كان وما زال سؤال الهوية مشكلة وموضوعًا جدليًا معاصرًا، والكتابة عنه في سياق اليمن، تعبيرٌ عن حالة شكٍّ مزمنة متعلقة بالمستقبل المنشود، لدولة تضمن تعدد الهويات وتنوعها في إطار هوية وطنية مشتركة؛ الأمر الذي يتطلب قبولًا ضمنيًا بالتمايز في الأعراق والعقائد والثقافات، إضافةً إلى ذلك الاختلاف في الطبقة والنوع والمهنة والدرجة العلمية، والأخلاق والسياسات. واليمن كهوية وطنية مشتركة، تُعد ظاهرة جديدة وقفت أمام تحدٍ كبير، يمثّله مواجهة تراكم تاريخي معبّأ ومشحون بالتناحر والانقسام العقائدي والطبقي والجهوي والمناطقي، خلّف على إثره أزماتٍ وصراعاتٍ ممتدة حتّى اللحظة الراهنة، ولعلَّ المراقب لكثيرٍ من الصراعات في اليمن يعي بأنها عائدة إلى فكرة مسبّقة عن زعم -فرد أو جماعة معينة- السيادة التي تلغي الآخر وتحجبه، وتصنّفه على أساسها، ومعاييرها التي قد يصل بها إلى العنف والإقصاء. فالهوية من الممكن أن تشكّل تناغمًا مع هويات أخرى تفضي إلى جمالية التنوّع والتعدد، أو من الممكن إذا ما اتّسمت بحدّة التفرد أن تنقلب وحشية تجاه الآخر، تنتج تسممًا عامًا، وتجعل الوطن قابلًا للحرب والصراع والاشتعال في أي لحظة.
إن إدراك الهوية عامل مهم لتصوّر الحياة من الداخل وتعاطيها مع الآخرين في الخارج وتصنيفهم، من حيث كونها شيئًا ثابتًا، أو كونها شيئًا يُجرى تشكّله ويُعاد إنتاجه مع صيرورة التاريخ، بمعنى لا يقف التاريخ فيها عند نسقٍ معين؛ بل تتغير وفق الظروف الاجتماعية والثقافية. وهذا الإدراك هو إطار يحدد طرق وآليات التفكير والشعور والعمل، كما يقول عالم الاجتماع (إميل دوركايم)، ترتكز في نسقها على مجموعة من المعاني والمرجعيات التي من الممكن أن تخلّف عصبيات أو شعورًا قويًا بالعرق أو الجغرافيا أو الدين، وهذا الشعور إمّا أن ينتج عنه شرّ أو خير حسب السياق، أي من الممكن أن يتنامى مع الشعور بالهوية تضامن وتلاحم شديدان لمن ينتمي إليها، وتحقير وتسفيه، وتنافر مع الآخرين، والذي قد يصل إلى الإلغاء والإقصاء والتهميش والعنف، وأيضًا من الممكن أن يتنامى -مع الشعور بالهوية- مساهمة لتعزيز التعدد والتنوع الخلّاق على مستوى الثقافة والمجتمع، في إطار هوية وطنية أو قومية أو إنسانية مشتركة مع الآخرين.
