بعد ثلاث جولات من المفاوضات غير المباشرة حول البرنامج النووي الإيراني وُصفت بالمثمرة، أُعلن عن تأجيل الجولة الرابعة التي كانت مقررة في العاصمة الإيطالية روما، في الثالث من مايو/أيار، بوساطة عُمانية، ولأسباب لوجستية.
يكشف تاريخ المفاوضات والتفاعل بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة انطلاقهما من محددين اثنين؛ الاضطرار الأمني وضرورة التحرك استجابة للمصلحة العليا، وتفادي الصدام المباشر المكلِّف. تجلى ذلك في ست محادثات أجراها الطرفان منذ الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 وحتى مفاوضات الاتفاق النووي.
فيما يتعلق بالبرنامج النووي، يدرك الطرفان أهمية استمرار الحوار، والحفاظ على قنوات التواصل، لكن الخلافات حول ترتيب الإجراءات وأولوية الخطوات وآلية الضمانات التنفيذية ما زالت قائمة، ومن المرجح أنّ تتعمق كلما تقدمت المفاوضات، وناقشت الجوانب الفنية. فما المأمول من المحادثات؟ وما دور سلطنة عُمان والخليج؟
خطة العمل الشاملة المشتركة الثانية
صرح وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي عقب انتهاء الجولة الثالثة من المحادثات، أنها ناقشت “جميع المبادئ والأهداف الأساسية والجوانب الفنية”، ونظرًا لأن الطرفين دخلا في التفاصيل الفنية المعقدة؛ فقد بدأت نبرة التفاؤل في الانخفاض.
تهدف إيران من المباحثات إلى استكمال عملية بناء الثقة، التي بدأت في الاتفاق النووي لعام 2015، ورفع العقوبات بشكل مؤثر يمكن التحقق منه، وتؤكد في الوقت ذاته على عدم التطرق إلى قدراتها العسكرية، لاسيما برنامج الصواريخ الباليستية، فضلًا عن الملفات الإقليمية الأخرى مثل علاقتها بالحوثيين في اليمن وحزب الله، جنبًا إلى جنب الرفض التام لتفكيك بنيتها التحتية لقدراتها النووية.
"تختلف المفاوضات الحالية عن سابقاتها بشكل بارز، في ظل وجود رئيس أمريكي لا مثيل له في تاريخ أمريكا؛ فهو غريب الأطوار وله نهج تفاوضي معقد وصعب. الخبير الإيراني صابر غُل عنبري
تبدو إيران الراهنة بصيغتها المتمثلة بوزير الخارجية عباس عراقجي، ليست إيران السابقة التي فاوضت بصيغة الرئيس السابق حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف؛ حيث تختلف المفاوضات الجارية، بما يمكن اعتبارها مفاوضات النظام الإيراني بقيادة المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
لكن هذه المفاوضات لا ترضي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية. وقال نتنياهو في تصريحات إن الاتفاق الجيد الوحيد هو الذي ينجم عنه إزالة كل البنية التحتية لبرنامج إيران النووي، وتابع في إشارة إلى محادثة أجراها مع ترامب: “نحن على اتصال وثيق بالولايات المتحدة، لكنني قلت إن إيران لن تمتلك بأي حال أي أسلحة نووية”.
وتتمسك إيران بحقها في تخصيب اليورانيوم، وترفض بشكل قاطع نقل يورانيوم مخصب إلى خارج البلاد، بينما تطالبها واشنطن بالتوقف عن التخصيب، والسماح بمراقبة مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وآخرين أمريكيين للمنشآت النووية الإيرانية.
يعتقد الكاتب والخبير الإيراني في قضايا غرب آسيا، صابر غُل عنبري، أن إيران دخلت المفاوضات ولديها خطوط حُمرٌ؛ فهي تتفاوض فحسب حول الملف النووي ورفع العقوبات. مضيفًا لـ”مواطن” أنّ طهران ترفض تناول أي موضوع آخر؛ سواء أكان القدرات الإيرانية الصاروخية، أو السياسة الخارجية الإقليمية، بالإضافة إلى استمرار التخصيب وعدم تفكيك برنامج التخصيب، وكذلك الاحتفاظ بالقدرات النووية التي ربما تتفاوض على كيفية احتفاظها بها.
