غادر محمد مرعي* 37 عامًا، مسقط رأسه في دولة العراق هو وعائلته عام 2008 ليقيم بمدينة حمص في سوريا للعمل في ميكانيكا السيارات، لم يعلم أنه سيقع هو وأفراد من عائلته في يد النظام السوري ليسجن 3 سنوات، ويصدر ضده حكما بالإعدام بتهمة النيل من هيبة الدولة، وتنفيذ عمليات إرهابية أدت لاستشهاد عناصر من الجيش العربي السوري، رغم عدم مشاركته في أي أحداث مؤيدة أو معارضة للنظام السوري حسب قوله؛ فضلًا عن اعتقال شقيقه وعمه على يد قوات نظام بشار منذ عام 2013، وإلى الآن لا تعلم عائلتهم عنهم شيئًا.
تعذيب ممنهج
يقول محمد في حديثه لـ”مواطن“: “حينما اندلعت الثورة السورية، لم أتمكن من مغادرة البلاد لأعود إلى العراق، نظرًا لحجز جواز السفر الخاص بي بإدارة الهجرة والجوازات بسبب عدم تجديد الإقامة، بينما حصلت على وثيقة رسمية من السفارة تتيح لي عبور الحواجز، وفي عام 2013 اعتقلت قوات نظام الأسد شقيقي وعمي معًا، وإلى الآن لا نعلم عنهم شيئًا، قمت ببيع كل ما أملك لأسدد مليون دولار لسماسرة يعملون مع قوات النظام في سبيل الوصول لأي معلومة تخصهم دون فائدة؛ في عام 2014 فوجئت بقوات الأمن السوري تقوم بالقبض عليّ عند أحد الحواجز الأمنية بمدينة حمص دون أن أعلم ما تهمتي، ليتم سجني ثلاثة أعوام تعرضت خلالها لشتى أنواع التعذيب، هددوني بأهلي ووصلت من الرعب لدرجة أن قلت لهم “شو تريدون أقول أنا حاضر”. كانوا يعذبوننا بوسائل مقززة؛ منها وضع فأر في علبة دهان ساخنة ثم تًقلب على ظهر السجين فيأكل الفار الملسوع من سخونة النار جسده. تنقلت خلال تلك الفترة بين سجن صيدنايا وأفرع سجون فلسطين، وظلت أسرتي لمدة عامين تعتقد وفاتي بعد أن أبلغوا بذلك من قبل أفراد أمن ليقيموا لي العزاء، علموا حقيقة وجودي على قيد الحياة في العام الثالث من سجني بعد أن خرج أحد زملائي ليتولى إبلاغ أسرتي بوجودي حيًا”.
يضيف محمد: “لم يفرق نظام الأسد بين المعتقلين على حسب دياناتهم ومعتقداتهم؛ فقد وقع الجميع ضحايا لنظام فاشي، عانيت من مشكلات صحية بالكبد والبنكرياس والأمعاء جراء تعذيبي المتواصل على يد قوات الأمن، أُصبت بفتح بالجمجمة بطول 9 سنتيمترات وكسر بالحوض وخلع بالأكتاف، حرقت في مناطق متفرقة في اليد والظهر؛ فضلًا عن الصعق الكهربي بالمناطق الحساسة، وتنقلت بين الحجز الانفرادي والجماعي”. يتذكر محمد فترة حجزه الـ7 أشهر بصيدنايا قائلا: “الوجبة الموزعة علينا كمساجين في سبيل أن تبقينا على قيد الحياة كانت أحيانا زيتونة أو اثنتين لكل سجين”.
أحكام عشوائية وسماسرة
بحسب “مرعي”؛ فقد عُرض على قاضٍ واحد طوال فترة اعتقاله، والذي كان يعرفه جيدًا بحكم إقامته وعمله في سوريا لسنوات، يتذكر تفاصيل الحديث بينهما قائلًا: “قال لي محمد عندك حسن سير وسلوك من الأفرع الأمنية، لكن مضطر أوقفك لصدور حكم إعدام ضدك من محاكم الميدانية والإرهاب، وحكم مؤبد من محكمة مدنية”. يضيف: “رغم دفاعي عن نفسي ونفي علاقتي بأي أعمال إرهابية؛ فأنا مجرد مغترب عايش في سوريا، إلا أنني ظللت مسجونًا لثلاثة أعوام أتنقل من سجن للآخر وأعذب بصورة دورية؛ ما دفعني لسداد 600 ألف دولار لسماسرة يعملون لصالح الأجهزة الأمنية كي يُستبدل القاضي بآخر ويصدر حكمًا ببراءتي، خرجت من المعتقل عام 2017 لألتقي بوالدتي لآخر مرة قبل أن تموت بالسرطان حزنًا علي ما تعرضت له أنا وشقيقي، منذ خروجي وأنا أتلقى العلاج النفسي والجسدي إلى الآن، بتّ لا أستطيع الوقوف لفترة طويلة أو التحرك بسبب إصابات الركبة”.
