أتذكر بداية الأحداث في سوريا في ربيع 2011، حين انتشرت حواجز أقامها شباب متطوعون على مداخل القرى، وحتى في عمق جبال الساحل السوري، لكن لحماية القرى ممّن؟ لم أكن أعرف الحقيقة. فـ”الإرهابيون”، كما تصفهم السلطة، لم يكونوا حينها سوى متظاهرين يحلمون بمسيرة صغيرة في ساحات قراهم ومدنهم البعيدة، ولم تكن فكرة التسليح قد وُلدت بعد. والمثير أن هذه الحواجز اختفت تمامًا مع اشتعال الجبهات! وحدها السلطة تعرف السبب؛ فقد قدّمت للبيئة الحاضنة طبقًا دسمًا من الخوف، ولم تعد بحاجة إليه بعد أن اندلعت الحرب. فالخوف في حياة السوريين قديم جدًا ومتجدد، لا تكاد تخلو منه جزئية من حياتهم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية.
جرعات الخوف
أولى تجاربي مع الخوف “السوري” تجرّعتها طفلًا، كذكرى منامٍ غامضة. دخل والدي آنذاك إلى الغرفة وهو يحدّث أمي عن شخص خطير ومريض، ثم أردف قائلًا: “من يدري، ربما مات”. سألتُ أمي ببراءة: “من مات؟”؛ فانتفضت بجزع مضاعف: “لا تقل مات، لا أحد مات!”. لم تكن خشيتها من موت ذلك الشخص بحد ذاته؛ بل من إدراكي -كطفل- لمعلومة قد تودي بنا إلى التهلكة. انعكس خوفها عليّ كظلّ ثقيل لم أفهمه وقتها. عرفت لاحقًا أن ذلك الشخص كان حافظ الأسد، وأن الحديث كان عن صراعه مع شقيقه على السلطة.
للخوف طبيعة كيميائية أو كهربائية؛ فهو يحب الاستقطاب. فالمُخيف دومًا خائف، والسلطات التي تُرعب شعوبها تعيش في رعبٍ منها. لهذا تُنفق الميزانيات على أجهزة العسس، لا لحماية الأوطان.
ثاني وجبات الخوف كانت أشد رعبًا؛ ففي منتصف الثمانينيات ومع بدايات تشكّل وعيي، سمعتُ للمرة الأولى عن “الخونجية” -الإخوان المسلمين- وكانت أحداثهم قد شارفت على نهايتها. قيل لنا إنهم أشخاص مرعبون، يقتلون ويفجرون ويختفون، ويستهدفون العلويين تحديدًا. في الفترة ذاتها، تصاعدت موجة العمليات “الاستشهادية” في جنوب لبنان، وعرفتُ أن جيشنا يقاتل الإسرائيليين هناك. تساءلتُ حينها: لماذا نحارب في لبنان؟ لكن الإجابة جاءت أكثر قسوة؛ فقد أدركتُ أن عدونا الخارجي أقوى منا، وغالب علينا.
في المدرسة وقبل أن أتعلم القراءة والكتابة، تعلمتُ أن الرئيس ليس مجرد شخص؛ بل هو كائن فوق البشر، علينا أن نحبه؛ بل نقدسه، وطبعًا أن نخافه. عرفتُ أيضًا أن هناك من يراقبون كل تصرفاتنا، يسمّون “الأمن”، وأن -حتى- طالب الابتدائي عليه أن يخشى غضبهم!
مع تقدمي في السن ظهر أعداء جدد: إسحاق شامير، صدام حسين، وميشيل عون، مجرمون يتآمرون على بلدنا، والسيد الرئيس لهم بالمرصاد. لكن لسببٍ ما، لم أرَ صورهم قطّ على الشاشة السورية؛ فتصورتهم وحوشًا على هيئة دراكولا، يشربون الدم ويأكلون الأطفال.
لاحقًا، عثرتُ على صورة “شامير” في مجلة أجنبية أحضرها زميل، كان واقفًا إلى جانب “إسحاق رابين”. بدا انطباعي الأول عن شامير عجوزًا قبيحًا كريهًا، أما رابين فعجوز وسيم، أما صدام حسين فقد رأيتُ صورته في مجلة عند طلاب الجامعات، بدا مهيبًا قويًا أكثر من رئيسنا. أما ميشيل عون؛ فصادفته في إحدى المحطات اللبنانية؛ مجرد كهل قصير عصبي، يشبه أحد الجيران! وحين رأيتهم كآدميين زال أغلب خوفي منهم.
