أيها الزعيم.. إنني أعاني من مشكلة مرضية، جعلتني عاجزة عن القدوم للمدرسة فترة زمنية ليست بالقليلة، وما تزال المشكلة قائمة حتى الساعة، وجميع من ينبغي إبلاغهم بالأمر، تم اشعارهم بالمشكلة، ولم يفعلوا شيئا سوى التواكل ورمي الكرة في ملعب الآخر. أيها الزعيم.. لقد تفاجأت عندما جئت الى المدرسة، ووجدت أن المنهج لم يتم البدء فيه بصورة تتوافق مع الخطة الزمنية الموضوعة لنا. أيها الزعيم.. أعلم أن ما حدث لا ذنب للمديرة فيه ولا للمعلمات الأخريات، وأنهن مثلي تماما، إذ أننا جميعا نسلك ذات السبيل وفقا لما تم رسمه لنا، أو بالأحرى نحن من سمحنا لهم بفعل ذلك بجهلنا وتبسيطنا للأمور. أيها الزعيم.. إنهم يطالبونني بأن أمضي في المنهج بسرعة كي أصل إلى بر الأمان، إنهم يطلبون مني أن أعلَم من أجل الاختبار، وأن أنفذ ما يأمرونني به كالإنسان الآلي، وأن أكتفي بما نُص عليه في وثيقة التقويم، وأن أرمي ما تعلمته في الماجستير وراء ظهري حتى موعد قدومك. أيها الزعيم.. لقد تغيبت مجددا وسأتغيب فكريا بصورة مستمرة فور دخولي للمدرسة؛ فلسنا سوى أدوات في أيديهم وفي أيدي أولياء الأمور، ولا حول لنا ولا قوة. أيها الزعيم.. كن ديمقراطيا والتفت إلى الأورام في جسدك، حددها واعترف بها ثم ارسم خطتك جيدا، وحدد مسارك وفقا لما سأقوله الآن؛ فالبعض منا بانتظارك:
إن الهدف الرئيسي لكل ادارة في أي مجتمع متحضر هو توفير فرص متساوية للتعليم لكل المواطنين، ولا يقصد بذلك مجانية التعليم فحسب، وإنما تلك الضرورة التي تمكن جميع الأفراد من الوصول المتكافئ للتعليم والتدريب عالي الجودة؛ بحيث لا نقع في الهوة التي وقعنا فيها الآن من حيث تزايد الفروق بين المستوى التعليمي للمدارس الخاصة والمدارس الحكومية العامة، والتي تجعلنا غير قادرين على الخروج من هذه المعمعة إلا اذا طبقنا سياسة الترخيص لمزاولة مهنة التعليم؛ فالترخيص يعد أحد أهم المتطلبات الأساسية لضمان جودة أداء المعلم وضمان نوعية تعليمية عالية الجودة للطلبة، ولن تتطور الحياة المدرسية إلا اذا تم احداث تغييرات جديدة في التفكير المهني والتربوي للمعلمين، فلا بد لنا من أن نجعل أسلوب التفكير والإبداع هو الهدف، وليس التلقين.
في الوقت الراهن، يتم معاملة المعلم تماما مثل الآلة التي هدفها نقل محتويات الكتاب للطالب، وتلقينه بصيغة العبارات القاطعة والحقائق، وهذا يقع ضد التحليل والاستنتاج والنقد والحوار والشك العلمي والمرونة والتعددية وحرية الرأي والتعبير؛ فهو نقيض للتفكير. ويتم تلقين المعلم والذي بدوره سيصبح حريصا على إخبار الطالب بديهيا بما لُقن به، والتلقين هو طريقة تسلطية تهدف إلى تدريب المعلم و الطالب على الطاعة بحيث تجعلهم لا يهتمون ولا يتأثرون بموضوع التعلم وإدراكه وإنما باستنساخه وحفظه فقط، وإذا حاول هذا المعلم أن يخرج من هذا القالب بصورة جدية، سيرفع ضده الكرت الأحمر وسيقال له من قبل المعلم الأول ثم المشرف ثم المدير.. الخ: من أنت لكي تغير ؟؟، وهنا تندفع للقول بأن المسألة معقدة للغاية، ونحن بحاجة إلى مليارات الريالات العمانية كي نطبق ما تقوله، وبعد احباطك يبدأ عقلك بتقييم الأمور وتفنيدها، وستجد بأن كلامهم قد يحتمل الخطأ، فها هي السعودية مثلا والتي تعد من أوائل الدول في الإنفاق على التعليم، ومع هذا كله فهي في ذيل التصنيف العالمي في الرياضيات والعلوم، وهنالك دول متقدمة إنفاقها أقل بكثير من دولنا، لكنها متقدمة علميا. حقيقة الأمر بأن عملية التغيير والتطوير في مجال بناء المعلم قد تستغرقنا عقدا من الزمن لتدريب المعلمين ووضع الأموال والوقت لإعادة هيكلة كل شي لتعود إلينا بالنتائج المأمولة، بناءا على تجارب بعض الدول.
