في المشهد الافتتاحي لفيلم Kill Bill، كانت العروس مضرجة بالدماء، تُحدّق في عيني قاتلها قبل أن يغرقها الظلام. لم يكن موتها سوى بداية رحلة انتقام طويلة، لم تهدأ إلا بعد أن سقط آخر أعدائها. لكن عندما وقفت أخيرًا فوق جثة بيل، بعد سنوات من التخطيط والقتال، هل شعرت حقًا بالتحرر؟ أم أن الانتقام لم يكن سوى وهم، يستهلك الروح أكثر مما يداويها؟ من هاملت الذي أغرقته الحيرة قبل أن يثأر، إلى الكونت دي مونت كريستو، الذي أدرك بعد فوات الأوان أن انتقامه لم يمنحه السعادة، تكررت الحكاية بأشكال مختلفة.
هل الانتقام استعادة للكرامة أم مجرد خطوة تغذي مشاعر الكراهية والندم؟
“لا يمكن لنفسي أن تستريح، وأنا أرى قاتل أبي، يسرح ويمرح”.. تطرح شهادة محسن (٣٣ عامًا) مهندس إلكترون لـ”مواطن”، تساؤلات هامة، هل يحررنا الانتقام من مشاعر المرارة؟ هل سنغدو في حالٍ أفضل بعد الانتقام؟ كيف يمكن أن نضمن سير عملية الانتقام دون إلحاق الأذى بأبرياء، دون أن ندخل في حلقة مفرغة من الانتقامات العبثية؟
يُنظر إلى مسرحية “هاملت”، أعظم مسرحيات شكسبير، على أنها تجسد مأساة الانتقام، ولكنها في الواقع مأساة غريبة؛ إذ تدور أحداثها حول بطل يقضي معظم وقته في التفكير بالانتقام بدلًا من المطالبة به.
وعندما يعجز هاملت عن الانتقام لمقتل والده، ووفاة معظم الشخصيات الرئيسة في طريق الانتقام، يعاني هاملت نفسه من العذاب بسبب تردده وعجزه عن الثأر من قاتل والده، كلوديوس، طوال المسرحية.
والمثير للاهتمام، أنه عندما يقتل كلوديوس وينتقم لأبيه، يكون الأوان قد فات بالنسبة له، ولم يحقق له انتقامه أي رضى؛ فقد ضربه ليرتيس بسيف مسموم، ومات هاملت بعد فترة وجيزة.
تأخر “هاملت” في الانتقام، لم يكن بغرض بناء سردية الانتقام، وإنما طريقة استخدمها شيكسبير لبناء التعقيد النفسي والعاطفي لهاملت، وتنتهي المسرحية وكأنّ الانتقام فكرة ثانوية، وربما مخيبة للآمال، الانتقام غريزة إنسانية قديمة، نلجأ إليها بحثًا عن العدالة أو لإطفاء نار الغضب. لكنه يطرح أسئلة عميقة: هل يحقق الانتقام الرضى؟ أم يغرق صاحبه في دوامة لا تنتهي من الألم؟ هل الانتقام استعادة للكرامة أم مجرد خطوة تغذي مشاعر الكراهية والندم؟ من “هاملت” إلى تجارب الحياة الواقعية، تتباين الرؤى حول جدوى الانتقام، بين من يراه ضرورة نفسية أو مجتمعية، ومن يعتبره عبئًا يفاقم المعاناة. فهل الانتقام مُرضٍ حقًا لصاحب الثأر؟ أم أنّ رحلة الانتقام تستهلك طاقة المسافر في طريقها دون نقطة نهاية؟
الدوافع السيكولوجية للانتقام
يعتبر الانتقام موضوعًا شخصيًا في أغلب الحالات، مدفوعًا بقوة العاطفة، وكثيرًا ما يكون الدافع وراء الانتقام في البداية هو الغضب، لكنه في العمق مدفوع بتحقيق الرضى عن النفس أو المتعة المتوقعة، وكثيرًا ما تكون القوة الدافعة القوية للانتقام، هي الاعتقاد بأن التعبير عن الرغبة في الانتقام سيوفر تحررًا عاطفيًا من آثار الإيذاء، ليساعدنا على الشعور بتحسن.
ويمكن تصور الانتقام كمحاولة لاستعادة توازن القوة الذي دمره الخصم، وغالبًا ما يكون محفوفًا بالمخاطر ومكلفًا بالنسبة للأفراد، وقد يصبح مدمرًا تمامًا على المستوى الاجتماعي. وعلى المستوى الفردي؛ فإن الانتقام يعني خطر التعرض لهجوم مضاد، سواء أكان من قبل الخصم أو أقاربه، وهو مكلف بسبب الجهد الذي يتطلبه.
