واقع عسكري معقد واجهته إسرائيل في الحرب الأخيرة بسبب القتال في عدة جبهات مباشرة، والاشتباك مع جبهات دعم وإسناد عابرة للحدود، توظف تقنيات تشمل مسيّرات وصواريخ. ونظرًا لواقع الجغرافيا فقد كان العمق الإسرائيلي وما زال مهددًا؛ ما خلق فرصًا كبيرةً للشركات التي تعمل في صناعات الدفاع والأمن؛ خاصة التي تقدم حلولًا لمواجهة المخاطر المرتبطة بالتقنيات الحديثة.
برزت شركة ”ثيرد-آي” “ThirdEye Systems” من بين الشركات الناشئة التي وجدت فرصًا للتوسع خلال الحرب، وحققت نجاحات ملموسة تُرجمت في ارتفاع قيمة أسهمها بنسبة 50%. دفع هذا النجاح مجموعة “إيدج” للتكنولوجيا المتقدمة، ومقرها أبوظبي، للاستثمار في الشركة، وسبق ذلك استثمار شركة أسسها جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي ترامب، ومولتها قطر والإمارات والسعودية؛ في مجموعة صناعية إسرائيلية، تزود إحدى الشركات التي يستثمر فيها الجيش الإسرائيلي بجزء معتبر من احتياجاته الدفاعية.
تطرح هذه النوعية من الاستثمارات تساؤلات مشروعة، بسبب تورط الشركات الإسرائيلية في العدوان على قطاع غزة وجنوب لبنان وسوريا، من خلال تطوير وتوريد التكنولوجيا التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي. فما قصة الاستثمارات الخليجية في شركات الدفاع والأمن الإسرائيلية؟ وهل ترتبط بالحرب على غزة؟ وما علاقتها بكسب النفوذ لدى ترامب؟
استثمار في صناعات عسكرية إسرائيلية
في 28 من يناير/كانون الثاني 2025، أفصحت شركة “ThirdEye Systems” عن بيع حصة قدرها 30% من الأسهم لشركة “إيدج” الإماراتية الحكومية، مقابل 10 ملايين دولار، وتوقيع اتفاق لاستثمار 12 مليون دولار في مشروع مشترك. وقال الرئيس التنفيذي للشركة ليور سيغال، إن “استثمار إيدج سيساعد الشركة على التوسع في أسواق جديدة.” بدوره، قال رئيس “إيدج” رودريغو توريس، إن الصفقة تعود بالنفع على الطرفين، وستُسرّع تطوير أنظمة جديدة، وفق رويترز. قبل اندلاع الحرب في غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت ”ثيرد-آي” تملك ثلاثة خطوط إنتاج لمنتجاتها التي تشمل تقنيات رصد وكشف الطائرات المسيّرة، وتوفير الإنذار المبكر، وتوجيه الضربات العسكرية، وتلبيةً للطب المحلي زادت خطوط إنتاجها إلى ثمانية.
"تحاول قطر أن تكون حاضرة في دوائر التأثير الأمريكية من خارج بوابة اتفاقيات أبراهام التي دخلت منها الإمارات، وقد تدخل منها السعودية لاحقًا" الباحثة رضوى الشريف.
تأتي هذه الشراكة ضمن التعاون الواسع بين البلدين منذ توقيع معاهدة السلام في 2020، لكنها الأولى التي يُفصح عنها منذ اندلاع الحرب في غزة. كانت البداية في عام 2021، حين أعلنت شركة إيدج عن توقيع اتفاقية مع شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI)، حول التصميم المشترك لسلسلة من السفن غير المأهولة القابلة للتعديل من فئة (170-m)، على أن تقدم الشركة الإسرائيلية نظام التحكم المستقل، وتدمج حمولات المهام المختلفة في وحدات نظام التحكم وفقًا لمتطلبات تلك المهمات.