مرّت السلطة السياسية في اليمن بتحوّلات عديدة، تفرّدت فيها هوية أو تحالف هويات معينة، سعت إلى تهميش وتذويب الهويات الأخرى، أو مارست العنف تجاهها
واليمن متعدد الثقافات والمذاهب كغيره من البلدان، وتنمو فيه العصبيات القبلية والمذهبية والجهوية والمناطقية، وفعلها في الفضاء السياسي في اليمن المعاصر يمكن أن يتمحور على ثلاث كُتل أساسية تتجاذب وتتنافر حسب السياق، منها القديم الممتد، ومنها الذي تشكّل حديثًا وفق تأثيرات عربية وعالمية، ويمكن تصنيفها بمعيار التأثير السياسي كالآتي:
القوى الدينية الإسلامية: وهي التي لها امتداد تاريخي وسياسي وسلطوي طويل على اليمن؛ فالزيدية هيمنت على صنعاء أكثر من ألف عام، وما زالت فاعلة ومؤثرة في صناعة القرار السياسي والاجتماعي وحتى الديني، والحركة الحوثية التي تسيطر على صنعاء منذ أكثر من ثماني سنوات، ما هي إلّا امتداد لهذا النوع من التسلّط الذي يرتكز على معانٍ ومرجعيات تؤكد على حصر السلطة على سلالة بعينها، وهو اعتقاد يضمر في نفوس المنتمين لها بوصفه حقًّا إلهيًا لا مساومة فيه، يستدعي الجهاد والحرب في سبيل ذلك، وهو امتدادٌ للتشيع السياسي، وإذ تؤكد الأبحاث مدى تقارب الإمامة الجعفرية والزيدية الجارودية في هذه المسألة وتأثيراتها على الحركة الحوثية في اليمن. والإمامة ليست الشكل الإسلامي الوحيد المؤثر على الفضاء السياسي في اليمن؛ بل حركة الإخوان المسلمين وهي التي تعتبر حركة معاصرة يمثلها حزب التجمع اليمني للإصلاح، وهو الذي تشكّل بعد الشروع في تحقيق الوحدة اليمنية وإعلانها في صنعاء، باعتباره يمثل الهوية الإسلامية في حراكه السياسي في اليمن. وقبل خروج الدستور للاستفتاء في العام (1991م) قال النائب في البرلمان عبد الله صعتر، وهو قيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح عن الديمقراطية بأنها (تؤدي إلى المساواة، وبالتالي سيتساوى المسلم مع النصراني واليهودي، وهذا ما لا يمكن قبوله شرعًا).
القوى التقليدية: القوى القبلية في اليمن تتجاوز فكرة كونها نشاطًا اجتماعيًا خالصًا؛ فلها تأثيرها الواسع على السياسة اليمنية وصناعة القرار. أفرز هذا الأمر حدّة في التمايز الطبقي. وصراعها في اليمن كان على أحقية التسلّط ومشروعيته بوصفه جزءًا من العادات والتقاليد والأعراف اليمنية. ونجد أن القبيلة اليمنية امتلكت السلاح وتقلّدت مناصب كبرى في السلطات التنفيذية والتشريعية. والتركيب الاجتماعي المعاصر للقبيلة اليمنية يتناتج فيه التنافر الطبقي والفئوي بين الأفراد، وتُحتقر فيه بعض الأنشطة والأعمال اليدوية والمهنية، كالجزارين والحلاقين وأدنى المراتب تضم فئتين، وهم (الأخدام) كما يُطلق عليهم، هما فئة مهمشة للغاية، اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا. والأخرى فئة اليهود، وعلى إثر ذلك غادر جلّهم الأراضي اليمنية؛ خصوصًا بعد تزايد خطاب وحالات العنف والإلغاء ضدّهم.
القوى القومية والاشتراكية: قادت هذه القوى -أفرادًا أو أحزابًا- كفاحًا ضد المظاهر الاجتماعية التقليدية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقادت الثورة ضد الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن وضد الإمامة في شماله، وتبنّت الهوية اليمنية كهوية وطنية، وهي امتداد للأمة العربية والإسلامية. ومن بعد نجاح الثورتين على الاستعمار والإمامة، اصطدمتا بالعصبيات الدينية والقبلية والجهوية والمناطقية، التي خلّفت حروبًا أهلية وممارسات عنف عديدة، وخلّفت أزمات وصراعات ما زالت تأثيراتها حاضرة حتى اللحظة الراهنة. والصراع بين القوى التقدمية والتقليدية كان في أشد عنفوانه من بعد تحقيق الثورتين في صنعاء وعدن، وما حرب 1986م وحرب 1994م وحرب 2015م إلّا امتدادًا لهذا الصراع منذ منتصف القرن التاسع العشر في اليمن.
