في زنزانة معتمة، تجلس امرأة متكوّرة على نفسها، تحتضن جسدها المرتجف. لم تعد تعرف الفرق بين الليل والنهار، فالضوء الوحيد الذي يصلها هو شعاع خافت يتسلل من شقوق الجدران المتهالكة. منذ أشهر لم ترَ وجه أمها، ولم تسمع صوت أطفالها. تهمتها؟ تغريدة عابرة، أو ربما رأي قالته في لحظة غضب.
خلف جدران السجون في الخليج، تحتجز السلطات عشرات النساء، بعضهنّ يعانين من التعذيب والإهمال الطبي، وأخريات واجهن التحرش والانتهاك الجسدي. أصواتهن مخنوقة، وأسماؤهن محجوبة، وكأنهن لم يكنّ يومًا بيننا. لكن بين صمت السجون وصخب التصريحات الرسمية عن تمكين المرأة، تبرز قصص هؤلاء المعتقلات شاهدةً على التناقض بين الشعارات والواقع، بين ما يُقال وما يُمارَس.
تقول والدة إحدى المعتقلات في سجون الكويت، لـمواطن: "لا شيء أقسى على قلب أم من رؤية ابنتها تتحول إلى إنسانة أخرى، إلى جسد بلا روح. عندما رأيت ابنتي لأول مرة بعد شهور من احتجازها، لم أتعرف عليها، كان وجهها شاحبًا، وعيناها ذابلتين".
تقول أسماء (اسم مستعار) وهي شابة سعودية، لـ”مواطن”: “إن شقيقتها اعتقلت في السعودية قبل 4 سنوات بسبب منشور على (إكس، تويتر سابقًا)، انتقدت فيه سياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وفيما ترفض السلطات الإفراج عنها، تمنع أسرتها من زيارتها، كما وجهت للعائلة تحذيرات بعدم التحدث لأي وسيلة إعلامية عن الابنة المحتجزة، وإلا لن يتم الإفراج عنها”.
وتستنكر الشابة السعودية استمرار احتجاز أختها رغم المناشدات الحقوقية المستمرة للإفراج عنها، وتحريك الأسرة العديد من الوساطات للاعتذار وضمان الإفراج عن الابنة، كما تستنكر حديث ولي العهد الدائم عن دعم المرأة، بينما تقبع عشرات النساء خلف السجون بسبب التعبير عن الرأي أو انتقاد السلطة، وهو أمر مشروع في أي دولة ديموقراطية.
وتواجه السعودية -مثل كافة دول الخليج- انتقادات تتعلق باعتقال النساء بسبب التعبير عن الرأي، ولعل أبرز المعتقلات في السجون السعودية هي الشابة مناهل العتيبي، وهي مدربة لياقة بدنية وناشطة في مجال حقوق المرأة، تبلغ من العمر 29 عامًا، حُكم عليها في أبريل/نيسان الماضي بالسجن لمدة 11 عامًا بسبب اختيارها الملابس التي ترتديها ودعمها لحقوق المرأة. ويتناقض القرار بشكل مباشر مع رواية السلطات عن الإصلاح وتمكين المرأة.
نساء في سجون الخليج
تفرض معظم دول الخليج بحسب حقوقيين تحدثوا إلى “مواطن”، قيودًا صارمة حول المعتقلات، وتمنع ذويهن من الحديث إلى وسائل الإعلام أو حتى المنظمات الحقوقية، في محاولة لطمس الجرائم والتعتيم على الانتهاكات التي تُمارس ضد هؤلاء النسوة.
في سجون الإمارات، تقبع عشرات النسوة، لعل أبرزهن، أمينة العبدولي، التي اعتُقلت في نوفمبر 2015 وحُكم عليها بالسجن لمدة خمسة أعوام. وتعد مريم البلوشي، من بين المعتقلات البارزات داخل سجون الإمارات أيضًا؛ إذ اعتُقلت في نوفمبر 2015 وحُكم عليها بالسجن لمدة خمسة أعوام. بعد انتهاء مدة حكمها في نوفمبر 2021، وُجهت إليها تهم جديدة، مما أدى إلى إصدار حكم إضافي بالسجن لمدة ثلاثة أعوام.
وحول المعتقلات في السجون الإماراتية يقول حمد الشامسي، مدير مركز مناصرة المعتقلين بدولة الإمارات لـ”مواطن”: “إن السلطات الإماراتية تفرض تعتيمًا صارمًا على أوضاع المعتقلات السياسيات، وتمنع المنظمات الحقوقية من الوصول إلى معلومات دقيقة بشأنهن”.
