تتبع الإمارات سياسة لتحقيق مصالحها في الصومال يمكن تسميتها بعلاقات “المركز والأطراف”؛ تنسج فيها علاقات وتبني شبكات نفوذ بالاتصال المباشر بالحكومة الفيدرالية في مقديشو، وبالتوازي مع الأطراف المحلية الفاعلة التي تحافظ على نفوذ شبه مستقل عن العاصمة. تتمثل الأطراف في إقليم صوماليلاند، المعلن استقلاله من طرف واحد، وولاية بونتلاند، التي تتمتع بحكم شبه ذاتي، وولاية جوبالاند ذات العلاقة دائمة التوتر مع مقديشو.
بحسب الدستور الصومالي، تحتكر الحكومة الفيدرالية العلاقات الدولية، لكن واقع الحال وظروف نشأة الدولة في الصومال في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، جعل من الأطراف سابقة الذكر كيانات تناطح مقديشو في سلطتها، من خلال عقد اتفاقيات دولية مع دول، على غرار كينيا وإثيوبيا والإمارات. وتحافظ الأخيرة على علاقات قوية مع الفرقاء السابقين؛ ما يطرح سؤالاً حول مصالحها من وراء هذه السياسة، وكيف ينظر المركز والأطراف في الصومال لها؟
علاقات متقلبة بمقديشو
بعد تنصيب الرئيس حسن شيخ محمود لولاية رئاسية ثانية، في مايو/ أيار 2022، شهدت العلاقات بين الصومال والإمارات دفعةً قويةً، بعد أربعة أعوام من التوتر في عهد سلفه الرئيس السابق أحمد محمد عبد الله فرماجو، كما اختار زيارة أبوظبي كأول وجهة خارجية. خلال الزيارة، اتفق الجانبان على استئناف الإمارات كافة أنشطتها الأمنية والسياسية، وهو ما تُوّج بإعادة تشغيل مركز تدريب الجنرال “غوردن”، إضافة إلى تمويل تدريب ورواتب وحدات من الشرطة العسكرية في أوغندا وإثيوبيا، نُشرت في العاصمة مقديشو، مما ساهم في تعزيز الأمن بشكل لافت.
ما زالت سياسة الإمارات في الصومال مخالفة للأعراف الدولية، لكنها من جانب آخر نتيجة للإخفاقات الصومالية الداخلية؛ فهي لم تصنع الانقسامات بين مقديشو والولايات، وفي الوقت نفسه هي براغماتية تخدم مصالحها.
يعلق المحلل السياسي المختص في شؤون القرن الإفريقي، عبد الرشيد موسى سعيد، بقوله: “إن قرار الإمارات بوقف مساعداتها المالية والأمنية نتيجة غضبها من مقتل ضباطها، إلى جانب عوامل أخرى، من بينها عدم ارتياحها لطريقة إدارة الأموال التي تقدمها لمقديشو، إضافة إلى تنامي نفوذ شخصيات محسوبة على الإخوان المسلمين داخل الحكومة الفيدرالية”. ويضيف لـ”مواطن” أنّ الإمارات لا تدعم إدارة حسن شيخ سياسيًا، لكنها تتعامل معها بحكم المصالح فقط، مؤكدًا أنه لم يكن مرشحها في انتخابات 2022، لكنه كان خيارًا مقبولًا في مواجهة خصمها الرئيس السابق.
