“أنا إنسان، لدي كرامتي ومبادئي. لدينا قيمنا وأخلاقنا، ولسنا كما يصفنا الأسد. نحن جميعًا متعلمون، درسنا في الجامعات، لكنهم قتلونا جميعًا”. بهذه الكلمات، كان مازن حمادة يؤكد أن المعتقلين والمعارضين للنظام ليسوا كما يحاول بشار الأسد تصويرهم؛ بل هم أشخاص متعلمون، أصحاب مبادئ وأخلاق، خرجوا للمطالبة بالحرية والكرامة. لطالما تحدث عن القيم التي دفعته وأمثاله إلى الثورة، رافضًا الصورة المشوّهة التي سعى النظام إلى إلصاقها بالمعارضين.
في مقابلاته، كشف مازن حمادة عن فظائع التعذيب التي تعرّض لها، واصفًا جسده بأنه "ساحة حرب"، تمطره الضربات بلا هوادة، ومعاملته لمجرد رقم بين آلاف المعتقلين.
مازن ، ناشط حقوقي سوري من مواليد دير الزور عام 1977، برز اسمه خلال الثورة السورية عام 2011، لمشاركته الفعّالة في المظاهرات السلمية ضد نظام بشار الأسد. اعتُقل عدة مرات وتعرّض لأقسى أنواع التعذيب في سجون النظام، بما في ذلك الضرب المبرح، التعليق من المعصمين، التجويع، والاعتداءات الجنسية. بعدَ إطلاق سراحه، لجأ إلى هولندا؛ حيث واصلَ نشاطه في فضح ممارسات النظام السوري، مقدّمًا شهادات حيّة عن الانتهاكات التي تعرّض لها وشاهدها داخل المعتقلات.
في فبراير 2020، قرر مازن حمادة العودة إلى سوريا في ظروف غامضة، ليتم اعتقاله فور وصوله إلى مطار دمشق الدولي على يد أجهزة المخابرات الجوية. ظل مصيره مجهولًا حتى ديسمبر 2024، عندما عُثر على جثته في سجن صيدنايا، وعليها آثار تعذيب وحشي. أقيمت جنازته في دمشق بحضور مئات السوريين؛ حيث تم تكريمه كشاهد على جرائم النظام وضحية للانتهاكات المستمرة.
في مقابلاته، كشف مازن حمادة عن فظائع التعذيب التي تعرّض لها، واصفًا جسده بأنه “ساحة حرب”، تمطره الضربات بلا هوادة، ومعاملته لمجرد رقم بين آلاف المعتقلين. عبّر عن شعوره العميق بالعجز أمام معاناة من ظلوا محتجزين، مؤكدًا استعداده للتضحية بنفسه لإنقاذ الآخرين. جسّدت شهاداته حجم المأساة داخل سجون النظام السوري، وسلّطت الضوء على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ليظل صوته شاهدًا على معاناة ما زالت مستمرة.
تتقاطع الدموع مع التاريخ، وتصبح الآلام الجسدية مرآةً للوجع النفسي، نجد أن الأدب قادر بالفعل على تجسيد هذه الفصول المظلمة من الحياة بحرفية عالية. ففي مائة عام من العزلة، يصوّر غابرييل غارثيا ماركيز، أجيال عائلة بوينديا المحاصرة بلعنة التكرار والعزلة؛ حيث يبدو الهروب من مصيرهم أمرًا مستحيلًا. هذه الفكرة، التي صنعت عالمًا منفصلًا عن الزمن، تعكس واقعًا عاشه كثيرون، مثل مازن حمادة، الذي وجد نفسه عالقًا في دوامة القمع والظلم؛ حيث لم يكن مجرد شاهد على المأساة؛ بل أحد ضحاياها الذين كُتب عليهم مواجهة آلة الاستبداد بلا هوادة.
عندما يكتشف الإنسان في داخله غربةً لا مهرب منها، يجد نفسه محاصرًا بين جدران الزمن والمكان، مكبلًا بخيارات ضيقة تزداد قتامة، بينما يغرق في فخ العزلة المطلقة. هناك، يصبح التاريخ دائرة مغلقة، تكرر ذات الحكايات عن الفقد والوجع، تمامًا كما تتجلى في صفحات مائة عام من العزلة، وكما انعكست في حياة مازن، الذي تحوّلت معاناته إلى رمزٍ للتضحية في مواجهة قوى القهر؛ حيث صار الألم جزءًا من هويته، وسجنه امتدادًا لمأساة لا تنتهي.