قصص الخوف عند السوريين لا تُحصى، لكن أبشعها كان خوفهم من بعضهم بعضًا؛ على سبيل المثال، من جاء من الساحل ليعمل في الداخل كان مصدر قلق دائم؛ فهناك احتمال أن يكون مخبرًا، وحتى إن بدا لاحقًا فوق الشبهات، سيظل مخيفًا؛ فلا بد أنه يعرف أشخاصًا في المخابرات، و”يده طايلة”.
للخوف طبيعة كيميائية أو كهربائية؛ فهو يحب الاستقطاب. فالمُخيف دومًا خائف، والسلطات التي تُرعب شعوبها تعيش في رعبٍ منها. لهذا تُنفق الميزانيات على أجهزة العسس، لا لحماية الأوطان؛ بل لحماية السلطة من شعوبها الخائفة، ولجعلهم مثلها؛ خائفين مخيفين.
الخوف في سوريا قديم، ضارب بجذوره في التاريخ؛ فالطوائف الإسلامية الصغيرة التي سكنت أعالي الجبال لم تكن معزولة عبثًا؛ بل كان الخوف عاملًا أساسيًا في تشكيل هويتها العقدية. بدأت بدعواتٍ سرية وأحيانًا علنية، لكن قسوة القمع دفعتها نحو الباطنية، حتى تكرست هذه الصفة كجزء أصيل من كيانها. خوف السلطات من ولاء هذه الطوائف لم يكن أقل حدة؛ فمنعت أبناءها من التجنيد، وابتكرت ضريبة “الدينار” كأداةٍ لضبطهم وإبقائهم تحت السيطرة.
الخوف من المستقبل كان شريكًا مؤسسًا للحياة السياسية السورية؛ فالأحزاب العقائدية المرتعبة من المجهول، لجأت إلى الماضي متوهمةً أنها ستصنع منه المستقبل. اجترّت قصص “المستبد العادل” وأحلام الإمبراطوريات، ثم جعلت من هذه الهرطقات معيارًا لتقدم الشعوب، وكأن التاريخ يمكن أن يكون بديلًا عن المستقبل بدلًا من أن يكون درسًا له.
تعدد مظاهر الخوف
للخوف أشكال كثيرة تتجاوز السياسة. سمر، الطالبة المتفوقة في اللغة العربية، التي توقع لها أساتذتها مستقبلًا باهرًا كأديبة، منعها الخوف من دخول قسم الأدبي -“ماشي حالها علمي”-؛ فاختارت معهدًا متوسطًا، ثم “انسترت”. أما “حسن”، عبقري الرياضيات؛ فقد تفوق في البكالوريا، وحين فكّر بدخول كلية العلوم، كادت أمه تموت رعبًا على مستقبله. ربما كانت على حق؛ فأي مستقبل له في سوريا؟ حتى لو صار أستاذًا في كلية العلوم، كيف يقارن بطبيب “عم يقص العملة قص”؟
مثل هذه القصص لا تُحصى، شباب رياضيون، رسامون، مغنون، جميعهم تخلوا عن أحلامهم بدافع الخوف. الدول الاستبدادية، -ومنها سوريا الأسد- لطالما أحبت السوري الخائف؛ فصنعت له أسلوب حياة متكاملًا بتراتبية واضحة، أوضح تجلياتها في معدلات القبول الجامعي: أفضل الطلاب للطب، ثم الصيدلة؛ فالهندسات. يليهم المعلمون والحقوقيون، أما ذيل القائمة؛ فقد احتله الضباط!
هذه التراتبية لها سقوف واضحة، وطئت بثقلها الجميع، لكنها مستقرة ومريحة، كقفصٍ محكم الإغلاق. إنها تكره المغامرين، لا تكتفي بتهميشهم بل تتلذذ بفشلهم؛ بل وتسخر منهم. والمفارقة أن هذا القمع لا يأتي من السلطة وحدها؛ بل من المجتمع الخائف نفسه.