ومرّت السلطة السياسية في اليمن بتحوّلات عديدة، تفرّدت فيها هوية أو تحالف هويات معينة، سعت إلى تهميش وتذويب الهويات الأخرى، أو مارست العنف تجاهها، في شمال اليمن كان الأمر بارزًا؛ فالقوى التقدمية لم تستطع السيطرة على القوى التقليدية القبلية، لأنهما كانتا متّحدتين في الثورة وحاربا معًا ضد الإمامة (المملكة المتوكلية الهاشمية) التي سيطرت عليهم عقب حروب عدّة في بدايات القرن العشرين، ولم تتعامل المملكة مع القبائل بوصفها شريكًا في الوطن بقدر ما كانوا رعايا الإمام. وبعد الثورة تعاقب الرؤساء، وهم من المحسوبين على الجبهة التقدمية والنخبة المثقفة، أمثال السلال والإرياني اللذين كانا يقدمان تنازلات عدّة في سبيل زيادة مشروعية نفوذ القبيلة في السلطة السياسية اليمنية بضغوطات؛ منها ما يصل إلى المطالبة بالاستقالة أو اجتياح صنعاء، والحمدي -فيما بعد- الذي ذهب ضحية نزاعه مع القبيلة اليمنية التي رفضت التنازل عن دورها في صناعة الحدث السياسي؛ فظلّت تمارس السياسة بعده عن طريق حزب المؤتمر الشعبي العام. وبعد الوحدة اليمنية في العام (1990م) وبروز حزب الإصلاح اليمني، انتقل عدد من زعماء القبائل من حزب المؤتمر إلى حزب الإصلاح، ولم يكن ذلك نتيجة للوصول إلى تعددية سياسية مع المرحلة الجديدة إبان الوحدة، بقدر ما كانت حيلة لتوزيع القوات الشمالية ضد الحزب الاشتراكي اليمني الممثل السياسي الرئيس في اليمن الجنوبي.
وفي اليمن الجنوبي لم يكن الأمر يسيرًا؛ فقد ظلّت القوى التقليدية مهيمنة حتى بعد تبني السلطة السياسية في عدن النهج القومي والماركسي بعدئذ، وشروعها في تحقيق أهداف من شأنها القضاء على الفوارق الطبقية بين أفراد المجتمع، وحظر النزعات القبلية والعشائرية، وتشجيع الثقافة الإنسانية وتحرر المجتمع من المفاهيم الفاسدة تأكيدًا على الثقافة الوطنية. وقد وصل بهم الأمر إلى مصادرة أملاك وأراضي الإقطاعيين والسلاطين الذين احتفظوا بأملاكهم إبان السلطنات برعاية الاستعمار البريطاني حينها. ومع ذلك فقد تعاقبت الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية التي اتّخذت أبعادًا أيديولوجية وجهوية ومناطقية، مثّلتها حرب (1986م) التي اختلف فيها الرئيس الجنوبي حينها علي ناصر محمد مع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الحاكم، وامتدت لحرب مناطقية بين الضالع ولحج من جهة، وأبين وشبوة من جهة أخرى، بتعبير قناة (البي بي سي) التي عنونت هذه الحرب بصراع القبائل الماركسية في عدن. وبعد الوحدة اليمنية، اتّخذ النزاع منحىً أيديولوجيًا مع الحزب الاشتراكي الذي انقضّت عنه القوى القبلية والدينية، وامتدت إلى نزاع جهوي بين الشمال والجنوب أسفرت عنه حرب (1994م) التي انتهت بهزيمة لصالح القوى في شمال اليمن، وما زالت الأهداف المنشودة لتحقيق المواطنة العادلة ضمن هوية وطنية مشتركة، عالقة بتحدّيات لها تراكماتها التاريخية التي تلقي بثقلها على الحاضر والمستقبل.