في مائة عام من العزلة، لا تقتصر العزلة على كونها تجربة فردية؛ بل تتحوّل إلى معركة مريرة تخوضها الشخصيات ضد قوى تفوقها؛ حيث تصبح العزلة إما ثمرةً لخيارات غير صحيحة، أو نتيجة لهيمنة قوى قاهرة تسحق الأفراد والمجتمعات. إنها عزلة مفروضة بقدر ما هي مختارة، تحكمها دوامة من التكرار والقدرية، تمامًا كما هو الحال في حكايات القهر التي يعيد التاريخ إنتاجها بلا نهاية.
“إن العزلة لا تأتي فجأة؛ بل تتسلل إلى حياتك شيئًا فشيئًا حتى تصبح جدارًا لا ترى إلا ملامحه.” وكما في ماكوندو؛ حيث يجد أبطال مائة عام من العزلة أنفسهم عالقين في عزلة جغرافية وفكرية، كان مازن حمادة محاصرًا داخل زنزانات نظام قمعي لا يرحم، يعيش عزلة تفوق كل تصور، عزلة تتجلى في السجون السورية القاسية. وبينما عاشت أسرة “بوينديا” أسيرة دوامة الزمن والمكان، كان مازن أسير دائرة أخرى؛ دائرة من التعذيب والعزلة الوجودية التي ظلت تطارده حتى في منفاه، وكأنما كان يحمل سجنه داخله أينما ذهب.
كان ألم مازن مضاعفًا؛ فبينما كان جسده يتلقى أبشع صنوف التعذيب في المعتقلات، كان عقله يرزح تحت وطأة عبء نفسي لا يقل وحشية. “إن الجسد لا ينسى الألم مهما مر عليه من زمن، كما أن العقل لا ينسى الخيبات التي لحقت به”.
وكما كان خوسيه أركاديو بوينديا في مائة عام من العزلة، يرزح تحت ثقل معاناته الداخلية، غارقًا في عزلة لا فكاك منها، عاش مازن تجربة مماثلة في الواقع. كل ضربة تلقاها لم تكن مجرد ألم جسدي عابر؛ بل كانت خيطًا جديدًا ينسج سجنه النفسي، يعيده إلى تلك الحلقة المفرغة من العذاب، وكأن الزمن نفسه كان يتآمر عليه ليعيدهُ إلى نفس الحلقة التي لا نهاية لها.
كان التكرار من السمات المركزية في مائة عام من العزلة؛ حيث يعيد التاريخ نفسه جيلًا بعد جيل، وتجد عائلة بوينديا نفسها عالقة في مصير محتوم، مهما حاولت الهروب منه. وكما كتب ماركيز: “كلما حاولت الشخصيات الهروب من الماضي، عاد الماضي ليحكم عليهم مرة أخرى”.
هذا التكرار القاتل لا يمكن فصله عن معاناة مازن “حمادة”، الذي لم يكن مجرد ضحية لعنف لحظي؛ بل لدوامة متكررة من الاعتقال والتعذيب، وكأن حياته كانت مساقًا حتميًا نحو المصير ذاته. حتى بعد نجاته وخروجه من سوريا، عاد إليها ليواجه نفس العذاب، وكأن الزمن قد التفّ حوله ليعيده إلى نقطة البداية. لقد كانت حياته أشبه بحلقة مغلقة؛ حيث ظل الأمل في الخلاص سرابًا، وبقيت دائرة العنف والتعذيب والموت تطارده بلا هوادة.
في كلّ مرة يظن فيها مازن أنه نجح في الهروب من سجونه، يجد نفسه عائدًا إلى دوامة القهر ذاتها، وكأن حياته ليست سوى إعادة تدوير لمأساة مريرة. في هذا المعنى، تتقاطع معاناة مازن مع التكرار القاسي للزمن في مائة عام من العزلة؛ حيث يصبح الهروب مجرد وهم، والماضي شبحًا يطارد الحاضر بلا هوادة. وكما كتب ماركيز: “الزمن لا يرحم، لا يتوقف ولا يمل؛ بل يعيد نفسه لا محالة.”
