عندما وطأت قدماه أرض المملكة، لم يكن مجرد لاعب كرة قدم جاء لإنهاء مسيرته في دوري بعيد عن الأضواء؛ بل كان مشروعًا متكاملًا، استثمارًا بمليارات الدولارات، ورمزًا لمرحلة جديدة في تاريخ الكرة السعودية. كريستيانو رونالدو، الأسطورة البرتغالية، لم يأتِ فقط ليحرز الأهداف ويرفع الكؤوس؛ بل ليكون واجهةً لمخطط أكبر يمتد من الرياضة إلى السياسة والاقتصاد. بين صخب الجماهير في المدرجات، وكواليس الصفقات التجارية، والمصافحات الرسمية مع كبار المسؤولين، أصبح رونالدو جزءًا من مشهد لا يشبه أي محطة سابقة في مسيرته. فهل كان انتقاله للنصر خيارًا رياضيًا أم خطوة محسوبة في لعبة أكبر من كرة القدم؟
قال كريستيانو رونالدو في مقابلة مع بيرس مورجان: "أرى كرة القدم الآن عملاً تجاريًا، والشغف باللعبة ما زال قائمًا، ولكني رأيت أشياء أخرى أيضًا فاجئتني، إذا نظرت إلى العالم كما هو عليه في الوقت الحالي؛ فكل شيء عبارة عن عمل تجاري".
في نهاية عامه الأول في المملكة العربية السعودية، خضع لاعب الكرة البرتغالي كريستيانو رونالدو لاختبار “كشف الكذب” كجزء من حملة تسويقية لمشروع العملات المشفرة (NFTs)، وعندما سئل: هل تعتقد أنك ستظل في المستوى الأعلى من اللعبة بعد سن الأربعين؟ فأجاب بـ “نعم”.
وجاءت الإجابة لتثير الشكوك حول مستقبله مع نادي النصر السعودي؛ خاصة بعدما أدلى بتصريحات مفادها: “أن كل شيء ممكن في المستقبل”، وهو ما فسّرته صحيفة “ميرور” البريطانية أنه مغازلة مبطنة للأندية الأوروبية الكبرى، للعودة لها وهو على شفا الأربعين من عمره.
وأمام هذا الشعور بالاستحقاق من اللاعب البرتغالي وإشاعات الرحيل، لم تجد إدارة النادي السعودي إلا التمسك به، وذكرت عدة صحف ومواقع، أن عقد التجديد قد يمنحه نسبة 5% من ملكية النادي، إلا أنها معلومة ليست مؤكد، بحسب ما ذكره، الصحفي الرياضي المهتم بالشأن الخليجي بموقع “win win” إسماعيل محمود.
كما أضاف إلى “مواطن”: “أن النادي واللاعب البرتغالي قريبان من التوصل لاتفاق في ظل رغبة رونالدو في الاستمرار مع النادي، ورغبة النصر في استمرار رونالدو؛ حيث إن رغبة رونالدو هي الاستمرار مع النصر حتى كأس العالم 2026، ولكنه رغم ذلك يتأنى قبل إعطاء كلمته الأخيرة في العقد الممتد لعامين، براتب حوالي 200 مليون دولار في الموسم الواحد”.
وبحسب ما ذكره مصعب صلاح، الصحفي بموقع “جول“، لـ “مواطن”: “إن هذا الراتب الضخم ليس نهاية المطاف؛ فمن المتوقع أن يصبح لرونالدو العديد من الأدوار بعد اعتزاله؛ مثل أن المملكة تريد تجهيزه ليصبح واجهتها الرسمية في كأس العالم 2034، والعديد من الأشياء الأخرى التي ستظهر تباعًا في حال تجديده، ولذلك فرغبة النصر هي بقاء الرجل والتمسك به حتى الرمق الأخير”.
"والسؤال هنا: هل استفادت المملكة من كريستيانو رونالدو لتتمسك به لهذا الحد، وتغدق عليه كل تلك الأموال؟"
سياسيًا
عندما وقع رونالدو مع نادي النصر، أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا حثت فيه الرياضي الأكثر شهرة في العالم، على استخدام منصاته على السوشيال ميديا لتسليط الضوء على السجل المروع لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، إذ صرح دانا أحمد، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في المنظمة قائلًا: “لا ينبغي لكريستيانو رونالدو أن يسمح لشهرته ونجوميته أن تصبح أداة لغسيل سمعة الرياضة السعودية، وينبغي له أن يستغل وقته في النصر للتحدث عن قضايا حقوق الإنسان العديدة في البلاد”.
لم يكترث رونالدو لمثل هذه التصريحات؛ فمنذ وصوله إلى الرياض، وقضاء الأسابيع الأولى مع عائلته في الجناح الملكي بفندق فور سيزونز، صرح في أكثر من موضع أنه مستمتع للغاية بالحياة في الرياض، ويعيش حياة سعيدةً حقًا بعد كرب شديد في فترة مانشستر يونايتد الأخيرة، إضافة إلى إعجابه الشديد بجو المملكة في الشتاء تحديدًا؛ ففي المتوسط، تتمتع مانشستر بـ 45 ساعة من أشعة الشمس في ديسمبر، أما الرياض؛ فتتمتع بأكثر من 200 ساعة من الشمس.
