تطلبه من المرأة الآن هو السماح لك بتصويرها؛ فما بالك بتلك المراحل التاريخية! ومع ذلك استطاع أن يوثق الكثير من الوجوه والأزياء اليمنية التي أصبحت الآن شاهدًا تاريخيًا على الحياة الثقافية والاجتماعية في اليمن”.

ويضيف: “هنالك من يريد أن يشوّه ويزوّر التاريخ اليمني القريب، بادعاء أن ملابس وأزياء المرأة اليمنية الحالية هي عادات وتقاليد وقيم المجتمع اليمني، وكان لتلك الرسائل السلبية وغير الصحيحة أن تُمرَّر لولا الوثائق البصرية التي التقطتها عدسة الغابري، كشهادة تفضح تلك الادعات أفضل من أي كتاب يتناول الظاهرة أو القضية”.
على الرغم من كل هذا التاريخ مع الفوتوغرافيا؛ فالغابري هو أحد مؤسسي نقابة الصحفيين في شمال اليمن عام 1976م، وكان عضوًا نشطًا؛ حيث كتب عدة مقالات عن الفنون والآداب وتحقيقات صحفية متنوعة. ونُشر للغابري رواية “بيت الزوبقي” في مصر عن دار “عناوين بوكس”، ويعمل حاليًا على رواية بعنوان “أرخبيلات أسعد”. كما حصل على عدة جوائز؛ منها جائزة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ودرع وشهادة تقدير من الدكتور والشاعر عبد العزيز المقالح، وشهادة تقدير وجائزة من وزارة الثقافة اليمنية عام 2008، بالإضافة لعدة جوائز وشهادات تقدير من منظمات محلية ودولية؛ منها جائزة سفير السلام من منظمة “ثري تراكس” عام 2023م .
عندما اختفت دروس الموسيقى في شمال اليمن منذ التسعينيات من القرن الماضي، تغيرت اليمن وزاد التطرف والتعصب الديني. تُظهر صور الغابري فتيات يمنيات يحملن أدوات موسيقية ويرتدين الزي المدرسي؛ قميصًا أبيض وتنورة طويلة، تبدو الصورة غريبة في زمننا هذا.
ويختم المصور اليمني حديثه قائلًا: “مكسبي الكبير هو حبّ الناس لما أنشره لهم؛ فقد اخترت طريقًا أرضى عامّة الناس بمختلف شرائحهم. أبرزت تاريخ اليمن الجميل، ووثّقت أبناء وبنات اليمن في جميع شؤون حياتهم، وهذا الحبّ أعتز وأفتخر به، وأبادلهم نفس المشاعر، وأنصح مستغليّ الفنون كافّة بأن ينحازوا للشعب، لأنّ الشعب هو الملهم وهو الباقي، وهو مصدر الإلهام والوطنيّة.. لا تعيروا انتباهًا للسياسة والسياسيّين؛ فإرثكم وتاريخكم الزاخر بالجمال هو الأبقى”.