إن الهوية الوطنية جامعٌ مشترك لكل البنى الاجتماعية باختلاف تراكماتها التاريخية التي شكّلتها، واختلافاتها بوصفها جزءًا من المجتمعات الإنسانية، أي أن البنى الاجتماعية القبلية العشائرية الدينية العرقية الطائفية، تشترك وتعيش في إطار قانوني وسياسي واحد، إلّا أن تفاعلها في الحياة السياسية والاجتماعية يتضمن تنازل الكيانات الصغرى على مشروعية حضورها على مستوى السلطة على الفرد أو المجتمع، أو التسلّط بتعبير “هشام شرابي” في نقده للسلطة الأبوية، بمعنى السلطة غير العقلانية التي ترتكز على الطاعة والخضوع، لا الاستقلال الذاتي؛ الأمر الذي يهدد على الدوام مشروعية الكيانات الأخرى أو مساواتها في الحقوق والواجبات والحضور الاجتماعي والثقافي والسياسي، ضمن بوتقة واحدة، وهي الهوية الوطنية المشتركة مع الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والاجتماعية. إن انصهار الكيانات الصغرى ضمن بوتقة الهوية الوطنية المشتركة، يتطلب التزامًا بمشروعية الآخر في الحياة؛ في ممارسة حقوقه المشروعة في المشاركة في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية على حدٍّ سواء، ولا يعني التصلّب والجمود على نمط التفرّد الحاد والإلغاء الجزئي والتام للآخر في إطار الدولة القطرية، إلّا غيابًا عن نمط الحياة الاجتماعية المعاصرة التي يؤطرها نظام يربط الفئات الاجتماعية في نسق من المصالح والأهداف والمسؤوليات العامة.
وإذ تعتبر “اليمننة” كهوية وطنية مشتركة مشروعًا حضاريًا في الجوهر، غير أنه لم يحقق التناغم والتجانس بين الهويات في اليمن ولم يستطع استيعابها؛ الأمر الذي تحوّل إلى صيغة مأساوية أفرزت تناحرًا وتشظيًا وتسممًا على مستوى عالٍ من التعقيد، أي أن هذه الكيانات الصغرى ازداد إحساسها الداخلي بنفسها أكثر من ذي قبل، ولديها ما يكفيها من التعصب الرامي إلى اتّساع البعد بينها وبين هوية وطنية مشتركة.
إن الهويات في اليمن تتصف بطابع معقد وشمولي عميق في ذهنية الفرد وإحساسه الداخلي مع الجماعة؛ فالولاءات المطلقة للكيانات الصغرى أدّى إلى ضعف الإحساس بالانتماء إلى الهوية الوطنية المشتركة التي لا معنى لها في إطار وجود كيانات تُلزم أفرادها بالولاء المطلق والتعصب لأفكارها، واحتكار السلطة والتسلّط وصبغ المجتمع بأيديولوجياتها وأنماطها الاجتماعية؛ الأمر الذي مورس في اليمن من كل القوى التقليدية الدينية والطائفية والمناطقية، حتى التقدمية اليسارية المتعاقبة على السلطة السياسية قبل وبعد الوحدة اليمنية، مما أفرز دعوات انفصالية أو لمزيد من الاستحقاق لهويتها على مستوى القبيلة والجهة والمنطقة، وهي نتيجة طبيعية لفشل السلطات المتعاقبة في تأسيس مواطنة عادلة، وتمكين المشاركة السياسية للأقليات وتشجيعهم على ذلك، وإرساء قانون يقف على مسافة واحدة مع جميع الهويات، يضمن المساواة العادلة ويلتزم الحياد.
إن فشل السلطات المتعاقبة خلق هذا الانسجام والتكامل بين الهويات المتنافرة ضمن الهوية الوطنية المشتركة، أفضت إلى إبراز أصوات رفض لها. وهذا الرفض على مستوى جهوي ومناطقي حاد، وما من حل سياسي يضمن استقرار المنطقة إلّا ويضمن -بالضرورة- تسوية ما أفرزه الفشل من إشكالات معقدة في الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي في اليمن، ويمكن ذكر بعض تمثّلاتها في أربعة نماذج رئيسة وهي كالآتي:
أولًا محافظتا المهرة وجزيرة سقطرى اللتان برز فيهما الرفض القاطع لانضمامهما لإقليم (حضرموت)، الذي كان ضمن مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، بوصفه مشروعًا داعيًا للإقصاء والتهميش والإلحاق والتبعية، وحظيت هذه الدعوات بانتشار واسع، واستطاعت أن تغير الخطاب الرسمي من إقليم حضرموت، إلى الإقليم الشرقي. وإلى الآن لم تكتمل ملامح هذا الإقليم؛ سواء أكان على المستوى الدستوري أو الإداري والسياسي والعسكري. إلّا أن ثمّة ترقّبًا ومحاولات فرض استحقاقات كُبرى لمحافظتي المهرة وسقطرى؛ سواء أكان على مستوى الإقليم الشرقي أو كمحافظتين لهما استقلاليتهما العسكرية والإدارية، سواء على مستوى الدولة اليمنية أو الدولة الجنوبية كمشروع سياسي -سيأتي ذكره آنفًا- واللقاء التشاوري الجنوبي الذي تم عقده في عدن في شهر مايو من عام 2023م والذي بحث سبل تأسيس الدولة الجنوبية؛ إذ اعتمد هذا اللقاء اللغتين المهرية والسقطرية ضمن اللغات الرسمية الوطنية، وإذ تمتاز المهرة وجزيرة سقطرى بخصوصيات ثقافية ولغوية واجتماعية، الأمر الذي جعلهما تكافحان لأجل ألّا يطمس أحدهم هذه الخصوصية أو يذوبها تحت أي مسمى آخر، وهو حقٌّ مشروع وردة فعل طبيعية لفشل الدولة الوطنية في حفظ تعدد الهويات الثقافية وتنوعها.