وهكذا، وجد مازن نفسه عالقًا في نفس المعركة، يتجرّع ذات الألم، ويواجه ذات الخيبة، رغم محاولاته المتكررة لكسر قيد سجونه، سواء أكانت مادية داخل زنازين النظام، أو معنوية في ذاكرته المثقلة بالعذاب.
لم يكن التعذيب الذي تعرّض له مازن حمادة مجرد آلامٍ جسدية؛ بل كان معركة نفسية مستمرة، تلاحقه حتى بعد خروجه من السجن؛ فالتعذيب لا يعني دائمًا قتل الجسد، لكنه قد يحوّل الروح إلى سجنٍ آخر لا فكاك منه، تمامًا كما حدث مع العديد من شخصيات مائة عام من العزلة، الذين ظلّت أجسادهم على قيد الحياة، بينما غرقت أرواحهم في عزلةٍ وانهزام. وكما قال ماركيز: “إن البشر يصبحون في النهاية كالأشباح، يتجسدون في أجسادهم ولا يقدرون على الهروب من داخلهم”، هكذا كان مازن، جسده هنا، لكنه كان في مكان آخر، تكافح روحه للبقاء، وسط اللامبالاة والتعذيب الذي تجاوز حدود الزنازين، ليصبح سجنًا داخليًا لا مفرّ منه.
سيبقى ألمُ مازن محفورًا في ذاكرة التاريخ، تمامًا كما ظلّت ماكوندو حيّة في ذاكرة الأدب، تروي قصصًا عن العزلة التي تحاول كسرها إرادة الإنسان في سعيه للحرية.
ورغم ذلك، لم تكن مائة عام من العزلة مجرد سردٍ للمعاناة؛ بل كانت أيضًا تعبيرًا عن صمود الأفراد أمام القوى التي تحاول سحقهم. وهكذا كان مازن حمادة، رغم ما مرّ به من آلام جسدية ونفسية، ثابتًا على قناعاته، متمسكًا بالدفاع عن الحرية والعدالة حتى النهاية.
هذا الصمود أمام قوى الظلم والقمع يتجسّد في قول ماركيز: “الإنسان الذي لا يستطيع الهروب من التاريخ، يصبح عبدًا له.” لكن مازن، رغم تكرار المأساة، لم يكن عبدًا لمصيره؛ بل ظلّ يقاوم حتى اللحظة الأخيرة، رافضًا الاستسلام لآلة القمع التي حاولت محو صوته وإرادته.
إنّ مازن؛ في مقاومته الصلبة، لم يكن يقاوم القمع فحسب؛ بل كان يصارع عواقب التاريخ الذي حاول طمسه. لكنه، كما تعلّمنا مائة عام من العزلة، لم يكن مجرد فرد في معركة شخصية؛ بل جزءًا من دورة أوسع من المعاناة والأمل، الألم والصمود.
مازن حمادة، مثل شخصيات ماركيز، يظلّ حاضرًا في ذاكرة هذا التاريخ، رمزًا لإنسانٍ عالق في دوامة المآسي السياسية والإنسانية؛ حيث لا تتوقف الحكاية عند معاناته؛ بل تمتدّ لتصبح شهادة على مصير أمة بأكملها.
“إن التاريخ لا يغفرُ لأحد، ولكنه لا ينسى أحدًا أيضًا”.تلخّص تلك الكلمات رحلتهما، رحلة مازن وحياة شخصيات ماركيز؛ حيث تتشابك العزلة والمعاناة مع الصمود والمقاومة. وكما بقيت أسرة بوينديا عالقة في دورة لا تنتهي من المصير المحتوم، سيظلّ مازن رمزًا لمعاناة تجاوزت حدود الفرد، لتصبح شهادة على ظلمٍ أكبر، لكنه أيضًا رمزٌ للأمل—لأنّ النهايات، مهما كانت مأساوية، قد تكون في الحقيقة بداياتٍ جديدة تُكتبُ في ذاكرة التاريخ.
وكما يبدو لي أخيرًا، ستظلّ كلّ الحكايات البشرية، بما في ذلك حكاية مازن وحكاية بوينديا، تتلاقى في حوارٍ عميق حول المعاناة والتكرار، والأمل الذي لا يموت. وسيبقى ألمُ مازن محفورًا في ذاكرة التاريخ، تمامًا كما ظلّت ماكوندو حيّة في ذاكرة الأدب، تروي قصصًا عن العزلة التي تحاول كسرها إرادة الإنسان في سعيه للحرية.