وطبقًا لمصادر مقربة من رونالدو؛ فالرجل يعيش حياة الترف، ويستمتع تمامًا في الرياض بسبب الاستثمار المالي المفرط في السنوات الأخيرة؛ ما يجعل مطاعمها وفنادقها ومجمعاتها الترفيهية ومراكز التسوق موجهة نحو حشود كبار الشخصيات على نحو لا تتوفر عليه المدن الأوروبية الكبرى عمومًا، وهو ما ظهر عليه أكثر من مرة في خروجاته داخل المملكة؛ حيث شوهد في عدة مطاعم وفنادق مثل مطعم”Le Maachou” (فرنسي)، ومطعم “Lavash “(أرمني)، ومطعم Clap (ياباني)، بالإضافة إلى استثماره في مطعم Patel الإسباني في الرياض، كما أنه زار “عالم بوليفار” عدة مرات مع عائلته، ووصفه بأنه “جميل للغاية”، ثم قام بزيارة متحف “CR7 Signature”، وأدخل ابنه في منظومة الناشئين بنادي النصر، وأشاد بها عدة مرات؛ حيث صرح قبل ذلك قائلًا إن “الدوري السعودي أفضل من الدوري الفرنسي”.
وفي أول لقاء بينه وبين ولي العهد السعودي في المؤتمر الخاص بكأس العالم للرياضات الإلكترونية المنعقد في المملكة، نشر على إنستغرام قائلا: “شرف لي أن ألتقي مع صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان”، وفي عيد تأسيس المملكة واليوم الوطني، ارتدى رونالدو، الزي السعودي التقليدي، وأدى رقصة “العرضة النجدية”، ثم ذهب بعيدًا ودمجها في احتفاله بتسجيل الأهداف.
"الرياض تضم بعضًا من أفضل المطاعم جودة التي صادفتها على الإطلاق". حسبما صرح كريستيانو رونالدو.
اقتصاديًا
يقول متخصصو فوربس (Forbes)، الدورية الاقتصادية الأشهر في العالم، إن دعاية شخصية مشهورة لعلامة تجارية ما، قادرة على زيادة قيمتها لحظيا بنسبة 4% في المتوسط، وطبقًا لما قاله خبير التسويق، جورج كويل، لمجلة فوربس أيضًا؛ فرونالدو هو الشخص الأكثر تأثيرًا على السوشيال ميديا؛ خاصةً مع وجود ملايين المتابعين/ات عبر المنصات المختلفة؛ إذ يُعرف بحضوره المؤثر وامتلاكه القدرة على دفع نمو الأعمال التجارية بسهولة شديدة، الأمر الذي يجعله منجمًا ذهبيًا للكثير من الشركات العالمية، وذلك من خلال الاستفادة من نفوذه على وسائل التواصل الاجتماعي.
خاصة وأن حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي لا يقتصر على المحتوى الترويجي فقط؛ فهو يتفاعل بنشاط مع متابعيه، وينشر الكثير من المحتوى الشخصي، وهو ما أدى إلى صك مصطلح “The Ronaldo Effect”؛ إذ يسمح العدد الهائل من المتابعين للعلامات التجارية المرتبطة برونالدو، بالاستفادة من مجموعة ضخمة من العملاء المحتملين؛ فكل منشور ينشره؛ سواء أكان للترويج عن منتج ما، أو حتى عن إنجازاته الكروية أو حياته الشخصية، يحظى بمشاركة هائلة، وينتشر كالنار في الهشيم عبر منصات التواصل الاجتماعي.
الأمر الذي جعل مستشار الديوان الملكي، تركي آل الشيخ، يحاول الاستفادة منه لأقصى درجة؛ في تطوير وتسويق مشروعات المملكة، وذلك عبر توقيع عقد شراكة بين موسم الرياض، درة تاج الاستثمارات السعودية، وبين شركة “أورسو للمياه المعدنية” المملوكة للبرتغالي، لتصبح الراعي الرسمي للموسم الرابع من موسم الرياض، أما شركة “أورسو” نفسها؛ فتعد دليلًا على نجاح استراتيجية جلب رونالدو للمملكة؛ إذ أطلق رونالدو علامته التجارية تلك في أكتوبر 2023، وضخ استثمارًا أوليًا قيمته 10 ملايين دولار في السوق السعودي، بعد الاتفاق مع الدولة الممثلة في تركي آل الشيخ، الدولة التي أرادت تهيئة أجواء البقاء للرجل تمامًا.