ثانيًا قضية تهامة الذي بات الحراك التهامي حاملًا لها ساعيًا لانتزاع حكم ذاتي لتهامة، وإذ يرتكز هذا الحراك على مظلومية تاريخية هُمّش فيها التهاميون في المشاركة السياسية على المستوى الوطني، وكذلك على المستوى المحلي في الفترة السابقة إبان النظام السابق، ونصيبه من المشروعات التنموية ضئيل للغاية على مستوى التعليم والصحة والبُنى التحتية، من كهرباء ومياه وطرقات. ورغم أهمية تهامة الجيوبولتيكية وغنى أوديته وثروته السمكية والزراعية، إلّا أنه يعاني من الفقر والجهل والأمية والأوبئة الفتّاكة التي تهدد الإنسان والحيوان، في تهامة الفاقد لأدنى مقومات الحياة الكريمة، ناهيك عن خصوصيته الثقافية والاجتماعية التي لم تلق اهتمامًا من السلطات الوطنية المتعاقبة؛ بل التهميش والطمس والإقصاء، الأمر شكّل وعيًا لدى التهاميين بأن ثمّة مظلومية ولابد من استحقاق أكبر يكافح لأجله الحراك التهامي السلمي، الذي طرح جملة من القضايا، منها نهب تهامة وتجزئتها من قِبل السلطات المتعاقبة قبل الوحدة اليمنية وبعدها، وإذ يؤكد الحراك التهامي نيل استحقاق الحكم الذاتي لإقليم تهامة، والمشاركة الفاعلة في السلطة والثروة، وهو حقٌّ مشروع كما يراه أبناء تهامة للوصول إلى شراكة فاعلة تؤسس لعدالة اجتماعية.
ثالثًا قضية حضرموت التي أصبح لها ثقلها على الساحة السياسية اليمنية، وهي أيضًا ترتكز على مظلومية تاريخية منذ الاستقلال عام 1967م، ومظلومية أخرى بعد الوحدة اليمنية في العام 1990م، مفادها التهميش السياسي والعسكري لأبناء حضرموت، والتعثّر التنموي على مستوى مشروعات البنى التحتية ومشروعات الصحة والتعليم، ونهب لثرواتها النفطية والسمكية، والطمس لخصوصيتها الثقافية وهويتها التاريخية وتذويبها لصالح هوية أخرى، وهذا الطرح ليس حديثًا في الساحة الحضرمية، إنما أصبحت هناك كيانات سياسية وحقوقية ترتكز على هذا الصوت، منها العصبة الحضرمية، وحلف حضرموت ومرجعية قبائل حضرموت، ثم مؤتمر حضرموت الجامع الذي تشكّل من كل الأحزاب والتوجهات السياسية، وخرج بوثيقة بها عدد من المطالبات والقرارات والتوصيات تهدف إلى استقلال حضرموت سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وإداريًا، وتمثيلاً في السلطة الوطنية يراعي مساحتها الجغرافية التي تحتل 36% من مساحة اليمن ويراعي إسهامها في الميزانية الاتحادية. وأخيرًا مجلس حضرموت الوطني الذي تشكّل في العاصمة السعودية الرياض يهدف إلى أن يكون حاملًا سياسيًا لقضية حضرموت. وهناك إرهاصات بأن يحظى هذا المجلس بدعم إقليمي الذي قد يصنع فارقًا في أي تسوية سياسية قادمة. وتُعتبر حضرموت غنية بالثروات النفطية والسمكية، وتمتلك شريطًا ساحليًا ممتدًا، ومنطقة عسكرية لا ينطوي عليها إلّا أبناء حضرموت، وهي المنطقة العسكرية الثانية التي طالب مؤتمر حضرموت الجامع تعميمها على كل تراب حضرموت، ضمن