ويضيف أنّ المفاوضات الحالية تختلف عن سابقاتها بشكل بارز، في ظل وجود رئيس أمريكي لا مثيل له في تاريخ أمريكا؛ فهو غريب الأطوار وله نهج تفاوضي معقد وصعب. موضحًا أنّ المحدد الأساسي في سياسات وتوجهات ترامب هو الانعزال عن العوامل التاريخية التي حكمت -وما زالت- العلاقات بين البلدين، إلى جانب شخصيته النرجسية، وهو ما يشكل فرصة ظهرت بوادرها في إنهاء الدعم لوسائل الإعلام المعارضة الناطقة بالفارسية بأشكالها المختلفة.
بدورها ترى الباحثة الإيرانية في العلاقات الدولية، عفيفة عابدي، أن الأرضية مهيئة لاتفاق فني حول الإطار العام بين إيران والولايات المتحدة، وأنّ إبرام الاتفاق ممكن في ظل الجدية الكبيرة التي يتمتع بها الجانب الإيراني، طالما تحلّت واشنطن بالجدية اللازمة ولم تُثر موضوعات غير منطقية. معقبة لـ”مواطن” بأنّ هناك حالة من الريبة من جانب إيران، في ظل سابقة انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، وتعطيل توقيع الاتفاق الذي كان ممكنًا في عهد الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي.
موقع الخليج من التفاوض
بدورها عرفت الإدارة الأمريكية انقسامًا حول السياسة المتبعة تجاه إيران، حُسم لصالح توجه الرئيس الذي يفضل المفاوضات وفق سياسة الضغوط القصوى. ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” نقلًا عن مسؤولين كبار أنّ إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي مايك والتز كانت لعدة أسباب، من بينها فضيحة تسريبات سيجنال، واستياء الرئيس منه بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للمكتب البيضاوي في أوائل فبراير/شباط؛ حيث بدأ مستشار الأمن القومي وكأنه يشارك نتنياهو قناعته بأن الوقت قد حان لضرب إيران.
خليجيًا، تحظى المفاوضات بدعم دول مجلس التعاون الخليجي؛ خاصة منذ توقيع اتفاقيات أفضت للمصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، ثم الإمارات والبحرين، في مارس/آذار 2023، حيث اختلفت نبرة المملكة تجاه مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، وباتت أحرص على نجاح الاتفاق بما يضمن الأمن في منطقة الخليج.
يضيف ذلك بُعدًا هامًا للمحادثات، نظرًا للعلاقات القوية بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وكذا علاقات قطر والإمارات مع الأخير؛ ما يعني أنّ دول الخليج لديها ثقل كبير فيما يتعلق بالمحادثات في مواجهة الضغوط الإسرائيلية التي تسعى لشنّ ضربة عسكرية ضدّ منشآت نووية إيرانية، دون اعتبار لمصالح وأمن دول الخليج والمنطقة.
يرى الباحث السياسي العماني علوي المشهور، أن منطلق عُمان في وساطتها ينبع من سياستها الخارجية المتّزنة التي تقوم على الحياد الإيجابي، وعدم الانخراط في التحالفات الإقليمية أو الدولية المتصارعة، وهو ما أكسبها سمعة دولية بوصفها وسيطًا موثوقًا به. مضيفًا لـ”مواطن” أنّ مسقط تسعى إلى حفظ الاستقرار الإقليمي، وتجنب اندلاع نزاعات تؤثر على أمن الخليج، إضافة إلى تعزيز مكانتها الدبلوماسية كدولة قادرة على لعب أدوار تفاوضية حاسمة في ملفات شائكة؛ ما يعزز نفوذها الإقليمي والدولي رغم صغر حجمها الجغرافي.
يعدد “المشهور” الأسباب التي دفعت طهران إلى اختيار عُمان وسيطًا، وأبرزها الثقة في السلطنة التي لم تنخرط في صراعات مذهبية أو عسكرية ضدها، بخلاف دول خليجية أخرى، وما تتمتع به مسقط من علاقات جيدة مع كل أطراف التفاوض. ويعتقد أنّ عُمان تنظر لإيران كقوة وازنة يمكنها تحقيق نوع من توازن القوى مع سائر دول الجوار، ويمنع من تشكل هيمنة لطرف ما، وهو ما يساعد الدول الأصغر حجمًا -ومنها عمان- في الحفاظ على سيادتها واستقرارها، ويمنحها هامشًا أعلى للمناورة إقليميًا.
في سياق قريب، جاءت زيارة وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان إلى طهران في أبريل/نيسان الماضي، ورأى الباحث الإيراني في الشؤون الخليجية، كامران كرمي، أنّ واحدة من رسائل الزيارة هي إظهار الرياض استقلاليتها في صنع قرار السياسة الخارجية.