بعد مرور عام، قام حسن شيخ بزيارة إلى أبو ظبي في مارس/ آذار الماضي، لإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، وبدورها أرسلت أبو ظبي وفدًا دبلوماسيًا رفيع المستوى برئاسة وزير الدولة للشؤون الخارجية، شخبوط بن نهيان إلى مقديشو، كتأكيد على متانة العلاقات بين البلدين. يذهب الأكاديمي الصومالي عباس عمر حسن، إلى أنّ الإمارات تعتمد سياسة النفاق في إدارة علاقاتها مع الكيانات الصومالية، حيث تتعامل معها وفق مصالحها الخاصة، متجاهلة القانون الدولي والأعراف التي تؤكد على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
متابعًا لـ”مواطن” بأنّ ضعف القيادات الصومالية أمام التدخلات الإماراتية يعود إلى غياب الحماية أو فقدان التحالفات الاستراتيجية مع الدول ذات النفوذ العالمي، كما أن التدهور الاقتصادي والسياسي والأمني تعد عوامل رئيسة في تسهيل مثل هذه التدخلات. في السياق ذاته، قال وزير الأمن السابق حسن حندبي جمعالي إنه: “ما دامت بعض الولايات مثل بونتلاند وجوبالاند تتوجه إلى أبوظبي ودول أخرى لعقد تفاهمات بمعزل عن الحكومة الفيدرالية؛ فإن تحقيق المصالحة بين هذه الولايات والحكومة الفيدرالية سيظل مستبعدًا، نظرًا لممارستها صلاحيات تتجاوز نطاق سلطاتها الدستورية”.
بخلاف ذلك، يؤكد الكاتب الإماراتي محمد بن فيصل الدوسري، على أنّ الإمارات تتبنى سياسة خارجية تقوم على مبادئ واضحة وثابتة، مستمدة من رؤيتها الاستراتيجية ومبادئها العشرة للخمسين عامًا المقبلة. مشيرًا لـ”مواطن” إلى أنّها تقوم على الحياد الإيجابي، والابتعاد عن سياسة المحاور، والالتزام بالاستثمار في الاستقرار والتنمية كركائز أساسية للعلاقات الدولية.
ويذكر مضيفًا، أنّ الدور الإماراتي في الصومال لم يكن وليد اللحظة؛ بل يمتد لعقود خلت؛ حيث انخرطت الإمارات في جهود حفظ السلام منذ التسعينيات، وقدّمت دعمها الإنساني والتنموي في مختلف المراحل، كما كان لها دور فاعل في مكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات الأمنية، وهو ما تجلّى في دعم الجيش الصومالي الذي حقق انتصارات ملموسة ضد حركة “الشباب” الإرهابية.
عيون على الموانئ
ليست الإمارات وحدها من تنتهج سياسة التواصل مع الولايات الفيدرالية من دون علم مقديشو، وسبقتها في ذلك كينيا وإثيوبيا. من جانب آخر، يغري الواقع الصومالي بممارسة هذه السياسية؛ إذ تشكلت كيانات إدارية محلية قبل تأسيس السلطة الفيدرالية في مقديشو؛ مثل حالتي صوماليلاند التي أعلنت استقلالها من جانب واحد منذ عام 1991، وبونتلاند التي تأسست كولاية عام 1998، بينما تأسست السلطة الفيدرالية في مقديشو عام 2004، ولم تمارس سلطتها من داخل مقديشو حتى 2006، وبدعم من قوات إثيوبية وبعثة الاتحاد الأفريقي العسكرية؛ فما زالت سلطتها الفعلية محدودة وقاصرة على مساحات محددة في البلاد.
حتى اليوم، لا تملك مقديشو أي نفوذ على صوماليلاند، كما أنّها في قطيعة شبه دائمة مع بونتلاند وجوبالاند، رغم اعترافهما بالحكومة الفيدرالية بخلاف صوماليلاند. يُضاف إلى ما سبق، أنّ سياسات هذه الأطراف المحلية أكثر ثباتًا مقارنةً بمقديشو؛ ففي صوماليلاند وبونتلاند توجد رؤى وتوجهات عامة يحافظ عليها الرؤساء والحكومات التي تتغير في انتخابات دورية، وفي جوبالاند يهيمن رئيسها أحمد محمد إسلام مدوبي، على السلطة منذ تأسيسها في 2013، ما يضمن استقرارًا سياسيًا ذا نزعة استبدادية، بخلاف مقديشو التي تشهد سياسات وتوجهات تختلف على حسب ساكن فيلا صوماليا.