وفي ذلك أضاف “مصعب”: أن “كل تلك الأموال الملقاة في حِجر رونالدو، هي طريقة ناجعة من قبل السعودية للترويج للاقتصاد المعتمد على الترفيه، وبما أن وجود رونالدو تسويقيًا سيساعد في الترويج لهذا الملف”. ثم أردف قائلاً: “إن كل طلبات رونالدو أصبحت مجابة، لأن الشق الترفيهي هو الذي يواري الكثير من سوءات النظام السياسية والحقوقية والإنسانية”. وهنا يعيد السؤال طرح نفسه: هل فعلت السعودية ذلك للاستفادة من رونالدو في تسويق نفسها فقط؟ أم أن للأمر أبعادًا اقتصادية أيضًا؟
الدوري غير الدولي
يقول كيران ماجواير، خبير التمويل الكروي لشبكة سي إن بي سي: ″المملكة العربية السعودية لديها عدد كبير من السكان الشباب، لذا فهو سوف يجتذب هذا الجيل، وهناك فوائد اقتصادية، وهناك فوائد سياسية واجتماعية، أما التكلفة المالية فليست ذات أهمية على الإطلاق"
في دراسة بعنوان “Cristiano of Arabia: Did Ronaldo increase Saudi Pro League attendances؟”، قام الباحثان دومينيك شراير، وكارل سينجلتون، بتوثيق اتجاهات البحث في “غوغل” داخل المملكة طوال موسم 2022-2023، وذلك لثلاثة مصطلحات: رونالدو والدوري السعودي الممتاز ونادي النصر، وبدا من النتائج وجود اهتمام إضافي كبير بنادي النصر والدوري السعودي الممتاز، بمجرد ظهور شائعات انتقال رونالدو للنصر، تلا ذلك انفجار في الاهتمام باللاعب وفريقه الجديد والدوري، عندما أُعلن رسميًا عن التوقيع معه، ثم بلغ الاهتمام ذروته عندما بدأ في اللعب فعلًا.
ألقى ذلك الاهتمام بظلاله سريعًا على الملعب؛ ففي أول 8 مباريات لرونالدو فقط، شهدت المباريات نطاق حضور كبير للمشجعين؛ مثل ملعب نادي الاتحاد، الذي امتلأ عن آخره في أول مباراة لرونالدو فيه، لكنه واجه فراغ ثلثي الملعب في المباراة التي تليها، وفي جميع حالات الدراسة باستثناء حالة واحدة، امتلأت جميع المباريات التي حضر فيها رونالدو عن آخرها بالجماهير؛ سواء أكان بالحد الأقصى للملعب، أو أقل قليلًا، كما يظهر الرسم البياني.
وبناءً على ذلك، شهد الدوري السعودي زيادة في الإيرادات بنسبة 650٪ بزيادة حوالي 120 مليون دولار منذ انتقال رونالدو، مع وجود خطة لمضاعفة الرقم إلى 480 مليون دولار بحلول عام 2030، كما زادت إيرادات البث بشكل كبير مع زيادة صفقات البث الدولية الناتجة عن التعاقد مع رونالدو بشكل شخصي؛ حيث أبرم الدوري صفقات بث دولية مع 38 جهة بث مختلفة، وشهد الدوري نموًا بنسبة 75% في عدد الرعاة فور الإعلان عن التعاقد مع رونالدو، ما جعله في المرتبة الثالثة ضمن أكثر الدوريات ربحية في العالم من إيرادات الرعاية؛ الأمر الذي يوضح تأثير رونالدو على النمو الرقمي والمشاركة العالمية للجماهير.
مواضيع ذات صلة
وبناءً على ذلك؛ فوجود رونالدو في حد ذاته يعزز الإيرادات التجارية، ويجذب المزيد من الرعاة، ويعزز عقود البث التلفزيوني ومبيعات السلع التجارية للأندية، ويجذب أجيالًا من المشجعين، وهو ما يتماشى مع رغبة الأندية في تعزيز العلامة التجارية، أي أننا أمام مشروع مكتمل، يشارك رونالدو في الترويج له، ويربط اسمه وصورته وعلامته التجارية بمشاريع أخرى مثل “نيوم”، ليصبح بذلك، طبقًا لما قاله “مصعب”، “وزيرًا لوزارة كرة القدم، في دولة تعتمد بالأساس على الاقتصاد القائم على الترفيه”.
What kind of return does Saudi Arabia expect investing in football mega-stars? CNBC’s @_HadleyGamble speaks to Finance Minister Mohammed Al Jadaan pic.twitter.com/QDo5x2Adzh
— CNBC Middle East (@CNBCMiddleEast) January 16, 2023
في النهاية، يبقى كريستيانو رونالدو أكثر من مجرد لاعب كرة قدم في السعودية؛ فهو رمز رياضي وأداة تسويقية، واستثمار استراتيجي ضمن رؤية المملكة للمستقبل. بين الشغف باللعبة وحسابات المال والسياسة، يستمر الجدل حول بقائه، لكن المؤكد أن تأثيره تجاوز حدود المستطيل الأخضر، ليصبح جزءًا من مشروع أوسع يعيد تشكيل صورة الرياضة والاقتصاد في المنطقة.