وعلى المستوى الاجتماعي؛ فإن الانتقام قد يؤدي إلى ظهور العداوات والثارات، حين تقاتل مجموعات بأكملها بعضها بعضًا؛ فتضيع الموارد البشرية والمادية في صراع الثأر والانتقام. ورغم ذلك؛ ما زال جزءًا من ذخيرتنا السلوكية؛ فالبشر ينتقمون باستمرار؛ سواء أكان على نطاق فردي أو جماعي. فكيف يمكن للانتقام أن يستمر إذا كان مكلفًا وغير فعال؟ لماذا ما زال البشر يلجؤون إلى الانتقام عندما يتفاعلون مع الظلم الذي تعرضوا له؟
نظرية الفهم، والمعاناة المقارنة
يجاوب الدكتور حسين موسى، اختصاصي في الطب النفسي؛ في حديثه لـ”مواطن”: “إن المنتقم يريد أن يضمن شعور المعتدي بالمعاناة الكافية لاعتبارها مكافئة لمعاناة الضحية (نظرية المعاناة المقارنة)، وبذلك قد يواصل المنتقم انتقامه حتى إدراكه أن المعتدي يعاني للدرجة التي يعتقدها كافية أو مكافئة”.
ويطرح تفسيرًا آخر: “يهدف الانتقام لإيصال رسالة يفهمها المعتدي على أنها عقاب على ما فعله (نظرية الفهم)، وقد تكون شدة الانتقام هنا كبيرة، ليتمكن المنتقم من معرفة أن الرسالة وصلت، وأن المعتدي يدرك أنه نال جزاء فعلته لدرجة الشعور بالحزن والذنب، وتعهده بعدم تكرار ذلك”.
الانتقام يسبب الاكتئاب
وعما إذا كان الانتقام يحقق الرضى، يؤكد موسى “إن المنتقمين يظنون أنهم سيشعرون بتحسن بعد الانتقام، لكن غالبية المنتقمين يبقون عالقين في الماضي، والكثير منهم يعانون من أعراض اكتئابية، كما يعاني بعضهم من قلق وخوف مفرط من تعرضهم لانتقام مضاد”.
ويتفق كلام موسى مع نتائج الدراسات التي أكدت أنه على الرغم من كون الانتقام مُرضيًا في البداية، إلا أنه يديم الألم الناجم عن الجريمة الأصلية، بالإضافة إلى ذلك؛ فإنه غالبًا ما يخلق حلقة مفرغة من الانتقام؛ حيث يستشهد الضحية بالجريمة الأخيرة كمبرر آخر لمزيد من الانتقام. وتعمل المشاعر والسلوكيات الانتقامية على تدريب الدماغ ليصبح أكثر عرضة للسعي إلى الانتقام.
يقول فرانسيس بيكون ذات يوم: "عندما ينتقم الإنسان؛ فإنه يكون على قدم المساواة مع عدوه؛ ولكن عندما يتجاوز عن الانتقام؛ فإنه يتفوق"
وأشارت، إلى أن الانتقام لا يكون مرضيًا لصاحبه، إلا عندما يفهم المذنب أسباب إقدام الضحية على الانتقام. ومن بين المشاركين في الدراسة ممن اختاروا الانتقام من الفعل الأناني؛ فقد شعروا بالرضى عندما تلقوا رسالة تفهم من المذنب، أكثر بكثير من أولئك الذين تلقوا استجابة غاضبة من المذنب.
والواقع أن المرة الوحيدة التي شعر فيها المنتقمون برضى أكبر من المشاركين الذين لم ينتقموا على الإطلاق، كانت عندما تلقوا إشارة على الفهم. وبعبارة أخرى؛ فإن الانتقام غير المعترف به لا يختلف عن عدم الانتقام، يعني هذا أنّ الانتقام الناجح لا يتعلق فقط بالانتقام، وإنما بإيصال رسالة معينة.
مضيعة للوقت
رغم أننا نعيش في ثقافة يركز أفرادها على الغضب والانتقام بصفتها معايير للرجولة والذكورة، وهي ثقافة تؤكد على الفعل بدلًا من التأمل، وتكون متسرعة ومتعجرفة بدلًا من التفكير المتأني قبل الإقدام على الفعل، وتسارع إلى إلقاء اللوم على الآخرين عند كل مشكلة تعترض طريقهم؛ ما يدعم الاستقطاب المذهبي والسياسي الذي يزدهر على مشاعر الغضب وأعمال الانتقام.