مطالبات الوثيقة الصادرة عنه، وتمتلك إرثًا تاريخيًا وتراثًا ثقافيًا زاخرًا كان مهددًا بالطمس والإلغاء والتذويب. جعلت هذه المعطيات المطالبات لا تقف على استحقاقات سياسية واقتصادية وإدارية وعسكرية ضمن الدولة الوطنية؛ بل اتسعت وامتدت إلى المطالبة بانفصال حضرموت عن صنعاء، التي تحمل مشروع اليمن، وعدن التي تحمل مشروع الجنوب إلى دولة حضرمية خالصة، إلّا أن هذه المطالبة لم تُصبغ بعد في الخطابات الرسمية لهذه الكيانات الحضرمية التي تشكّلت كنتيجة أيضًا لفشل السلطات المتعاقبة للدولة الوطنية لخلق انسجام وتكامل بين الفئات والكيانات والهويات في اليمن.
رابعًا القضية الجنوبية التي تستند على تاريخ دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (1967 – 1990)، وعاصمتها عدن التي دخلت في وحدة اندماجية مع الجمهورية العربية اليمنية وعاصمتها صنعاء في العام 1990م. والوحدة كانت غاية منشودة في دساتير الدولتين منذ استقلالهما عن الإمامة في الشمال والاستعمار في الجنوب، إلّا أنها تحوّلت إلى حالة مأساوية في مهدها الأول، ويرجّح بعض الباحثين أن الوحدة كانت قفزة غير واقعية وحرقًا لمراحل نزاع بين طرفي الوحدة، كان بالأحرى حلحلتها قبل التفكير في الدخول إليها، منها نزاع حدودي ونزاع على مستوى الأيديولوجية، أسفرت عنها حروب واغتيالات ومناوشات عسكرية. ولعلَّ الضغط القومي تجاه الوحدة العربية وسنوات من اللقاءات والمعاهدات والاتفاقيات والنزاعات الداخلية في الجنوب والشمال، والتحولات الخارجية متمثلة بانحسار وضعف الاتحاد السوفييتي، الذي كان الداعم الأول لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أسهم بشكل أو بآخر للهرولة في تطبيق الوحدة اليمنية وإعلانها. ومنذ السنة الأولى والتباينات تتّسع وتتمدد، حتّى أعلن علي سالم البيض في الحادي والعشرين من مايو 1994م، وهو آخر رئيس لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ونائب لرئيس الجمهورية اليمنية، فك الارتباط عن صنعاء وقيام دولة جمهورية اليمن الديمقراطية بحدود ما قبل العام 1990م، وعلى إثر ذلك الخطاب قامت الحرب الأهلية وانتهت في السابع من يوليو 1994م بهزيمة لصالح قوى الشمال التي تعاملت مع الجنوب بمثابة غنيمة؛ حيث استولى بعضُ المشايخ القبليين والعسكريين والنافذين من الشمال، على عدد من السفارات والشركات والمؤسسات والملاعب والمنتزهات والمشاريع الاستثمارية والقطع الأرضية، ناهيك عن تدمير عدد من المصانع الحكومية والخاصة والمختلطة، وتسريح آلاف الأفراد من الجنود في القطاع العسكري والأمني الجنوبي، وآلاف في القطاع المدني وإحالتهم إلى التقاعد الإجباري. وعلى إثر ذلك تأسس عدد من الحركات السلمية والعسكرية؛ منها (حركة موج 1994)، (حركة تقرير المصير – حتم 1995)، (تيار إصلاح مسار الوحدة 1996)، (اللجان الشعبية في المحافظات الجنوبية 