تخيلوا شابًا سوريًا يدرس في كلية عليا، ثم يتركها ليؤسس مشروعه الخاص، كما فعل مارك زوكربيرغ! المجتمع نفسه سيعتبره مجنونًا قبل أن تسحق أحلامه بيروقراطية الدولة، ومتاهات الموافقات الأمنية.
الخوف أيضًا هو رفيق الكسل؛ فهو يقدم أسلوب حياة مريحًا خاليًا من المخاطر أو المغامرة أو التغيير. سألني رجل يومًا ما؛ في الأربعين من عمره عام 2000 عن عمر بشار الأسد، وبعد أن أجبت، قال: “منيح، يكفيني الموت”. تمنيه أن يبقى بشار في الحكم عقودًا يعكس خوفه من أي تغيير، حتى لو كان التغيير يفتح أبواب الأمل.
الإنسان الخائف دومًا هو السند الخفي للطغاة؛ فعدد الخائفين كبير، وأغلبهم لا يستفيدون من النظام، وهذا يجعل أصواتهم مسموعة؛ فيظهرون وكأنهم حكماء أصحاب الصوت الهادئ. في المقابل، نجد أزلام النظام العصبيين أصحاب الصوت العالي، الذين يبدؤون حكمتهم عادةً بـ”أين البديل؟”، وقد يستخدمون أدلة دينية لتبرير خفض الرأس خوفًا من السقوط. خوف كثير من الشباب على وظائفهم كان السبب في التحاقهم بالحرب السورية. من عاد منهم حيًا، بات اليوم ينتظر قرار صرفه من وظيفته!
كذلك، يمكن اعتبار “الإسلاموفوبيا” حالة كسل أيضًا، لأن هذا الخوف يعتمد على الأحكام المسبقة والتصورات النمطية التي تجعل من السهل التصنيف دون التفكير العميق أو الفهم. في السياق السوري، يمكننا إضافة “العلويونفوبيا”؛ أي الخوف من كل علوي، بمجرد أنه ينطق القاف بقوة، واعتباره شبيحًا مؤيدًا للنظام السابق.
تقدم هذه الفوبيا وصفة سهلة ومريحة لكنها مخيفة، لأنها تضع مكونًا سوريًا، سواء أكان جاري أو زميلي؛ في خانة الخوف والعزل وفقًا لمعايير مغلوطة. تصبح هذه المخاوف أداة لتبرير الكراهية والانقسام، دون أن نلتفت إلى أن الشخص الذي نخشاه قد يكون مجرد فرد يسعى لعيش حياة طبيعية مثلنا تمامًا.
للخوف وحب الاستقرار مظاهر اقتصادية أوسع؛ فقد تجسد ذلك في عدم الثقة بالاستثمار في الشركات الكبرى أو شراء الأسهم. كثيرون منا سمعوا عن سرقة المعامل تحت شعار الاشتراكية، وكذلك التخلف التكنولوجي الذي أعاق دخول البلاد إلى العصر الرقمي، وإغلاق البلد أمام التطبيقات الحديثة. إضافة إلى صعوبة نقل الأموال والعملات الأجنبية، والفساد القضائي المستشري. كل هذه العوامل ساهمت في خلق حالة من الخوف جعلت الناس يبتعدون عن الاستثمار في أي شيء يخرج عن المألوف؛ فكان الخيار الأمثل هو شراء العقارات.
في سوريا، كان من المستحيل أن تظهر فقاعة عقارية، لأن العقارات أصبحت ملاذًا آمنًا للأموال المجمدة. وهكذا، تم “قتل” فرص استثمار الفائض في شيء مفيد أو منتج حقيقي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل غير منطقي.
محاربة الخوف كظاهرة مجتمعية سياسية تبدأ بمعرفة بعضنا بعضًا؛ مثل ذلك الطفل الصغير الذي حين شاهد صور من توقعهم "زومبي"، حتى زال أغلب خوفه. علينا أن نلتقي جميعًا، نتعارف، ونتعب أدمغتنا قليلًا لفهم الآخر؛ فلكل منا شخصيته الخاصة.
