بَعدَ تفكك الاتِحَاد السُوفياتي سَنة (1991) وأفول النظم الشيوعية، بَلغ مَشرُوُع الدِيمُوقراطية الغربية مُنتهاه -حَسْب فرانسيس فوكوياما-؛ باعْتبار الحَضارة الغربية بقيادة الولايات المُتحِدة الأمريكية وَحُلفائها، القوى المُهيمنة عَلى العالم، وَالمُشكلة لمَعَالمْ المُستقبل. هذه السَيطرة ما زالت إلى اليـوم سَارية المفعُول -رغمَ كل التحديات- لمْ تكن نتاجًا لفوز عَسْكري فحَسْب، بقدْر مَا كانت نتاج رهان استراتيجي على المُستقبل. ذلك أن الحَضارة باعتبارها مُنتجًا فكريًا وَثقافيًا رَاهًنا، هي كذلك حَيَويات مُتحَولة وَمُتغيرة، قائمَة على مَجمُوعَة مِن المفاتيح وَالمُؤشرات، وَمن يتحكم في هذه الأخيرة، ويتأقلم مَعَها وَيُسيطر عَليها، يُسيطر بذلك على الحضارة القادمة أو عَالمْ المُستقبل.
قامَت الهيمنة الأمريكية على ازدواجية الأنمُوُذج الاقتصادي القائم عَلى البترُول وَالدُولار، أي الطاقة وَرأسْ المال؛ حَيث مَكن تسْعير البترول بالدُولار ضمَان التدَفق الحُر لمَصَادر الطاقة للآلة الصِناعية الغربية، وَتركيز رأس المَال بها؛ الأمرْ الذي مَكنها وَحُلفاءها -مَعَ حَيويتها الديمُوقراطية- مِن بناء اقتصادات وَدُول سَادت العَالم طيلة العُقود الثلاثة الأخيرة. لكن مَعَ برُوُز بَوادر تشكل حَضَارة جديدة وتحَولات في الإيديولوجيا والطاقة وَالفاعلية الجيوسياسية، بَات السُؤال الجَوهري يتمثل في: هل نحن أمَام أفول النظام العالمي الأمريكي، وَأمام بوادر تشكل عَالم جَديدة؟ وَمَن سَيشكل مَعَالم هذا العَالم الجديد؟
الفكر الإمبراطوري
راهن الأمريكيون الأوائل على العُزلة كسبيل لتحقيق الحُلم الأمريكي، وهذا مَا مكنها مِن بناء اقتصاد قوي بمعْزل عَن المُنافسَة وَالعَسْكرة، إلا أن ذلك لمْ يدُم طويلاً. ذلك أن النزعة الإمبراطورية تفرض على الدُول الانفتاح والاندماج في مَسَار عَالمي، هذا مَا دَفع الولايات المُتحدة للدُخول في مَسَار بناء التحالفات؛ الأمْر الذي مَهّدَ لها الطريق نحوَ الانخراط في الحُرُوُب الأوروبية؛ حيث شكلت إرهاصَات وَتَدَاعِيات الحرب العالمية الأولى فرصَة ذهبية لتعزيز دَورها الإمبراطوري في العالم؛ باعتبارها الراعية للعَالم الحُر اقتصاديًا وَعَسكريًا؛ خاصَة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الحَرب قابعة في قارة أخرى.
قامَت الهيمنة الأمريكية على ازدواجية الأنمُوُذج الاقتصادي القائم عَلى البترُول وَالدُولار، أي الطاقة وَرأسْ المال؛ حَيث مَكن تسْعير البترول بالدُولار ضمَان التدَفق الحُر لمَصَادر الطاقة للآلة الصِناعية الغربية، وَتركيز رأس المَال بها؛ الأمرْ الذي مَكنها وَحُلفاءها -مَعَ حَيويتها الديمُوقراطية- مِن بناء اقتصادات وَدُول سَادت العَالم طيلة العُقود الثلاثة الأخيرة
وَمَعَ ذلك، لا يُمكن عَزل هذا المَسَار عَن الإيديولوجيا؛ ذلك أن التقارب الأمريكي مَعَ الغرب الأوروبي لمْ يكن وَليد الصُدفة أو الغائية الاقتصادية البحتة، ذلك أن كلا الحلفين أو الطرفين كانا وما زالا مَصْدرًا للثقافة الليبرالية التي جَسَدتها الديمُوُقراطيات الحَديثة، وفي كونها ذات أنظمة سِياسية مُتماهية سَهلت تشكل حِلف مَتين وَقابل للدوام.