تبعًا لهذا، توجهت أبوظبي لإقامة علاقات مع ما يمكن تسميتها قوى الأمر الواقع الحقيقية، التي تملك تسهيل أو تعطيل مصالحها؛ خصوصًا في الموانئ البحرية الكبيرة والثروات المعدنية التي توجد تحت سلطة الولايات.
كانت بداية تطبيق هذا التوجه في عام 2016، حين وقعت شركة موانئ دبي العالمية، اتفاقية ثلاثية مع صوماليلاند وإثيوبيا، لتطوير وتشغيل ميناء بربرة لمدة 30 عامًا، واستلمت الشركة الميناء في 2017، وزادت حصتها إلى 65% بعد انسحاب إثيوبيا، وبدورها رفضت مقديشو الاتفاقية واعتبرتها باطلة. على نفس المنوال، وقعت الشركة اتفاقية مماثلة مع حكومة ولاية بونتلاند، مطلع عام 2017، باستثمارات قدرها 336 مليون دولار أمريكي، لتطوير ميناء بوصاصو، وهو ما رفضته مقديشو، لكن الشركة تسلمت إدارة الميناء رغم اعتراضات الأخيرة.
يوجد خمسة موانئ بحرية تجارية في الصومال؛ مقديشو الذي تشغله شركة “البيرق” التركية، وبوصاصو وبربرة اللتين تديرهما شركة موانئ دبي العالمية، وكسمايو الذي تديره سلطات ولاية جوبالاند، وميناء جرعد الذي أسسه مستثمرون محليون حديثًا، وتديره شركة “وذا غسن” المحلية. باستثناء ميناء مقديشو، سعت الإمارات إلى الاستحواذ على مينائي “كسمايو” و”جرعد”، عبر مفاوضات مع مقديشو -قبيل الصدام مع جوبالاند- بشأن الميناء الأول، ومع حكومة بونتلاند وشركة “وذا غسن” حول الثاني، لكن هذه المساعي لم تُثمر بعد عن اتفاقيات.
مواضيع ذات صلة
يرى “حسن” أنّ أهداف الإمارات من إدارة الموانئ تتجاوز مجرد الاستثمار، وتسعى إلى إبقاء البلد تحت نفوذها عبر السيطرة على مصادر الدخل، بهدف تعزيز موقعها في المنافسة مع الدول الخليجية الأخرى المنخرطة في المشهد الصومالي، وعلى مستوى المنطقة بشكل عام. من جانبه، يضيف “سعيد” أن للإمارات مصالح جيوسياسية واقتصادية في الصومال، ولتحقيقها تعمل على السيطرة على الموانئ، نظرًا لموقعها الاستراتيجي المطلّ على خليج عدن والمحيط الهندي، مُفصلًا بأنّ الاهتمام ينصب على ثلاث ولايات: صوماليلاند، وبونتلاند، وجوبالاند، بينما تركز على كسب النفوذ السياسي في مقديشو، لضمان وجود قيادة لا تعرقل أنشطتها وتحركاتها في تلك الولايات.
من جانبه، يقدم “الدوسري” مقاربة مختلفة، ويرى أنّ الاستثمار في أرض الصومال عبر الشركات الوطنية الإماراتية مثل موانئ دبي العالمية، أمر ليس بغريب. ويعقب بأنّ الاقتصاد والتنمية والازدهار هي محركات السياسة الإماراتية، وميناء بربرة هو نموذج لهذا التوجه؛ حيث يشكل نقطة ارتكاز اقتصادية مهمة في القرن الأفريقي، ويخدم اقتصادات دول أفريقية مجاورة، ويسهم في وصول التجارة العالمية للأسواق الأفريقية والعكس.