ويضيف: “مع ذلك، تمكن مركز مناصرة معتقلي الإمارات من توثيق حالات بارزة لنساء تعرضن للاعتقال التعسفي والتعذيب، بسبب تعبيرهن عن آرائهن أو نشاطهن الحقوقي، وأبرزهن، أمينة العبدولي، التي اعتُقلت في 19 من نوفمبر 2015، احتُجزت سرًا 7 أشهر، وحُكم عليها بالسجن 5 سنوات، ثم أضيفت 3 سنوات أخرى عام 2021 بسبب تسجيلاتها التي كشفت الانتهاكات داخل السجون”.
ويقول الشامسي إن مريم البلوشي، تعرضت للتعذيب والتهديد، حُكم عليها بالسجن 5 سنوات، ثم أضيفت 3 سنوات أخرى عام 2021 بعد كشفها عن الظروف السيئة في السجون.
ويتابع: “اعتُقلت علياء عبد النور، عام 2015، رغم إصابتها بسرطان الثدي، تعرضت للإهمال الطبي والتعذيب حتى توفيت في 4 من مايو 2019 وهي رهن الاعتقال مقيدة في المستشفى”.
لا يختلف الأمر كثيرًا في سائر دول الخليج، وفيما يتعلق بالنساء المعتقلات في سجون البحرين والكويت وقطر وسلطنة عمان والسعودية، تتوفر معلومات محدودة نظرًا لعدم الشفافية، وصعوبة الوصول إلى البيانات الرسمية. ومع ذلك؛ فهناك بعض الحالات البارزة التي تم توثيقها.
في البحرين؛ اعتُقلت هاجر منصور في مارس 2017 وحُكم عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات، بتهم تتعلق بنشاطها السياسي، وأفادت تقارير بتعرضها لسوء المعاملة داخل السجن قبل أن يفرج عنها لاحقًا. أيضًا من المعتقلات البارزات في سجون البحرين، مدينة علي، التي واجهت ظروفًا صعبة داخل السجن، مع تقارير تشير إلى تعرضها لإجراءات عقابية. وكذلك زكية البربوري، وهي واحدة من المعتقلات في السجون البحرينية، وتواجه تحديات ومعاملة قاسية أثناء فترة احتجازها، ومارست العديد من المنظمات الحقوقية الضغوط على الحكومة البحرينية التي اضطرت إلى الإفراج عنها في يناير الماضي.
ورغم عدم توافر معلومات حول المعتقلات في السجون الكويتية؛ إلا أن ناشطة حقوقية تحدثت لـ”مواطن“، شريطة عدم ذكر اسمها، أكدت أن أعداد المحتجزات في السجون تجاوز العشرات، بينهن من تم اعتقالهن بسبب آراء سياسية، وأيضًا منهن من طالبن بحقوقهن في المساواة أو الحصول على الجنسية، مؤكدة أن السلطات تفرض قيودًا مشددة على النشاط السياسي بشكل عام داخل الدولة، ويخشى الجميع من الحديث في الشأن السياسي أو الحريات تجنبًا للقمع.
وتقول والدة إحدى المعتقلات في سجون الكويت -فضلت عدم ذكر أي تفاصيل عن ابنتها حتى لا تتعرض لضغوط في محبسها-، لـ”مواطن“: “لا شيء أقسى على قلب أم من رؤية ابنتها تتحول إلى إنسانة أخرى، إلى جسد بلا روح. عندما رأيت ابنتي لأول مرة بعد شهور من احتجازها، لم أتعرف عليها، كان وجهها شاحبًا، وعيناها ذابلتين، واختفت تمامًا ابتسامتها التي كانت تضيء البيت، لم أكن بحاجة إلى أن تخبرني بما حدث؛ فملامحها وحدها كانت كافية لتكشف عن كل العذاب الذي تعرضت له”.
وتضيف: “لم تكن ابنتي مجرد فتاة عادية؛ بل كانت مليئة بالحياة، تحلم وتخطط لمستقبلها، لكنهم رأوا في تفكيرها جريمة، وفي أحلامها خطرًا. لم يسجنوها فقط؛ بل أرادوا تحطيمها من الداخل، وهذا ما فعلوه. أخبروني أنها تحت “التحقيق”، لكنها لم تكن تحقيقات؛ بل كانت تعذيبًا ممنهجًا، أسئلة بلا إجابات، كانوا يعاقبونها على صمتها، وعلى حديثها، على قوتها وعلى ضعفها، حتى المرض لم يشفع لها، كانوا يتركونها تتألم، يرفضون علاجها، وكأنهم يستمتعون برؤيتها تنهار”.