الفساد القضائي وانتشار المحسوبيات، مع عبارة “عارف مع مين عم تحكي؟”، والتي تشير إلى التخويف العاري وتأكيد “أنا فوق القانون”، تستحق مقالات ودراسات. فهي لم تنشر الذعر بين السوريين فحسب؛ بل أثرت فيهم بشكل عميق، ربما أكثر من أقبية المخابرات. فهذا الأمر كان له تأثير مباشر على حياة كل السوريين، وليس فقط على أولئك المعنيين بالشأن السياسي، الذين تكفلت أجهزة الأمن بمراقبتهم.
اليوم، وبعد سقوط النظام، لا يبدو أن عتبة الخوف قد انخفضت؛ بل ازدادت. قد يكون هذا أمرًا طبيعيًا؛ فالسقوط المفاجئ لنظام حكم البلاد لستة عقود يعتبر حدثًا خطيرًا وجللًا، ويترتب عليه تغييرات كبيرة. لكن ما يثير القلق هو أن الخوف كان من المفترض أن يخبو بعد لحظة 8-12-2024 المجيدة؛ خصوصًا فيما يتعلق بترك الجنود المهزومين يعودون دون انتقام. أولئك الجنود، الذين أعتقد أنهم تغلبوا على خوفهم حين قرروا عدم القتال وترك النظام لمصيره.
بعيدًا عن الخوف المتوقع من أسلمة الدولة، ظهر خوفٌ جديد، يتمثل في الجرائم المنفلتة تحت غطاء “تصرفات فردية”، والتي -للأسف- لم تنقص مع الزمن بل زادت. أيضًا، عمليات الصرف التعسفي من الوظائف، التي تعني مع تسريح الجيش، مئات الآلاف وربما الملايين من الجوعى، مما يهدد السلم الأهلي ويزيد من القلق بشأن الخضات المجتمعية حيث يتساءل الناس: “كيف يمكنني النوم شبعانَ بينما جاري وأبناؤه جياع؟”.
الخوف الحالي كبير، ولكن الفارق أيضًا كبير. هناك أمل بتغيير قريب للأفضل. قلوب الناس تتطلع إلى حكومة وحدة وطنية، حكومة قادرة على تخفيف الخوف وتصحيح الأخطاء التي لم تتحول بعد إلى خطايا تهدد مصير ووحدة البلاد، كما كان الحال في ظل النظام السابق. وحتى وإن تأخرت هذه الحكومة؛ فإن السوريين قد خرجوا من القمقم؛ فلا خوف بعد اليوم، وسينشئون طريقهم نحو الحرية والديمقراطية.
من المؤكد أن الخوف ليس صفة سلبية مطلقة مثل الكذب أو السرقة؛ بل هو جزء من الطبيعة الإنسانية التي نعيشها جميعًا. هو ضرورة للحياة، يساعدنا على الابتعاد عن المهالك والتأقلم مع الظروف. لكن بقاء الإنسان متوترًا وخائفًا بشكل مستمر، هو حرق للروح، وقتل للإبداع وحب التغيير.
محاربة الخوف كظاهرة مجتمعية سياسية تبدأ بمعرفة بعضنا بعضًا؛ مثل ذلك الطفل الصغير الذي حين شاهد صور من توقعهم “زومبي”، حتى زال أغلب خوفه. علينا أن نلتقي جميعًا، نتعارف، ونتعب أدمغتنا قليلًا لفهم الآخر؛ فلكل منا شخصيته الخاصة.
مشكلة السوريين ليست في الإنسان الخائف المستقر الذي يكره التغيير؛ فهؤلاء هم أغلب البشر في جميع أنحاء العالم. المشكلة تكمن في تعميم الخوف على الجميع، وقتل الإبداع وروح المبادرة الفردية. المغامرون الناجحون، حتى في أكثر البلدان انفتاحًا، يشكلون أقل من واحد ٪ من السكان، وربما أقل بكثير، لكنهم دائمًا كانوا المحرك الأساسي لتطور البشرية. هم أشبه بالبهار والملح للطعام، وبدونهم تكون البلاد كئيبة، بلا روح ولا طعم، مثل طبخة بلا توابل.
وكذلك كانت سوريا، للأسف؛ سوريا المشهورة عالميًا بجودة مطبخها وعبقرية انتقاء توابلها. نأمل أن تنتقل هذه المهارة إلى السياسيين السوريين، وأن يتم السماح للجميع بالمشاركة في صنع سوريا متنوعة وغير خائفة.