أثناء البدء بكتابة هذا المقال المتأخر المتقطع – حيث كانت الأمطار مستمرة في يومها الثاني على معظم ولايات السلطنة في ما تم وصفه بالمنخفض أو الحالة الاستثنائية- شدتني عبارة كتبها أحد نشطاء الشبكات الاجتماعية في السعودية على صفحته الفيس بوك قائلا: كيف لنا أن لا نتأدب مع الله؟ ينزل علينا الخير ونقابله بالفساد وخراب العمران ثم نقول: ذاك الدمار نتيجة تأثر المملكة بالأمطار.
لقد أصبحنا جميعا ندرك أن الأمطار ليست كارثة لتخرب العمران والشوارع وأسس المنازل والمنشآت العامة. إن عقولنا هي من صنعت هذا البنيان المهترئ وضعف تخطيطنا وفساد أنفسنا هو من يدمر ويخرب ما حولنا. أما تلك الأمطار – النعمة الخيرة التي نتلمس لطف الله الخفي بنا من خلالها – ليست سوى أداة كاشفة وفاضحة لفساد ما نخفيه وسوء ما نصنعه. وبعيدا عن هذه الحقيقة المرّة التي أصبحنا نتلمسها لابد أن أقولها بصدق: الأمطار فضحت فينا الكثير، ولعل أبرز تلك التشوهات التي كشفتها تكمن في خطاب الاعلام الرسمي الحكومي وما بعده.
فمنذ الإشارة الأولية لتعرض السلطنة لهذه الحالة المدارية الاستثنائية – حسبما يطيب للإعلام وصفها- بدأت أشكال التغطية التلفزيونية والإذاعية والمقروءة تنتشر وهي تمدنا بما هو متاح حول المنخفض من معلومات ومؤشرات وقراءات ولقاءات مع المسؤولين. التغطية كانت متتابعة لاسيما على التلفزيون العماني: بيانات متلاحقة.. أخبار من هنا وهناك.. لقاءات في كل الانحاء والأرجاء.. ومذيعة ترتدي قميص شتوي وتحمل مظلة! كل شي حول المنخفض بات متاحا إلا ذلك الحديث عن تأثر البنية التحتية بتبعات المنخفض وعن تلك القرية التي غرقت وسط المياه أو ذلك الشارع الذي أصبح بقايا شارع أو ذلك المبنى الحكومي الذي يسبح وسط مياه الأودية.
كيف للإعلام فعلا أن يتحدث عن ضعف في البنية التحتية وهو المطبل والراقص لها خلال شهور وسنوات مضت. كيف له فعلا أن يتحدث عن جسر مرتفع عن مياه الوادي وعبرته المياه بكل سهولة أو عن شارع لم يكمل عامه الثالث حتى اصبح متشققا بفعل الأمطار أو عن قرية غرقت وسط مياه الأودية بسبب انعدام التصريف الصحي. كيف لكل هذا أن يكون محل اهتمام الإعلام الرسمي، وكيف لمن اعتاد الكذب والتزييف أن يعود للحقيقة مرة أخرى؟!
في أيام المنخفض لم يكن الاعلام سوى أداة للتحذير والتخدير وناقل سلبي لما يود أن ينقله ومصدر للأخبار القادمة من دوائر العلاقات العامة وأقسام الإعلام بالمؤسسات الحكومية المختلفة .
كثرت الاخبار المرتبطة حول جهود المؤسسات الحكومية المختلفة وشكلت الشبكات الاجتماعية مرة أخرى محورا أساسيا من محاور الاتصال الفعال لاسيما في صفحات متخصصي الأنواء أو الصفحات الرسمية أو صفحات الفرق الاجتماعية المتخصصة بالأخبار والمجموعات المناخية أو متتبعي أخبار الطقس. وشاع الحديث عن فرق عمل متواصلة لخدمة المواطن وتأدية الواجبات على أكمل وجه وظهر مسؤولون من عدد من المؤسسات الحكومية وهم يمتلكون القدرة على الحديث الاعلامي المتوازن والمتمرس تبعا لخبرتهم في التعاطي مع هذه الظروف وهو مؤشر ايجابي بالقياس مع مستوى الخطاب الاعلامي لدى مسؤولي الدول المجاورة.
لقد انقضى المنخفض وتوقفت الأمطار، لكن هذا الاعلام الذي نرجو أن يكون صوت المواطن ولسانه إلى المسؤولين أصبح أبكما وعاد إلى سباته المعتاد ونحن مثلما نحن .. نعاني.
كم يرجو المواطن أن تكون هناك حملة إعلامية تستهدف تكثيف الرقابة على مخططات ومشاريع البنية التحتية.. كم يرجو المواطن أن يكون لسان حال الاعلام لسانه وصوت الاعلام صوته وهاجس الاعلام هاجسه.. كم نرجو الاعلام أن يتعامل معنا بإنسانية وإخلاص ويثبت تفاعله الحي مع قضايانا كما يفعل في وقت الشدة والأزمات. إنني أكتب هذا وأنا أرجو بداخلي أن يكون بين الشباب الذين عرفتهم في مجال الاعلام أو من شاركوني مقاعد الدراسة وبين أيديهم الآن زمام الأمر أن يلتفتوا الى الانسان -قبل كل شي-. الوطن بحاجة إلينا قبل كل شي، ونحن بحاجة إلى أن نعيش بشرف وكرامة وأن لا نفقد أنفسنا بين مخطط هذا ومصلحة ذاك، نحن بحاجة إلى أكثر من قانون للمطبوعات والنشر، بحاجة إلى من ينظم أخلاقنا في العمل، وليس أكمل من الضمير بداخلنا مؤدبا وناصحا.