انتهاكات وتحرش جنسي ضد المعتقلات
يكشف جواد فيروز، مدير مركز سلام للديموقراطية وحقوق الإنسان، تعرُّض النساء داخل سجون الخليج للعديد من الانتهاكات الحقوقية، ويقول: “خلافًا للقواعد والمبادئ والقيم الإسلامية وللأعراف والتقاليد العربية، نجد في العديد من الدول الخليجية حالات التعذيب والتحرش الجنسي ضد النساء في المعتقلات والسجون، وفي جلّها لأسباب سياسية؛ كونهن ناشطات في الشأن العام ومدافعات عن الحقوق والحريات العامة”.
ويؤكد “فيروز” أن “هناك شهادات وإفادات موثقة للعديد من الضحايا من النساء اللاتي تعرضن للتعذيب والتحرش الجنسي منذ الاعتقال إلى التحقيق لدى المراكز الأمنية، وكذلك في النيابة العامة وفي المعتقلات”.
واجهت هؤلاء النسوة في دول الخليج انتهاكات لحقوقهن الأساسية بسبب نشاطهنّ في العمل الحقوقي، أو بسبب التعبير عن الرأي، أو مطالبهن في التحقيق في قضايا العنف السياسي والاجتماعي، أو لعضويتهن في الحركات الاجتماعية أو السياسية، ومطالبتهن بالمساواة ونبذ التمييز ضد المرأة، وبالعدالة والحرية، وفق “فيروز”.
ويوثق “فيروز” في حديثه مع “مواطن”، نماذج للعديد من الناشطات الخليجيات اللاتي تعرضن للاعتقال والسجن وسوء المعاملة، ومن أبرزهن: لجين الهذلول، وهي ناشطة سعودية بارزة، اشتهرت بدفاعها عن حقوق المرأة في السعودية؛ حيث تم اعتقالها في شهر مايو/آيار 2018 بعد أن كانت قد قامت بحملة لدعم حق النساء في قيادة السيارات في المملكة، وقد تعرضت للاحتجاز القسري والتعذيب النفسي والجسدي خلال فترة اعتقالها.
كما يذكر “فيروز” بإسراء الغمغام، وهي ناشطة حقوقية سعودية، شاركت في الاحتجاجات السلمية في منطقة القطيف بالمنطقة الشرقية؛ حيث قوبلت بالقمع من السلطات؛ إذ تم اعتقالها في ديسمبر/كانون الأول 2015 بتهم تتعلق بـالتحريض على الاحتجاجات والدعوة إلى التغيير السياسي في البلاد، وفي عام 2018، طالبت النيابة العامة بإصدار حكم بالإعدام ضدها، مما أثار موجة من الاحتجاجات العالمية.
ومن البحرين؛ يتحدث “فيروز” عن ابتسام الصايغ، وهي ناشطة حقوقية بحرينية ومدافعة عن حقوق الإنسان، وتعمل في منظمة سلام للديمقراطية وحقوق الإنسان، عُرفت ابتسام بعملها في كشف ونشر انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين. تم اعتقالها في الثالث من يوليو/تموز ٢٠١٧، وفي ١٨ يوليو/تموز، احتجزت في الحبس الانفرادي بسجن مدينة عيسى؛ حيث أمرت النيابة العامة بسجنها لمدة ستة أشهر بانتظار التحقيق بموجب قانون مكافحة الإرهاب. وتعرضت للاستجواب المطول والتحرش الجنسي، واحتجزت بعيدًا عن سجناء آخرين، حتى لا يتم سماع صراخها تحت التعذيب.
من جهته؛ يكشف مدير مركز “مناصرة معتقلي الإمارات”، حمد الشامسي، تعرُّض المعتقلات بسجون الإمارات للتعذيب أيضًا، ويقول لـ”مواطن“: “تقارير هيومن رايتس ووتش والأمم المتحدة، وثّقت انتهاكات جسيمة بحق النساء في سجون الإمارات، تشمل الضرب، العزل الانفرادي المطول، الحرمان من النوم، التهديد بالاعتداء الجنسي، والتجويع.
ويشير إلى أن الحالات الموثقة مثل أمينة العبدولي، مريم البلوشي، وعلياء عبد النور، تثبت وجود نمط ممنهج من التعذيب والإهمال الطبي وسوء المعاملة، مما يجعل السجون الإماراتية بيئة غير إنسانية تتطلب رقابة مجتمعية عاجلة.