متابعًا لـ”مواطن” أنّها تأكيد لإسرائيل والولايات المتحدة أن الرياض لن تكون جزءًا من مشروع الضغط، ولن تنضم إلى الحملة العسكرية الغربية ضد إيران، بل ستكون جزء من أية مفاوضات واتفاقات تؤدي إلى السلام والاستقرار في الخليج.
مستقبل المفاوضات
وقبيل ساعات من الإعلان عن الجولة الرابعة من المحادثات، كتب ترامب في منشور على شبكة “تروث سوشيال” قائلًا: “إنّ أية دولة أو شخص يشتري أية كمية من النفط الإيراني أو المنتجات الكيميائية، سيتعرض فورًا لعقوبات غير مباشرة”. ويأتي تحذير ترامب بعد فرض عقوبات جديدة على سبع شركات ضالعة في بيع النفط الإيراني.
يرى رئيس تحرير صحيفة “طهران تايمز” محمد صرفي لـ”مواطن”، أنه لا يمكن ولا يتعين أخذ تصريحات ترامب على محمل الجد كثيرًا، والتحليل على أساسها؛ فمغادرة طاولة المفاوضات بهدف الضغط على الطرف الآخر وإطلاق لعبة اللوم، هو من تكتيكاته التفاوضية. متوقعًا أنّ يستعين بها ترامب مع تقدم المفاوضات، ودخولها في مراحل أكثر صعوبةً، مشيرًا إلى أنّ طهران لديها خططها الخاصة في مواجهة مثل هذه الظروف، ولن تفاجأ بها.
دول الخليج لديها ثقل كبير فيما يتعلق بالمحادثات في مواجهة الضغوط الإسرائيلية التي تسعى لشنّ ضربة عسكرية ضدّ منشآت نووية إيرانية دون اعتبار لمصالح وأمن دول الخليج والمنطقة.
بدوره يذهب “عنبري” إلى أنّ إيران تنظر إلى المفاوضات كخيار تكتيكي وفي نفس الوقت استراتيجي؛ بمعنى أنها تجسّ نبض الطرف الآخر لتحديد الهدف الأمريكي، ومن هذا المنطلق تسعى إلى كسب الوقت وإدارة التوتر من خلال التفاوض مع هذه الإدارة. متابعًا أنّه إذا رأت جدية ومطالب أمريكية واقعية؛ فربما تتحول المفاوضات حينها إلى خيار استراتيجي، لتحقيق أهدافها المتمثلة في رفع العقوبات والتهدئة وضبط الوضع.
ويؤكد على أن نتائج هذه المفاوضات ستؤثر ليس فقط على مصير الاقتصاد الإيراني؛ بل وأيضًا على المشهد الأمني في منطقة الشرق الأوسط، وديناميكيات السياسة الداخلية الأميركية. منوهًا بأنّ الدبلوماسية هي الطريقة الوحيدة لتجنب كارثة أوسع نطاقًا.
من جانبه، يربط الخبير الإيراني في العلاقات الدولية عابد أكبري، المفاوضات بالعوامل الداخلية في البلدين، مثل الضغوط الاقتصادية، ومتطلبات الأمن الإقليمي، ومعادلات السياسة الداخلية الأمريكية، محذرًا من أنّ المفاجآت المحتملة ــمن التطورات الجيوسياسية غير المتوقعة إلى الحوادث العسكرية غير المقصودةــ يُتوقع من نتائجها تغيير المعادلة في أية لحظة، وفق حديثه لـ”مواطن”.
من جانب الترويكا الأوروبية، الشركاء السابقين في اتفاق 2015، قال وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو من واشنطن: “إنّنا لن نتردد في إعادة تطبيق جميع العقوبات التي رفعناها قبل عشر سنوات، عندما تم التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة في حالة تأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران انتهكت التزاماتها بموجبها، وإذا حدث ذلك بحلول الصيف؛ فلن يكون لدينا اتفاق يحمي مصالحنا الأمنية بشكل كافٍ”.
ووفق الوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ فإن إيران تقوم حاليًا بتخصيب اليورانيوم إلى مستوى مرتفع؛ 60%، وهو أقل من نسبة الـ90% اللازمة لتصنيع الأسلحة النووية، لكنه أعلى بكثير من نسبة 3.61% التي حددها الاتفاق النووي.