ووفقًا للإحصاء الذي أجريناه عن الفترة من 2011 إلى 2020؛ فقد دخل سجن صيدنايا أكثر من 37 ألف شخص، لم يخرج منهم سوى 7000شخص؛ أي تم إخفاء أكثر من 30000 شخص حتى نهاية 2020
يختتم محمد حديثه قائلا: “حسبي الله ونعم الوكيل في كل من عمل في ذلك وتسبب في تدميري أنا وعائلتي، عمري وشبابي راحوا، بت غير قادر على العمل، ودفعت مليون دولار رشاوى لسماسرة يعملون لصالح الأمن؛ في سبيل الوصول لمعلومات تخص شقيقي وعمي الذين تم اعتقالهما دون فائدة، لأتمكن من العودة أنا وأسرتي إلى العراق.
معتقلون خليجيون
لا ينسى “علي” فترة احتجازه التي استمرت 17 يومًا بمخفر شرطة جرمانا خلال 2024 قبل سقوط نظام بشار الأسد بأيام، يقول: “توجهت للمخفر كي أشتكى على حدا تعرض لي وعايز يشلحني؛ فوجئت بهم يسجنوني أنا، أما المشكو في حقه فلم يتعرضوا له لأن شقيقه يعمل بالمخفر، خلال تلك الأيام تزاملت مع مساجين فلسطينيين وأردنيين ولبنانيين وسعوديين، شاهدت أشياء تشيب لها الرؤوس، وأطفالًا أعمارهم 10 سنوات سجنوا بتهمة سرقة بسكويت. بعد ذلك قال لي القاضي أثناء عرضي عليه “على شو جايبينك؟ مو عندك أي تهمة، على شو سجنوك 17 يوم؟”، لأحصل عقب ذلك على إخلاء سبيل”.
اطلعت “مواطن” على كشوف لمساجين كُثُر من السعودية والعراق ولبنان اعتقلوا في سوريا من منتديات ومجموعات إلكترونية خاصة بالمعتقلين، إلا أننا لم يتسن لنا التحقق من مواقع اعتقال هؤلاء أو التهم الموجهة إليهم.
رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا
تأسست رابطة “معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” عام 2017 من قبل ائتلاف للناجين منه والضحايا وعائلاتهم، وتسعى الرابطة لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة للمعتقلين، بسبب رأيهم أو نشاطهم السياسي، وتهتم بشؤون المعتقلين والمختفين في سجن صيدنايا، وتعمل على توثيق أعدادهم ومناطقهم وتاريخ فقدانهم والجهة المسؤولة عن اعتقالهم، كما تسعى الرابطة إلى التواصل مع أسر المفقودين وتقديم الدعم المعنوي لهم وإيصال صوتهم، كما تعمل على شرح قضية المعتقلين والمفقودين أمام الرأي العام؛ المحلي والدولي، والتعاون مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية للقيام بتحقيقات حول قضايا المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا.
يقول رياض أولر، المدير المشارك وأحد مؤسسي الرابطة في حديثه لـ”مواطن”: “أسسناها في 2017 من قبل ناجين من معتقلي سجن صيدنايا في تركيا، نعمل على كشف مصير المغيبين ودعم الناجين/ات وأسر المفقودين/ات من كافة أماكن الاحتجاز السورية، وليس صيدنايا فحسب، وإيصال صوتهم للعالم ومناصرة قضية الاعتقال. نحن نعتني بكل الناجين/ات الذين تم اعتقالهم في سوريا وكذلك أهالي المفقودين/ات باختلاف جنسيات الضحايا.