أمَا الآن، وَمَعَ تنامِي الشعبوية وَاليمين -المُتطرف أحْيانا- تصَاعَدَت الخطابات السياسية الداعية للانعزالية في أمريكا؛ مُعتبرة أن الالتزامَات الإمبراطورية هي المِظلة الأمنية، وَالاقتصَاد المُعَولم، يشكلان عبئًا يُعِيقها عن تحقيق النمُو والحفاظ على دَولة الرفاه والريادة في العالم؛ خاصَة مَعَ تنامي قوة أعدائها التاريخيين، واعادة انبعاث الشمُوليات الشيوعية. في المُقابل نلاحِظ أن الدُول الأوُرُوبية تعتبر هذه النزعة الأمريكية انفكاكًا مِن تحالفاتها الخارجية وَتعهداتها بالدفاع والدَعمْ عَن حُلفائها، هذا مَا جَعل الأوروبيين يَجنحون بدَورهم لليمين، ويطالبون بجيش أوروبي مُوحد كبديل عَن المظلة الأمنية لحِلف الشمال الأطلسي، وَتكامل اقتصادي أكثر عَولمَة، وتنوع يجنبها العُقوبات الأمريكية -الحِمائية الجُمركية- التي باتت عُرضة لـــها كغيرها مِن الدُول التي تعتبر مَارقة في نظر الأمريكان.
وَبناءً على مَا سَبق؛ وَجَدَت الولايات المُتحدة الأمريكية نفسَها أمَام مُفارقة جيواستراتيجية: ذلك أن اسْتمرار دَورها الإمبراطوري يشكل عِبئًا عليها؛ في مُواجهة مُنافسيها الجُدُد -الشيوعية الرأسمالية- بقيادة الصِين وَرُوسْيا، وَمِن جهة أخرى فإن الانفكاك مِن هذا الدَور الإمبراطوري قد يؤوُل إلى تفكك أقوى تحالفاتها، وَبالتبعية تصَدُع النظام العالمي الجديد المصَمَمْ على المقاس الأمريكي. وفتح المجال أمَام الصين لتعزيز توسعاتها الإمبراطورية القائمة في الأساس على ملء الفراغ الأمريكي، وتقويض النظام العالمي –اللا مُحايد- في نظرهم.
أفول البترودولار
مكنت اتفاقية البترودولار بَين أمريكا والمَملكة السعُوُدية المُوقعة سَنة (1974) والتي تنص على بَيع البترول حَصْرًا بالدولار الأمريكي، على تعزيز وتثبيت مكانة الدولار باعتباره عُملة التجارة الدولية؛ خاصَة بعد تنامي التخوف العالمي إثر انسحاب أمريكا مِن اتفاقية «Bretton Woods» سنة (1971). وهذا ما مكّن أمريكا مِن فرض هيمنة عالمية على الاقتصاد العالمي طيلة العقود الأخيرة بسَبَب تفردها بحق وامكانية فرض العُقوبات الاقتصادية على الدول.
هذا الواقع والامتياز الذي كانت تحظى به أمريكا بدأ يتصدع ويتراجع، بسبب نمُو توجُه دُولي –تقوده الشموليات الرأسمالية- يسْعى إلى تحرير التداولات الدولية مِن مركزية الدولار الأمريكي نظرًا لاستخدامه كسلاح سِياسي. وهذا مَا يتجلى في التوجُه السعُودي لبيع البترول بالعملات المحلية الأخرى غير الدُولار، وكذا بَيع النفط الروسي باليوان الصِيني والروبية الهندية…إلخ.