ويرى “الشامسي”، أن استمرار احتجاز النساء في الإمارات بسبب تعبيرهن عن آرائهن يكشف تناقضًا صارخًا بين الشعارات الرسمية حول تمكين المرأة، وبين الواقع القمعي الذي تعيشه المدافعات عن حقوق الإنسان. إن تجريم النشاط الحقوقي واستخدام قوانين فضفاضة؛ مثل قوانين الجرائم الإلكترونية ومكافحة الإرهاب، لاستهداف النساء، يبرهن على أن الإمارات ليست بيئة آمنة لحرية التعبير والمشاركة المدنية، رغم الترويج لصورتها كدولة حديثة تدعم المرأة.
مطالب بالإفراج عن المعتقلات
تطالب منظمات حقوقية ودولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الناشطات المعتقلات في دول الخليج العربي. تؤكد هذه المنظمات أن احتجازهن يأتي نتيجة لممارساتهن السلمية لحقوقهن في حرية التعبير والتجمع السلمي. كما تدعو هذه المنظمات إلى ضمان توفير محاكمات عادلة للمعتقلات، والتحقيق في مزاعم التعذيب وسوء المعاملة التي تعرضن لها أثناء الاحتجاز ومحاسبة المسؤولين عنها. بالإضافة إلى ذلك، تطالب هذه المنظمات بإنهاء جميع أشكال التمييز والقمع الموجهة ضد المدافعات عن حقوق الإنسان في المنطقة.
ويطالب رئيس مركز “سلام للديموقراطية وحقوق الإنسان”، جواد فيروز، بالإفراج الفوري دون قيد أو شرط عن جميع الناشطات المعتقلات في سجون دول الخليج، بسبب أنشطتهن الحقوقية السلمية في الدفاع عن الحريات العامة، ووقف كافة أشكال التعذيب وسوء المعاملة، وضمان وجود محاكمات عادلة، وفقًا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
ويدعو “فيروز” إلى إلغاء القوانين والقرارات التمييزية التي تقيد حقوق المرأة في دول الخليج، ومنح المرأة الحق الكامل في المشاركة في الحياة العامة دون أي قيود سياسية أو اجتماعية. وجبر الضرر، وإنصاف الضحايا بفتح تحقيقات مستقلة في حالات التعذيب وسوء المعاملة والانتهاكات التي تعرضت لها المعتقلات، وتقديم المسؤولين عنها للمحاسبة. وإطلاق حملات توعية محلية ودولية حول العنف ضد النساء؛ خاصة المعتقلات الناشطات في قضايا الشأن العام، لزيادة الضغط على الحكومات للإفراج عنهن.
كذلك يطالب حمد الشامسي بالإفراج عن جميع المعتقلات بسجون الإمارات، ويقول لـمواطن: “رسالتنا هي لحكومة الإمارات بمناسبة الحملة الدولية لمناهضة العنف ضد المرأة”.
مواضيع ذات صلة
"بين صمت السجون وصخب التصريحات الرسمية عن تمكين المرأة، تبرز قصص هؤلاء المعتقلات شاهدةً على التناقض بين الشعارات والواقع، بين ما يُقال وما يُمارَس".
ويضيف: “نطالب الحكومة الإماراتية بـ: الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع النساء المعتقلات بسبب آرائهن أو نشاطهن الحقوقي، ووقف سياسة إسكات الأصوات النسائية عبر الاعتقال والتهديد، وضمان بيئة آمنة لحرية التعبير، وفتح تحقيق مستقل في مزاعم التعذيب والإهمال الطبي في السجون، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات، واحترام التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان، والسماح للمنظمات الحقوقية بالوصول إلى المعتقلات لضمان سلامتهن.
ويتابع: “إن الحديث عن دعم المرأة وتمكينها يجب أن يترجم إلى واقع حقيقي، يبدأ بالإفراج عن النساء اللواتي تم سجنهن؛ فقط لأنهن طالبن بالحرية والعدالة”.
ختامًا.. في ظل استمرار الانتهاكات الممنهجة ضد النساء في سجون الخليج، يظل الحديث عن تمكين المرأة واحترام حقوقها مجرد شعارات تتلاشى أمام الواقع القاسي الذي تعيشه المعتقلات. تتعرض هؤلاء النساء للتعذيب والإهمال الطبي، والتحرش، في انتهاك صارخ للقيم الإنسانية والمواثيق الدولية. ومع التعتيم الإعلامي والقمع الأمني، يبقى مصير كثيرات مجهولًا، بينما تناضل منظمات حقوق الإنسان لكشف الحقيقة والمطالبة بالإفراج عن المعتقلات. إن إنهاء هذه الانتهاكات لن يتحقق إلا عبر ضغوط دولية جدية، ومحاسبة الجهات المسؤولة، وضمان حق المرأة في التعبير دون خوف من الاعتقال أو القمع.