لقد أصبحنا جميعا كمعلمين أحاديي الفكر، ويا ليت ذلك كان فكرنا وإنما هو فكر تم تلقينه لنا؛ فنحن لا نملك استقلالية في مجالنا، وإنما نعمل كوسيلة ارسال لا أكثر، تهدف إلى إنهاء ما ينبغي إنهاءه كي ترتاح ضمائرنا كما يقول بعض المعلمين.
أيها الزعيم … ينبغي أن يمنحونا استقلالا تعليميا منصوص عليه قانونيا؛ بحيث يُسمح للمعلم بأن يختار ما يريد أن يعلمه للطلبة وكيف يعلمه، كما يملك الحق في إضافة وحذف المواضيع وتحديد مصادر المعلومات كما يراه هو مناسبا، بحيث يجد المعلم متعة في الاختيار ويستمتع بالحرية في التعليم، وكل ما عليه أن يفعله هو المحافظة والتأكد من سريان المعيار الحكومي على منهجه؛ فلم يعد يوجد شيء في العالم الحديث يطلق عليه المنهج المكتوب، وأصبح المعلم في عدد من دول العالم يختار موضوع الدراسة، وفُتح المجال على مصراعيه للطلبة والمعلمين للتجريب والاستكشاف وجمع النتائج والاستعانة بكل السبل المعاصرة، بحيث يخرج الطلبة والمعلمون من الفصل الدراسي بخبرة هم أنتجوها بصورة كاملة عن موضوع الدراسة.
وعلى هذا ينبغي أن تكون التكنولوجيا إحدى الوسائل المحفزة للتعليم في مدارسنا؛ كي نصل الى التعليم التفاعلي القائم على استخدام تكنولوجيا التعليم، فمواقع المحاكاة مثلا باتت من أساسيات تدريس كل من الرياضيات والعلوم والدراسات الاجتماعية، ولم يعد بالإمكان أن نحول المدارس من أماكن للتعلم والاهتمام العلمي إلى مبان للتدريس والتلقين والنجاح والرسوب وسوق العمل والوظيفة…..!
أيها الزعيم… هل تعلم بأن الاحترافية في مهنة التدريس لدينا تعني العمل الفردي، حيث يعمل المعلم وحيدا طوال اليوم وكل يوم، بدلا من العمل الجماعي والتعاوني مع كافة الطاقم التدريسي والتربوي بالبيئة المدرسية؛ لتحسين المنهاج والدروس؛ فالعمل الفردي المطبق لدينا هو عدو للابتكار والتطوير نحو الأفضل. هل تعلم أيضا بأن المعلم ما إن يتخرج من الجامعة أو الكلية؛ فهو لا يدخل مؤسسات التعليم العالي إلا للرحلات “وتغيير الجو” فحسب، فما من تواصل مستمر ومنهجي بيننا كمعلمين وبين هذه المؤسسات، ولا يتم استشارتها في كثير من الأحيان حول البرامج الدراسية بشكل دوري والتعديلات الجديدة في الحقل التربوي والتعليمي؛ فهم في وادي النظريات ونحن في وادي التخبط والادعاء.