مواضيع ذات صلة
هذا التوجُه الدولي الذي بات جديًا مَعَ مُرُور الوقت؛ خاصَة مَعَ تنامي مجمُوعة البريكس بقيادة الصِين، لا يشكل فقط تهديدًا للأمريكان؛ بل للنظام العالمي الجديد أيضًا، ذلك أن هذا الأخير قائم على مُؤسَسَات “صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي”، مرجعياتها الأساسية هو ضبط استقرار التجارة الدولية الحُرة بالدُولار الأمريكي، وَأن أي ضرَر يلحق هذا الأخير يعني بالضرورة تفكك هذا النظام. وَبناءً على ما سبق يمكن فهم المخرجات المرجُوة مِن هذا التوجه في: تحرير ربط أسواق الطاقة العالمية بالدولار، والتحرر من الدولار باعتباره عُملة الاحتياط العالمية، وذلك مِن أجل التخلص مِن الهيمنة الأمريكية على أسْواق الطاقة وَالنظام المَالي العالمي، وَالتوجُه نحوَ نظام عَالمي جَديد مُتعدد الأقطاب، أو إلى نظام عَالمي شمُولي جَديد.
الطــاقة
تعد الطاقة وَبالأخص مَصَادرها، حَجْر الزاوية للاقتصاد والتنمية. وفي ظل تنامي حَضارة جديدة، نلاحظ اختلالاً عَميقًا في مجال الطاقة، ذلك أن عَالم اليوم يشهد انقسامًا وَشرخًا عَميقًا ناتجًا في الأساس عَن مفارقة الواقع مُقابل المستقبل؛ فمُحاولة التوجُه نحْوَ الطاقات المُتجددة -النظيفة- والاستثمار فيها، يعُد استثمارًا في المُستقبل، وخطوة استباقية للتحكم في طاقة المستقبل، وَمِن ثم في اقتصادات المستقبل، إلا أن ذات التوجُه قد يتداعى بالسلب عَن الاستثمار في الطاقات الأحفورية، مِمَا يتسَبَب في تراجُع التنمية الاقتصادية؛ خاصَة إذا أخذنا بعين الاعتبار التكلفة العالية في إنتاج الطاقات النظيفة وَبنيتها التحتية التي لمْ تكتمل بَعد، وغير القادرة في الوقت الراهن عَلى تغطية احتياجات الاقتصاديات المتوسطة والكبرى مِن الطاقة.
على هذا الأساس نُلاحظ تخبطًا في سِياسَات الدُول الغربية؛ حَيث يجنح اليسار إلى الاستثمار في الطاقات النظيفة؛ مَدفوعًا إلى ذلك بوَعدِه بمُستقل زاهر تستمر فيه الحَضارة الغربية كقوة مُهيمنة على الاقتصاد، وَبواجب إيطيقي (أخلاقي) نحَوَ البيئة وَالحفاظ على عَالمْ المستقبل. في حين نجد أن اليمين يجنح نحوَ استدامة الاستثمار في الطاقات الأحفورية لضمَان استمرارية ريادته الحالية، وانفكاكًا مِن مَسؤولياته الإيطيقة نَحوَ البيئة، مُعتبرًا أن هذه الأخيرة مَسؤولية عَالمية، وَتحَمُل مسؤولياتها مِن طرف الديمُوُقراطيات الغربية فقط، يمُكن الشموليات الرأسمَالية والبلدان الصناعية النامية -كالهند- مِن استغلال ذات المَصَادر دُون تحمُل تكاليف الحِفاظ على البيئة؛ الأمر الذي يُعطيها مِيزة تنافسية في الأسواق الاقتصادية الرَاهنة.
