قبل سنوات، ومع بداية طفرة السوشيال ميديا، قامت شابة تعمل في مجال التوجيه التربوي بإجراء استبيان عبر فيسبوك لمعرفة رغبة المتابعات لها في حضور مناسبة تنسقها، تشتمل على محاضرة في التربية، ويتخللها عشاء وبعض النشاطات الترفيهية، أبدت أعداد كبيرة من السيدات رغبتهن في الحضور، مع التأكيد على التزامهن بدفع مبلغ محدد ليغطي تكاليف العشاء واستئجار المكان. شاركت السيدة المتابعات بالتخطيط للحفل، وقامت بإرسال رسائل تأكيد لكل من أبدت رغبتها في الحضور قبل يوم من المناسبة، وفي الليلة المعهودة وبينما أنا أتصفح الفيسبوك ليلًا، ظهرت لي السيدة في بث مباشر تبكي بحرقة؛ إذ إنه وبعد كل التكاليف التي وضعتها وكل التأكيدات بالحضور التي أرسلت لها، لم تحضر أية سيدة للمناسبة، وظهرت القاعة فارغة تمامًا والسيدة تعدد خسائرها المالية الكبيرة والمعنوية التي لا تقدر بثمن.
ما الذي يدفع الناس لمثل هذا التوجه اللا إنساني، وهو يجد أن أغلب الضحايا من النساء والأطفال الذين لا يتبقى منهم سوى أشلاء يتم جمعها في أكياس؟ ما الذي يدفع المغرد للاستمرار في النعيق مرات ومرات ولا يشعر بالخجل من نفسه؟
لا يمكن فصل حالة أصحاب حسابات الفتن عن التفاهة السائدة في مجتمعاتنا، لكنها تفاهة خطرة، لا يدرك أصحابها أنفسهم خطورتها، لأنهم لا يملكون الرؤية والبصيرة
بعد عام كامل من الحرب على غزة، وأسابيع على بدء الحرب المفتوحة على لبنان، نجد انقسامًا في الآراء غير مسبوق على وسائل التواصل، وفي حين تظهر بعض الآراء منطقية تحمل فكرًا وتحلل الأزمة من كل جوانبها، تنتشر تغريدات أخرى تبتعد عن الإنسانية والأخلاق، كأن تجد من يصفق لقتل الأطفال ويحتفل بالقاتل، لأن أهدافه تقاطعت معه متناسيًا الأبرياء الذين يسحقون تحت أنقاض منازلهم، والنساء والرجال المدنيين الذين يمكن أن يكونوا إخوة لنا أو أصدقاء، ومتعاميًا عن تاريخ العدو الطويل من الإجرام واحتلال الأراضي وتهجير سكانها.
ما الذي يدفع الناس لمثل هذا التوجه اللا إنساني، وهو يجد أن أغلب الضحايا من النساء والأطفال الذين لا يتبقى منهم سوى أشلاء يتم جمعها في أكياس؟ ما الذي يدفع المغرد للاستمرار في النعيق مرات ومرات ولا يشعر بالخجل من نفسه؟
لا شك أن للعدو جيوشًا من الحسابات الوهمية التي باتت معروفة، وتجدها في أوج نشاطها كلما لاحت في الأفق فتنة بين شعب عربي وآخر، لكن لا يمكن أن ننفي وجود حسابات حقيقية يتم استغلال آرائها المتطرفة ودعمها من قبل من يديرون تلك اللجان الإلكترونية صاحبة الحسابات الوهمية، المتطرفون موجودون في كل مكان، والتطرف أعمى يجعل المرء ينظر من زاويته فقط؛ فهو البشري صاحب الحقوق، وكل الآخرين لا يستحقون الحياة. هذا الدعم الذي يلقاه صاحب الرأي السياسي المتطرف يشعره بالبطولة الزائفة ويكسبه شعبوية وهمية، وهو الذي لا يعرفه أحد على أرض الواقع، شعبوية يتخيلها مجدًا وشهرة، وعندما يرى المغرد أن ما كتبه يحظى بتفاعل، لم تحظ بها تغريدة أخرى له من قبل، يكرر الفكرة، ويزيد عليها ويشعر أنه وجد ضالته أخيرًا، بينما هو يغرق في وحل غبائه ويغرق معه بعض الجهلة الذين يتأثرون بكلمة من هنا وأخرى من هناك.
إذا ما أمعنت في أعداد المتفاعلين مع تغريدات أصحاب الفتن، ستجد الأغلبية تحمل أسماء وهمية “ابن الجبل”، “زهرة الصباح”، “نمر الوادي”.. أعداد كبيرة من الأسماء الوهمية التي قد يكون لها نفس المصدر، وحتى الأسماء الحقيقية الموجودة؛ فالكثير منها لأناس لا يفهمون اللعبة؛ فتجده يعيد تغريدة، وبعد ساعة يقوم بإعادة تغريدة معاكسة في الفكرة، نحن نتعامل مع أشخاص لا نعرف خلفيتهم التعليمية والثقافية؛ خصوصًا إذا كانت التغريدة عنصرية، أو تحمل أفكارًا متطرفة في أي اتجاه؛ فإنها تظهر الجزء المقموع من البشر، والذي غالبًا ما يخجل الإنسان بالتعبير عنه علنًا؛ فيجد في تغريدة يتحمل مسؤوليتها من كتبها بابًا للتعبير عن عنصريته وكراهيته؛ خصوصًا وإن (x) أصبح يخفي التغريدات التي تعجب المغرد؛ فيستطيع أن يضع إعجابًا على أي تغريدة ولا تظهر لمتابعيه.
كل هذا يزيد الشعور بالنشوة عند التافهين العنصريين؛ فيعتقد أنه على الطريق الصحيح ويستمر بلا توقف. بعض هؤلاء لا يظهرون على السوشيال ميديا بشخصياتهم الحقيقية؛ بل ربما لو تعثرت بهم لوجدتهم خجلون يتجنبون الصدام المباشر ويمتهنون الحيادية، لكن عبر الفضاء الإلكتروني تجد شخصياتهم قد اختلفت، يظهرون قساة القلب، حادي الآراء، ولا يمكن فصل هذه الازدواجية عن الرغبة بالتميز والظهور الذي يعاني منها الكثير من الناس؛ خصوصًا في دولنا العربية، هي الرغبة ذاتها، النشوة ذاتها، التي تدفع الفقير لشراء ما لا يحتاجه ليظهر غنيًا، ومدعو الثقافة للتفاخر بمكتباتهم “التي لا يزورها أحد إلا للتصوير”، هي نفس الرغبة التي تدفع شخصًا لنشر آراء حادة تخلق حالة من الفتنة ويحظى هو من خلالها على الظهور الوهمي ويشعر بأهمية.
باستثناء المأجورين، لا يمكن فصل حالة أصحاب حسابات الفتن عن التفاهة السائدة في مجتمعاتنا، لكنها تفاهة خطرة، لا يدرك أصحابها أنفسهم خطورتها، لأنهم لا يملكون الرؤية والبصيرة، يرمي كل منهم قاذوراته وينتشي بالتفاعل، ويظن أنه أصبح بطلاً، بينما لو قام بدعوة كل المتفاعلين مع تغريداته على أرض الواقع، سيفجع بأنه “لن يحضر أحد”.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.