لكنّ محمدًا (٣٦ عامًا)، يعمل طبيبًا، له وجهة نظر مغايرة لمحيطه يحكيها لـ”مواطن”: “لا أرى في الانتقام فكرة إيجابية أو حقيقية، إنه يستهلك مني الوقت والجهد، وغالبًا ما تكون النتائج سلبية، وبدلاً من أن يحقق السكينة لصاحبه، يزيد الطين بلة، ويدخل في حلقة مفرغة”.
وتابع: “الكثير من الناس حولي، يلومونني على هذا السلوك، ويعتبرونه ضعفًا وعجزًا، لكني أعتقد أنّ الوقت أصبح سريعًا وقصيرًا في ظل التطور الرهيب للحياة، لذا أعتقد أنّ الانتقام مضيعة لأهم عملة في الحياة، وهي الوقت”.
ضرورة جماعية
لكن “فراس” (٣٠ عامًا)، مهندس اتصالات، يرى موضوع الانتقام من زاوية أخرى، يشرحها لـ”مواطن”: “قد يكون الانتقام على الصعيد الفردي أمرًا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه، لكنه على المستوى الجمعيّ له تأثير آخر؛ فعندما يحصل الاعتداء أو الأذى على الملأً؛ فإنّ القضية قد تخرج عن الإطار الشخصي، لتأخذ أبعادًا طبقية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية”.
وأضاف “يجب تحقيق نوع من الانتقام في هذه الحالات، كيلا يتحول الأمر لمظلومية تتوارثها أجيال المجموعة نفسها، وهنا لا أتكلم عن الانتقام بالمعنى الهمجي؛ بل انتقام تم تقليم أظافره ليتناسب مع روح العصر، ولعل أفضل طريقة هي القانون”.
وكما قال فرانسيس بيكون ذات يوم: “عندما ينتقم الإنسان؛ فإنه يكون على قدم المساواة مع عدوه؛ ولكن عندما يتجاوز عن الانتقام؛ فإنه يتفوق”، وهذا ما تمظهر على أرض الواقع في جنوب إفريقيا من خلال لجنة الحقيقة والمصالحة، التي أثبتت أنّ العدالة التصالحية تساعد الضحايا في إيجاد سلام دائم، تؤدي إلى إعادة تأهيل حقيقية لمرتكبي الجرائم. بالطبع، لا تنجح إلا عندما يكون الجناة على استعداد حقيقي لقبول المسؤولية وإصلاح أنفسهم، مع وجود شرط ملزم؛ وهو موافقة الضحايا بقناعة دون أي ضغط؛ فالمسامحة لا يمكن أن تُفرض.
الانتقام المفيد
بينما أسعد (٢٧ عامًا) خريج كلية الأدب العربي؛ فيقول لـ”مواطن”: “لم يفدني الانتقام بشيء سوى في تعميق المشكلة، لذلك عندما أتعرض للأذى أحاول رد اعتباري بطريقة غير انتقامية، وأحاول كبح الأصوات الداخلية والخارجية التي تجري نحو أفعال انتقامية، وأحاول النظر للموقف بتجرد لأرى أين أخطأت إن كنت قد أخطأت، لأنظر لذاتي من زاوية الإصلاح، إنني أنتقم ممن آذاني بأن أعمل أكثر وأكون سعيدًا في حياتي، أحاول بذل جهد في أمر مفيد، وأنا بهذا أنتقم ممن يريد أن يراني في حال سيئة”.
وعليه، نلاحظ في شهادتي “فراس وأسعد” طرح بدائل صحية للانتقام، يناقشها الدكتور حسين موسى من وجهة نظر الطب النفسي، مشيرًا في حديثه لـ”مواطن” إلى أنّ ذلك الطعم المرّ للانتقام، يقابله قدرة على التكيف والأداء والتخطيط للمستقبل لدى المتسامحين، ويشرح: “لذلك يكونون بصحة نفسية وجسدية أفضل، قد يكون التسامح خيارًا صعبًا لمن ما زالوا يعانون من آثار الاعتداءات السابقة؛ بل إن إدراكهم أن التغيير قد تحقق نحو عدالة حقيقية تعاقب المخطئ، وتضمن عدم تكرار ما تعرضوا له من اعتداء، ذلك ما قد يساعدهم على الشعور بالرضى وتخفيف غضبهم والحداد على مرحلة الصدمات السابقة”.