أيضًا، وقع الطرفان مذكرة تفاهم لتأسيس مركز صيانة وتسويق لمجموعة مختارة من أنظمة الشركة الإسرائيلية في الإمارات، وفق بيان شركة إيدج. وقد وقعت أطراف إماراتية وإسرائيلية عددًا من صفقات التسليح والتعاون في التقنيات والتصنيع العسكري؛ منها صفقة شركة Elbit Systems الإسرائيلية بقيمة 53 مليون دولار لتزويد طائرات الإمارات العسكرية من طراز A330 بأنظمة حماية متقدمة، كما افتتحت الشركة مكتبًا في أبوظبي في 2022.
في العام التالي افتتحت شركة رافائيل Rafael، المصممة لمنظومة القبة الحديدية، مكتبًا في أبوظبي، ووقعت عقدًا لتوريد منظومات دفاع جوي، لكن بعد اندلاع الحرب في غزة تراجع زخم التعاون بين الطرفين، ليعود نسبيًا مع صفقة شركة ”ثيرد-آي”.
استثمارات مرتبطة بالمستوطنات
لئن كانت الاستثمارات الإماراتية توجهت مباشرة وعلانية إلى شركات الأمن والدفاع في إسرائيل؛ فإن أموالاً قطرية وسعودية وجدت هي الأخرى طريقها إلى شركات إسرائيلية لها علاقة بالقطاع ذاته عبر وسيط أمريكي. في عام 2023، استحوذت شركة Affinity Partners للاستثمارات، لمؤسسها ورئيسها جاريد كوشنر، على حصة بقيمة 150 مليون دولار في وحدة الخدمات التابعة لمجموعة “شلومو” الإسرائيلية، وهي الصفقة التي قال كوشنر عنها إنّها استثمار في قطاع السيارات التابع للشركة.
تعتبر مجموعة شلومو تكتلًا عائليًا يعمل في صناعة السيارات ومواد البناء والعقارات وبناء السفن، وتنبثق عن الشركة الأم “شميلتزر هولدينغ”. تملك الأخيرة حصة في شركة أحواض بناء السفن الإسرائيلية “Israel Shipyards”، وهي شركة بناء السفن المحلية الوحيدة للبحرية الإسرائيلية، التي تُصنّع زوارق الصواريخ من فئة ساعر 4.5، التي تشارك في حرب غزة.
وفق موقع “ميدل إيست آي” استثمرت المملكة العربية السعودية ملياري دولار في شركة كوشنر تحت إشراف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ووفق صحيفة “نيويورك تايمز”، استثمرت كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر 200 مليون دولار لكل منهما، وقدرت محفظة الشركة حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بنحو ثلاثة مليارات دولار؛ ما يعني أنّ الدول الخليجية الثلاث امتلكت نحو 80% من أموال الصندوق الاستثماري.
لاحقًا؛ في ديسمبر/كانون الأول 2024، جمعت شركة Affinity Partners تمويلات قدرها 1.5 مليار دولار إضافية، من هيئة الاستثمار القطرية (QAI) وشركة Lunate لإدارة الأصول ومقرها أبوظبي، كما قامت بتمديد فترة الاستثمار لصندوقها الأول إلى عام 2029، وبحلول مطلع 2025، بلغ حجم محفظة الشركة الاستثمارية إلى 4.6 مليار دولار، جاء 85% تقريبًا منها من قطر والمملكة والإمارات.
عقب ذلك، كشف تحقيق صحفي نشره موقع “ميدل إيست آي”، أجراه سيمون هوبر ودانيا عقاد، أنّ شركة كوشنر أكملت شراء حصة تقارب 10% في شركة فينيكس المالية -المعروفة سابقًا باسم فينيكس القابضة-، وهي مجموعة خدمات مالية إسرائيلية تقدم خدمات التأمين وإدارة الأصول، بعد الحصول على مليار ونصف دولار في جولة التمويل الثانية من قطر والإمارات.