30 ألف مختفٍ في صيدنايا
يضيف “أولر”: “قمنا بتأسيس قاعدتي بيانات، اعتمدنا في إحداهما على التوثيقات والمقابلات الشخصية مع الناجين منذ عام 2021. أدرجنا كافة أماكن الاحتجاز وليس صيدنايا فحسب، وقاعدة البيانات الأخرى كانت لأهالي المفقودين/ات، وقمنا بالتوثيق من خلال المقابلات؛ حيث أجرينا أكثر من 4000 مقابلة. ووفقًا للإحصاء الذي أجريناه عن الفترة من 2011 إلى 2020؛ فقد دخل سجن صيدنايا أكثر من 37 ألف شخص، لم يخرج منهم سوى 7000شخص؛ أي تم إخفاء أكثر من 30000 شخص حتى نهاية 2020 “.
"تركي" تحولت رحلة دراسته لاعتقال 21 عامًا
رياض أولر المدير المشارك وأحد مؤسسي رابطة معتقلي صيدنايا، هو نفسه كان نزيلًا في السجون السورية. رياض أولر – تركي الجنسية- اعتقلته قوات النظام السوري في عام 1996، بعد أن سافر إلى هناك لدراسة اللغة العربية بصحبة زوجته، ليمضي 21 عامًا في السجون السورية. أفرج عنه في ديسمبر 2016 بعد أن تنقل ما بين سجن صيدنايا والمخابرات السياسية، أما زوجته فاعتقلت لـ6 أعوام ونصف العام، يحكى تفاصيل اعتقاله لـ”مواطن” قائلا: “ظللت معتقلًا دون محاكمة على مدار 6 سنوات ونصف السنة، تم ترحيلي بعدها إلى المحكمة، أصدر القاضي حينها أحكامًا بالإعدام والمؤبد؛ فتحولت رحلة دراستي لرحلة اعتقال، علمت بعد 15 عامًا التهمة الموجهة لي؛ وهي التخابر على سوريا لصالح الدولة التركية، ضاعت سنوات عمري في تهمة لم أرتكبها، وتم إخفائي قسريًا 15 عامًا، لا تعلم أسرتي عني شيئًا كلما سألوا عني قيل لهم “ما نعرف هدا الاسم مانو موجود”.
يضيف أولر: “توقعت عائلتي وفاتي خلال تلك الفترة، لم أتمكن من إرسال رسائل لهم إلا بعد 15 عامًا. رأيت في السجن الكثيرين من الدول العربية كالعراق وفلسطين والأردن وحتى من دول الخليج.
لا ينسى أولر ما تعرض له من انتهاكات قائلا: “تعرضت لانتهاكات جسدية ونفسية وجنسية، أول عامين تعرضت لانتهاكات متواصلة ليل نهار، نقلوني لغرفة مظلمة تحت الأرض، لم يتركوا وسيلة تعذيب إلا وابتدعوها، بعد خروجي حاولت أن أعالج حالي بحالي عن طريق الفن؛ فضلًا عن عملي المتواصل لدعم قضية المعتقلين/ات والمفقودين/ات وذويهم”.
شبكة المبتزين
في ديسمبر 2016 سلمت السلطات السورية أولر للسلطات التركية على الحدود بين البلدين، ليجد نفسه متوفي في الأوراق الرسمية التركية، عانت أسرته كحال أسر المعتقلين/ات والمفقودين كافة. يقول أولر في هذا السياق: “عاقب النظام العائلات مثل أبنائهم/ بناتهم المعتقلين بعدم تصريحه بمعلومات تخصهم؛ فضلًا عن الابتزاز المادي من قبل شبكات المبتزين؛ حيث مولت آلية الحرب في سوريا من وراء المعتقلين/ات والمفقودين/ات وأسرهم، جنى المبتزون ملايين الدولارات، لدرجة أن النائب العام العسكري بالمحكمة الميدانية العسكرية صار “ملياردير” من وراء جمع المبالغ المالية من أسر المعتقلين/ات، ليغير وصف الجرم، أو يطلعهم أو ينقلهم لمكان آخر، وما شابه ذلك .
يكشف “أولر” عما قامت الرابطة بإحصائه، وما قام أهالي المفقودين في سوريا بدفعه لشبكة المبتزين قائلاً: “تخطت الـ 900 مليون دولار خلال الفترة من 2011 إلى 2020، وتتكون تلك الشبكة من “رجال أمن، شبيحة، محامين، قضاة ومعتقلين سابقين”، امتلك هؤلاء خط تمويل استطاعوا من خلاله نقل الأموال من أوروبا إلى سوريا، وذلك بعلم النظام السوري الذي شجعهم على ذلك؛ خاصة وأن قصص الاختفاء القسري كانت أحد مصادر تمويل الحرب على حد قوله.