إلى جانب قطاع الموانئ، تهتم الإمارات بالاستثمار في استخراج الثروات المعدنية التي ما زالت بكرًا، فقد وقّعت شركة (Emirates Industrial Laboratory) المتخصصة في مجال المعادن عقدًا مع حكومة صوماليلاند لإنشاء مركز لفحص المعادن التي تستخرج تحت سلطتها. مرة ثانية لا تمثل الإمارات حالة فريدة؛ حيث توقع شركات عديدة اتفاقيات مع حكومة صوماليلاند.
شبكات نفوذ عسكرية
"الاقتصاد والتنمية والازدهار، هي محركات السياسة الإماراتية، وميناء بربرة نموذج لهذا التوجه."
محمد بن فيصل الدوسري، كاتب إماراتي
قدمت الإمارات دعمًا عسكريًا لولايتي بونتلاند وجوبالاند، الخصمين اللدودين للحكومة الفيدرالية، شمل أسلحة ومركبات مدرعة، كما تعد الداعم الأكبر لبونتلاند ماليًا وعسكريًا، في الحرب ضد تنظيم داعش منذ بداية العام الجاري، وتقدم الإسناد الجوي عبر غارات الطائرات المسيرة، ويأتي الدعم ضمن جهود مساعدة الولايات في حربها ضدّ الجماعات المصنفة إرهابيةً في المقام الأول.
يعقب “سعيد” بأن الإمارات إلى جانب أهدافها المعلنة المتمثلة في تدريب القوات الصومالية، لديها أهداف مرتبطة بالتوسع الإقليمي، وتحقيق مصالح جيوسياسية واقتصادية.
من جانبه، يوضح “الدوسري” أنّ من الضروري النظر إلى سياسة إقامة علاقات مع أقاليم غير الحكومة المركزية من زاوية المصالح الاقتصادية والتنموية، وليس من منظور التدخل السياسي. متابعًا بأنّ التعامل مع الإدارات المحلية في مناطق مثل أرض الصومال، هو جزء من ديناميكيات الواقع الجيوسياسي والاقتصادي في المنطقة، وليس موجهًا ضد الحكومة الصومالية المركزية.
تبدو مقاربة الإمارات هشة على المدى البعيد؛ حيث يرتبط بقاء مصالحها بالمزاج السياسي في مقديشو والولايات الفيدرالية، دون أن يكون مؤسسًا على علاقات طيبة مع جميع الأطراف، على غرار الاستثمارات والتواجد التركيين. ولعل الرسالة المنسوبة إلى الرئيس حسن شيخ، والموجهة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تقدم مثالًا على هشاشة المقاربة الإماراتية؛ حيث عرض الأول فيها على الثاني الاستحواذ على قواعد جوية في صوماليلاند ومقديشو، بالإضافة إلى مينائي بربرة وبوصاصو اللذين تديرهما شركة دبي العالمية، علاوةً على أنّ الافتقاد للأساس القانوني في توقيع الاتفاقيات مع الولايات الإقليمية وصوماليلاند قد يُستخدم ضد الإمارات حال تغيرت الظروف في البلاد.
إلى هذا، تلتزم أبو ظبي بسياسة الصومال الواحدة، ولم تدعم استقلال صوماليلاند، وهي شبيهة في موقفها بالعديد من دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي تستقبل كبار المسؤولين في صوماليلاند، رغم الالتزام الواضح بمبدأ الصومال الواحد.
ورغم هذا؛ فما زالت سياسة الإمارات في الصومال مخالفة للأعراف الدولية، لكنها من جانب آخر ونتيجة للإخفاقات الصومالية الداخلية؛ فهي لم تصنع الانقسامات بين مقديشو والولايات، وفي الوقت نفسه هي براغماتية تخدم مصالحها، وتفيد قطاعًا واسعًا من أبناء البلد، لكنها لا تعبأ بالتأثيرات السلبية التي تخلفها، وعلى رأسها تعميق الانقسامات الداخلية في البلد الهش، الذي ما زال يعاني من تبعات انهيار الحكومة المركزية عام 1991.