1998)، (التجمع الديمقراطي الجنوبي – تاج 1999)، (حركة التصالح والتسامح 2006)، (جمعيات المتقاعدين المدنيين والعسكريين 2007)، (جمعيات الشباب العاطلين عن العمل 2008)، ثم تشكيل الحراك الجنوبي السلمي في العام 2008 بقيادة حسن باعوم، الذي يسعى صراحة لاستعادة الدولة الجنوبية بحدود ما قبل العام 1990م، الذي ظلَّ يحشد لمسيرات حاشدة في كل المحافظات الجنوبية، قابلتها السلطة السياسية اليمنية بالقمع والإرهاب والاعتقال، طالت الكثير من قيادات الحراك الجنوبي. ولم تكتف القضية الجنوبية بكيان واحد حامل لقضيتها؛ فبرز العديد من الكيانات الداعية لفك ارتباط الجنوب عن الشمال، آخرهم المجلس الانتقالي الجنوبي الذي أصبح شريكًا في السلطة الحالية بشكل مؤقت -كما تقول الخطابات الرسمية له- حتى استعادة صنعاء من قبضة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، ورئيسه أحد أعضاء مجلس الرئاسة اليمني. وهو يحمل مشروع بناء دولة جنوبية من المهرة حتّى باب المندب، وهو الكيان الأقوى والأكثر تنظيمًا وتأثيرًا على الساحة السياسية على مستوى الجنوب واليمن بشكل عام. وقد دشّن في شهر مايو 2023م لقاءً تشاوريًا شاركت فيه بعض الكيانات الجنوبية التي اندمج بعضها وتأطّر، ضمن المجلس الانتقالي الجنوبي، وخرج منه بوثيقة عامة مشروع بناء ملامح الدولة الجنوبية التي ينشدها، وعمل على استيعاب اثنين من قيادة المجلس الرئاسي ليصبح ثلاثة من أصل سبعة من مجلس الرئاسة اليمني، ينتمون للمجلس الانتقالي الجنوبي. ناهيك عن وجود تشكيلات عسكرية، عقيدتها الوطنية جنوبية تشكّلت بعد اجتياح عدن من قبل قوات جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح والمحافظات الجنوبية في العام 2015م، واستطاعت بمساعدة قوات التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية السيطرة على المحافظات الجنوبية ومحافظات أخرى، أصبحت في الخطاب الرسمي للسلطة السياسية اليمني تسمّى المناطق المحررة. وإذ تعتبر القضية الجنوبية هي الأكثر تعقيدًا، ومساعي استحقاقية وجودها على الساحة السياسية والعسكرية عالية ومتقدمة، وحلّها يُعتبر رئيسيًا وجوهريًا في مساعي بناء السلام في اليمن. وهي أيضًا نتيجة لفشل السلطة السياسية بعد الوحدة، ووجوب التكافل والانسجام والعدالة في الحقوق والواجبات في الشطرين، لا طغيان طرف على حساب الآخر سياسيًا، وعسكريًا وثقافيًا وتنمويًا.
تعتبر "اليمننة" كهوية وطنية مشتركة مشروعًا حضاريًا في الجوهر، غير أنه لم يحقق التناغم والتجانس بين الهويات في اليمن ولم يستطع استيعابها؛ الأمر الذي تحوّل إلى صيغة مأساوية أفرزت تناحرًا وتشظيًا وتسممًا على مستوى عالٍ من التعقيد، أي أن هذه الكيانات الصغرى ازداد إحساسها الداخلي بنفسها أكثر من ذي قبل، ولديها ما يكفيها من التعصب الرامي إلى اتّساع البعد بينها وبين هوية وطنية مشتركة.