مواضيع ذات صلة
لم يكن استثمار شركة كوشنر عاديًا؛ حيث تملك شركة فينيكس القابضة أسهمًا في شركات مدرجة حاليًا في قاعدة بيانات الشركات المرتبطة بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية المحتلة، والتي جمعتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان. وتنقسم ملكية “فينيكس” القابضة في تلك الشركات إلى ملكية مباشرة باسمها أو من خلال شركة فينيكس للاستثمار هاوس التابعة.
استرضاء سيد البيت الأبيض
ترى الباحثة في العلوم السياسية، رضوى الشريف، في حديثها لـ”مواطن”، أنّ كوشنر بالنسبة لدول الخليج ليس مجرد صهر لترامب؛ بل نافذة للوصول إلى المحافظين في الولايات المتحدة، وتشير إلى أن الاستثمار معه يمثل أداة فعّالة لضمان النفوذ داخل تلك الدوائر؛ خاصة مع عودة ترامب إلى الواجهة السياسية منذ أواخر ولاية بايدن، وتزايد أهمية هذا النفوذ مع انطلاق ولايته الرئاسية الجديدة.
وتصف صفقات شركة كوشنر الممولة خليجيًا في شركات إسرائيلية، بأنّها “قد تعد ضمن عملية التطبيع المالي غير المعلن”. وتقول: “إنّ قطر تحاول أن تكون حاضرة في دوائر التأثير الأمريكية من خارج بوابة اتفاقيات أبراهام، التي دخلت منها الإمارات وقد تدخل منها السعودية لاحقًا. وهنا قد يؤدي المال نفس الغرض السياسي، لكن بدون تكلفة سياسية على المستوى الشعبي العربي”.
بالإضافة إلى ذلك، تنوه “الشريف” بأنّ “المستثمرين الكبار في الصناديق الخاصة، غالبًا ما يضعون شروطًا تفصيلية (Side Letters) تمنع استخدام أموالهم في توجهات غير مرغوبة”. وتعتقد أنّه “إذا لم تُدرج هذه القيود؛ فإن الصمت مع الاستمرار في تمويل ما يُفهم ضمنيًا كنوع من القبول أو التغاضي المتعمَّد، لا سيما وأن الجهات الخليجية لابد وأنها على دراية بتوجهات الشركة الاستثمارية”.
من جانبه، يذهب الباحث المتخصص في الشؤون الخليجية، إسماعيل أنور، إلى أنّه “لا يمكن الجزم بوجود نية ضمنية لدى دول الخليج للاستثمار في المستوطنات؛ فالشركة تستثمر أيضًا في دول مثل ألبانيا، وهي من تحدد أولوياتها بناءً على مؤشرات العائد والربح، وليس بالضرورة وفق رغبات الممولين”.
لئن كانت الاستثمارات الإماراتية توجهت مباشرة وعلانية إلى شركات الأمن والدفاع في إسرائيل فإن أموالاً قطرية وسعودية وجدت هي الأخرى طريقها إلى شركات إسرائيلية لها علاقة بالقطاع ذاته.
تشير المعطيات السابقة إلى تعقيد متزايد في العلاقة بين المال والسياسة في المنطقة؛ حيث تتحرك الاستثمارات الخليجية؛ سواء أكان ذلك في شركات دفاعية أو في شركة كوشنر؛ في مساحة رمادية يصعب اختزالها بثنائيات مثل “تطبيع” أو “رفض”.
فمن جهة، تسعى هذه الدول لبناء نفوذ استراتيجي في واشنطن، مستخدمة أدوات مالية مرنة لا تُلزمها بمواقف سياسية صريحة، ومن جهة أخرى، تُطرح تساؤلات مشروعة عن حدود هذه البراغماتية؛ خاصة حين تُوظف في قطاعات ترتبط مباشرة بالصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، والعدوان على قطاع غزة. وفي ظل التداخل العميق بين الاقتصاد والدبلوماسية، تظل هذه السياسات بحاجة إلى مزيد من الشفافية والمساءلة؛ خصوصًا حين تتورّط أموال سيادية في أنشطة ذات تبعات سياسية وأخلاقية متباينة.