أيها الزعيم .. إن عدم إلزام المعلم باختبارات ونتائج شهرية وفصلية، يعطيه حرية كبيرة في الاختلاط والاحتكاك بالطلبة ومعرفة مستوياتهم وجوانب شخصياتهم، والتعرف على ميولهم وإثرائهم علميا، ودفعهم للابتكار والإبداع وإبعاد جو المقارنة المتخبطة من الصورة؛ فالمعلم يلهث حاليا وراء متطلبات لا تغني ولا تسمن من جوع، وأُثبتت عدم جدواها ميدانيا كل عام .
أيها الزعيم .. هل تعلم بأن للمعلمين نفس الراتب ونفس العلاوة السنوية، من اجتهد منهم ومن تكاسل، ومن واصل دراسته العليا ومن لم يواصل، وبعدها يتسائلون: أين دافعية هذا المعلم؟. إن الدافعية تولد في النفس البشرية عندما تجد محفزات لها كالعدالة الوظيفية مثلا، وتذبل كل يوم بالظلم والمماطلة. أيها الزعيم … نحتاج للتدريب الجدي والى مدراء يخصصون مبالغ محددة لإتاحة الفرصة أمام المعلمين للالتحاق بالبرامج التدريبية المناسبة، وكل هذا يصب في صالح هذا البلد.
والأهم من هذا فنحن نحتاج وبصورة حاسمة وعاجلة الى غربلة الكثيرين ممن يعملون في هذه المهنة، وقد أكون أولهم؛ فالإكراه على العمل فيها، يولد التبلد في الاحساس والشعور والرغبة المستمرة في ترك هذه المهنة بشتى الطرق، وهذا بدوره سيؤثر على كل ما قد يفعله هذا المعلم؛ والأولى أن نضع كل شخص في الموقع الذي يبرع فيه، كي نخرج من نظرية الفوضى التي أصبح لها أنظمة متعددة، وبدأت تكبر أمام أعيننا يوما بعد يوم.
أيها الزعيم… سأخبرك شيئا. هنالك شريحة كبيرة من المعلمين ممن لا يلمون بعلم الاجتماع السياسي أو علم السياسة بشكل عام، وظهر هذا جليا في الاضراب الأخير ان جازت تسميته بذلك، فبلاشك كانت الأهداف سامية ومشروعة وواجبة، وكانت تنفيذا لأوامر صاحب الجلالة في تطوير التعليم، إلا أن فكرة المطالبه بحد ذاتها مسيئة لنا، فالمطالبة لا تتماشى مع مكانة المعلم، فالمعلم لا يطالب وإنما يقترح الحلول ويقدمها لذوي الاختصاص ويراقب تطورها ويحاسب معرقلها بالطرق المشروعة. المعلم لا يمشي بدون رأس، وإنما يدخل ضمن قيادة منتخبة تعبر عن أيدلوجيته الفكرية وواجباته المجتمعية. المعلم لا تنطلي عليه بعض الألعاب السياسية المتمثلة بزيادة الرواتب؛ فذلك حق ولكن أُريد به باطل، وهو ما ساهم في قلب جزء من المجتمع ضده، وأصبح البعض يظن بأن المعلمين لا يفكرون سوى بجيوبهم. المعلم لا يدخل في صدام مع مؤسسته؛ وإنما يتحد عموديا بدلا من التشتت الأفقي، باعتباره يمثل شريحة كبيرة من المجتمع يتحول من حجم بشري مشتت الى قوة بشرية لها تأثيراتها، وتساعد وتكمل الطرف الآخر كي يُحدث ما يطلق عليه بالتغيير .
فعليك أيها الزعيم أن تكون قائدا ملما بالعلوم الاجتماعية، ذا بصيرة ثاقبة وفلسفة واضحة ومحددة، وكلامك موزون ومقنن، حاسم في قراراتك، لا تدعي العلم بكل شيء، ولديك الشجاعة بالاعتراف بالخطأ والأهم من هذا الاعتراف؛ تعلم كيفية معالجته. عليك أن تحسن اختيار مستشاريك والثلة التي ستحيط بك، وتحترم القانون وتفهم جوانبه، كما أن من المطلوب منك أن تكون جزءا من الكل وليس الكل في الكل، وأن تضع نصب عينيك سلطنة عمان ومستقبل أجيالها؛ فبعد سنوات لن يكون هنالك نفط أو مورد غيرك، وبهذا فقط سنكون معك في أي جمعية أو جماعة قد تؤسسها بالقانون.