عالمْ المُستقبل
ينتمي المستقبل إلى مَن يتحكم في مفاتيحه؛ وفي ظِل اسْتقطاب حَضاري عَمّق الانقسام بَين الشموليات التي باتت تنتعِش، وَالديموقراطيات التي باتت تخبُو؛ لا يمكن الحُكم عن الشكل أو الأنموذج المثالي للحُكم أو السُلطة في النظام العَالمي المتشكل، وَمَع أننا نشهد جاذبية للأنموذج الليبرالي، إلا أن ذلك لمْ يمْنع الشمُوليات مِن النمُو وَالمنافسَة أو حَتى إمكانية السَيطرة على النظام المُتشكل.
نُلاحظ تخبطًا في سِياسَات الدُول الغربية؛ حَيث يجنح اليسار إلى الاستثمار في الطاقات النظيفة؛ مَدفوعًا إلى ذلك بوَعدِه بمُستقل زاهر تستمر فيه الحَضارة الغربية كقوة مُهيمنة على الاقتصاد، وَبواجب إيطيقي (أخلاقي) نحَوَ البيئة وَالحفاظ على عَالمْ المستقبل. في حين نجد أن اليمين يجنح نحوَ استدامة الاستثمار في الطاقات الأحفورية لضمَان استمرارية ريادته الحالية، وانفكاكًا مِن مَسؤولياته الإيطيقة نَحوَ البيئة
إذا افترضنا أن النظامْ العَالمي المتشكل سيكون مُتعدد الأقطاب؛ فذلك لا يستلزم بالضرُورة، تطورًا للإنسانية، ذلك أن الشمُوليات سَتكون مُشاركة في النظام الدَولي، وَمِن ثَمة مقوضة لليوتوبيا الليبيرالية التي تعِد الإنسان بالمزيد مِن الحرية والرخاء الاقتصادي. كمَا أننا نستبعد -وَليس بشكل مُطلق- نظام أحَادي تقودُه الشموليات الرأسمالية، لا لقوة المشرُوع الليبرالي؛ بَل للهشاشة الداخلية للمنظوُمَات الشمولية، التي بطبيعتها تنهي نفسها بنفسها، كمَا عَبر عن ذلك جورج أورويل في قوله “الشمولية تحمل بذور فنائها”، وَهذا مَا اختبرناه تاريخيًا مَعَ الشموليات اليمينية في أورُوبا الغربية، وَمَعَ الاتحاد السُوفياتي، وسائر الشموليات اليسارية في أوروبا الشرقية، وَعليه نفترض بقدر كبير مِن التفاؤل أن يكون هذا الافتراض صَحِيحًا، وأن يؤكده التاريخ مَرَة أخرى، وإن تتفكك هذه الشمُوليات الرأسمالية. هذا التوجُه ليس نصرة للمشروع الليبرالي الذي تقوده أمريكا، بقدر مَا هوَ نصْرة للكرامة الإنسانية، وَلحُرية الفرد بَدل حُرية المُجتمَعْ الذي فشل الأنموذج الماركسي في تحقيقه، لكونِه يوتوبيا غير قابلة للتحقق.
وَمَعَ ذلك يجب أن نؤكد أن النظام العالمي الجديد مُتصدِع وَلا يمكنه الاستمرار؛ خاصَة أن الامبراطورية الأمريكية باتت تضعُف وَتفقد مِن مُقوماتها الكثير؛ خاصَة فيما تعلق بهيمنتها على النظام المالي العالمي، وَاحتكار مَصَادر الطاقة وَالتحكم في أسواقها عَالميًا؛ الأمر الذي يفرض بالضرُورة التوجُه نحْوَ نظام عالمي جديد، مِن الطبيعي أن تكون أمريكا طرفًا رئيسًا فيه، لكن مِن المستبعد أن تكون الطرف الوَحيد وَالمُهيمن. هذا الافتراض قائمْ -خاصَة- إذا أخذنا بعَين الاعتبار المفارقة التي وقعَت فيها أمريكا: العولمة والاندماج مَعَ الحلفاء الأوروبيين، وبالتالي تكاليف وَمَسْؤوليات خارجية أكبر، أو الانعزالية الحِمائية وَخسارة الحُلفاء وَمِن ثمة انتفاء الإمبراطورية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.