إن هذه التمثلات، ما كان لها أن تظهر لولا فشل السلطة السياسية في اليمن في إرساء مداميك مؤسسات ديمقراطية، رغم إقرارها القانوني والدستوري بالمواطنة والتعددية السياسية والفصل بين السلطات، ولكن عدم نضج مقومات الديمقراطية لتفعيلها في المشاريع السياسية، ليس فقط في اليمن؛ بل في كثير من الدول العربية، حال بينها وبين التفعيل الحقيقي لها، وقد أشار المفكر محمد عابد الجابري لهذه الفكرة بقوله: (أُجلت الديمقراطية في الوطن العربي مرتين: مرة أثناء كفاحها من أجل استقلالها، ومرة بعد حصولها على الاستقلال مباشرةً…) وهذه الإشارة تطرق مسألة في غاية الحساسية، وهي كبح أفق التحوّل الديمقراطي في مؤسسات الدولة اليمنية بدافع استكمال أهداف الثورة للاستقلال، والاستقرار وبناء الدولة، دون الالتفات إلى ضمانات تحقيق ذلك وتفعيله في مؤسسات الدولة، مما عمّق بدوره انحسار التحوّل الديمقراطي، وامتدت مساعي الاستقرار دون أدنى إشارة لاكتمال المرحلة للبدء بالتحوّل والانفتاح السياسي.
ولعل هذه المسألة الحساسة تم التنبه لها في مخرجات الحوار الوطني الذي انعقد في صنعاء؛ حيث بلور عددًا من المبادئ كضمان لتنفيذ مخرجاته التي حاولت حلحلة أزمات عدّة خلفها النظام السابق؛ منها الاستفراد بالحكم وتهميش الكيانات والفئات الأخرى والمبادئ التي بلورها الحوار الوطني، تُعتبر آليات حديثة في الإصلاح للمنظومة السياسية، منها الشراكة الوطنية الواسعة تحت مبدأ (شركاء في وضع الأسس، شركاء في التنفيذ)، وعملية الانتقال السياسي تأتي على أساس التوافق بين الكيانات، وإرساء نظام الحكم الرشيد، والعمل على رفع ثقة المواطن بالعملية الانتقالية وتشجيعه للمشاركة السياسية. إلّا أن هذه المساعي اصطدمت باجتياح جماعة أنصار الله (الحوثيين) لصنعاء، والسيطرة عليها ودخول اليمن في حرب منذ 2015م حتى اللحظة الراهنة، الأمر الذي عطّل بدوره العملية السياسية برمّتها، وعمّق الأزمة اليمنية، وعرقل بناء هوية وطنية عامة، وهو ما يستدعي التدخل الدولي اللازم لإلزام كل الأطراف بالتنازل والوصول لتوافق وطني بين كل القوى والكيانات السياسية، وتدعم العملية السياسية والانتقال من حالة الحرب إلى المصالحة وبناء الدولة الوطنية، وفق أسس ديمقراطية لا مركزية، لضمان فعل التنمية لكل الأقاليم أو المحافظات، وحفظًا لخصوصياتها الثقافية والاجتماعية ضمن أسس ومبادئ تعزيز وحفظ تعدد الهويات في اليمن، وتعزز المشاركة السياسية لكل الفئات.
إن الهوية الوطنية المشتركة في اليمن تتطلب -بالضرورة- تحوّلًا ديمقراطيًا لتبدأ فاعليتها في ثقافة المجتمع اليمني وتحضّره، إلى مستوى التجانس والتكامل، ورغم الصورة القاتمة للسياسة اليمنية في ظل الحرب، والتشظي والتفكك وانهيار الدولة، إلّا أن الطريق للاستقرار هو بإرساء هوية وطنية مشتركة تتساوى فيها كل طبقات المجتمع وفئاتهم، بغض النظر عن عرقهم ومهنهم وأشكالهم؛ الأمر الذي يتطلب وعيًا لدى الساسة، وفعلاً سياسيًا متحضرًا، ومؤسسات دولة تنتهج الديمقراطية، تراعي مصالح الوطن لا الفئات والكيانات الصغيرة بداخله، الأمر الذي يحتاج إلى عمل داخلي يمثّله صفوة سياسية واعية تدير عملية التحوّل، وإرساء مداميك الهوية الوطنية المشتركة تحقيقًا للمواطنة العادلة بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن مدى تبايناتهم وخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية والدينية، وإبعاد كل القوى الشمولية المؤثرة التي كانت سببًا في الأزمات والمآسي والصراعات المتتالية، وعمل خارجي في غاية الأهمية، وهو الدعم الدولي الشفّاف الذي يُلزم كل الأطراف بالتنازل، والتخفيف من حدّة التفرّد بالسلطة، والتعهد باحترام التعدد في ظل هوية وطنية مشتركة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.