منذ بداية الثورة، أقامت حكومة النظام المحاكم التي سميت "محكمة الإرهاب"، وهي محاكم استثنائية عملت على إصدار محاكمات سريعة ميدانية ودون تدقيق، وكان المحامون الذين يعملون بها يتعرضون للابتزاز، ومن هؤلاء من ابتز الناس، كما كان القاضي يبتز الأهالي؛ ما أدى إلى إفقار أهالي المعتقلين/ات وبيع ممتلكاتهم على أمل الحصول على أمل لخروج أبنائهم
وفيما يخص الأطفال المعتقلين يقول أولر: “كان يتم اعتقال النساء وأطفالهن، وفي حال كانت المرأة حاملًا وولدت داخل المعتقل، كان يتم ترك الطفل لعمر محدد، وعقب ذلك إما أن يسلم لدار أيتام أو لعائلته. أما إذا اعتقل الطفل بمفرده يعاقب بقانون الطفل”. يضيف: “نسعى حاليًا لكشف مصير المفقودين؛ حيث تشير التوقعات إلى أن تعدادهم يتراوح بين الـ200 و300 ألف شخص. منذ سقوط النظام وتنكشف مقابر جماعية جديدة، لكن هذا الأمر يحتاج لعمل جماعي وتقنيات ودعم دولي حتى يتم التعرف على الجثث الموجودة لمين تابعة، نسعى للعمل في المدن السورية المحررة حديثًا ضمن مراكز دعم الناجين/ات، بتأهيلهم ودمجهم في المجتمع، وأن نكون مع أسر المفقودين/ات خطوة بخطوة ودعمهم حقوقيًا ومعيشيًا”، مطالبا بالمحاسبة عن طريق المحاكمات الوطنية السورية العادلة، وأن نرى محاسبة المنتهكين.
من جانبها تقول رهادة عبدوش، محامية وناشطة مدنية في حديثها لـ” مواطن”: “منذ بداية الثورة، أقامت حكومة النظام المحاكم التي سميت “محكمة الإرهاب”، وهي محاكم استثنائية عملت على إصدار محاكمات سريعة ميدانية ودون تدقيق، وكان المحامون الذين يعملون بها يتعرضون للابتزاز، ومن هؤلاء من ابتز الناس، كما كان القاضي يبتز الأهالي؛ ما أدى إلى إفقار أهالي المعتقلين/ات وبيع ممتلكاتهم على أمل الحصول على أمل لخروج أبنائهم”. وتضيف: “تلك المحاكم استثنائية غير نظامية، ولا تعمل وفق القوانين السوريّة فيما يتعلق بأصول المحاكمات، وبالنسبة للاتهامات فقد تنوعت ما بين ” الخطف ،القتل والإرهاب وحمل السلاح ضد الدولة وتمويل إرهاب، وإيصال مساعدات غذائية وأدوية للإرهابيين والتعامل مع العدو”. ويقصد بالإرهابيين من يعيشون في المناطق المعارضة.
وفقًا لعبدوش، لا يتم اعتقال الأطفال إلا لأنهم مع ذويهم، ولا يعرف مصيرهم، كما أن الأطفال في المعتقلات ربما تم إنجابهم داخل السجن، وربما جراء حالات اغتصاب، أما الأطفال فوق الـ13 عامًا فكان يتم اعتقالهم بتهم الإرهاب وإيصال مساعدات، وهؤلاء لا يعاقبون وفق قانون الأحداث؛ با وفق قوانين استثنائية بمحكمة استثنائية، ويتم سجنهم وتعذيبهم، ثم يقتلون بعد الـ18عامًا؛ حيث يتم الإعدام للسجناء بحسب حكم قاضي المحكمة، أو السجن المؤبد، هذا ويعترف المسجون بأي جريمة يريدها الضابط المسؤول، لأنه يتعرض للتعذيب الممنهج، ومن بين هؤلاء المعتقلين توجد جنسيات مختلفة؛ لبنانية وأردنية وغيرها، وهناك فرع فلسطين وأفرع أمنية كثيرة، لكن السجن الرئيسي هو سجن صيدنايا، وفي أحسن الأحوال يتم تحويل المعتقل إلى سجن “عدرا”.