لوبون، مؤسس علم الجماهير أو علم النفس الجماعي، والذي أصبح أحد فروع علم النفس الاجتماعي لاحقا، وضح في أحد أشهر كتبه “سيكولوجية الجماهير” مفهوم الجمهور، والعوامل التي تساهم في تشكيل آراء الجمهور، ودور القادة في التأثير عليه .
متى يمكننا إطلاق صفة “الجمهور النفسي” لجماعة من البشر؟، هذا مايحاول الإجابة عليه غوستاف لوبون في كتابه؛ حيث يقول: “يمكن لتكتل ما من البشر أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة جدا عن خصائص كل فرد يشكله؛ فعندئذ تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه،وعندئذ تتشكل روح جماعية، عابرة ومؤقتة بدون شك، ولكنها تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تماما. وعندئذ تصبح هذه الجماعة ما سأدعوه بالجمهور المنظم؛ نظرا لعدم امتلاكي مصطلحا آخر أو قل إنها تصبح جمهورا نفسيا (سيكولوجيا).
إن من الضروري التنويه بأنه إذا اجتمع مجموعة من البشر ولو كانوا بالمئات في ساحة معينة عن طريق المصادفة، ولم يكن هناك هدف محدد أو محرض ما يدفعهم للتجمهر؛ فإنه لايعد جمهورا نفسيا، كما يمكن لمئات الافراد المنفصلين والمتباعدين عن بعضهم دون حضور مرئي على أرض الواقع،أن يشكلوا جمهورا نفسيا طالما يحرضهم هدف ما كخضوعهم لتأثير حدث قومي أو مناسبة دينية أو سياسية وغيرها .
وإن أكثر مايدهش غوستاف لوبون في الظاهرة الجماهيرية، هي مدى انسلاخ الفرد من فردانيته، وذوبانه في الجمهور النفسي بحيث مهما اختلفت اهتماماتهم وأنماط حياتهم، وحتى ذكاؤهم؛ فإنك ستجد أن الفرد في الروح الجماعية التي تحركه وتوجهه، يختلف عما لو كان بمفرده .
“هكذا نلاحظ بسهولة إلى أي مدى يكون الفرد المنخرط في الجمهور مختلفا عن الفرد المعزول”
ويعزو غوستاف ذلك إلى دور اللاوعي في حياة الانسان؛ حيث أن جزءا كبيرا جدا من أفعالنا الواعية، ماهي إلا غطاء لبواعث ودوافع لاواعية، وهي البقايا اللانهائية الموروثة من الأسلاف والتأثيرات الوراثية، والتي تشكل روح عرق ما بحيث أن مجموعة من الأفراد الذين ينحدرون من عرق واحد، يتشابهون في لاوعيهم العرقي، والذي يحرضهم اتجاه سلوك ما، مهما اختلفوا نتيجة عامل التربية وغيره. ومن هنا نرى بأن اللاوعي المتمثل في نوع العرق يلعب دورا مهما من وجهة نظر غوستافلوبون في تشكيل الجمهور النفسي.
فعلى سبيل المثال؛ قد تجد اختلاف بين مفكر ومزارع ينحدرون من ذات العرق في الناحية الفكرية؛ ولكن هذا الاختلاف يقل جدا حينما يكون متعلقا بالمزاج والعقائد الايمانية، والتي تشكلهم وبمعنى آخر ما نطلق عليهتأثير العرق على طباعهم وأمزجتهم.
وهكذا فإن غوستاف يرى بأن الفرد المنضوي تحت جمهور ما، فإن شخصيته الواعية تتلاشى، ليحل محلها سيطرة الشخصية اللاواعية، كما أنه يكون مدفوعا بروح الجماهير،وقوتها إلى فكرة واحدة وهدف واحد، يسير عليها الجمهور، وسرعان مايتحول هذا الاندفاع وهذه العواطف المشتركة إلى سلوك آلي وكأنه بعيدا عن إرادة الفرد الحرة فيما لو كان لوحده .
وهنا يتجلى أمامي وأنا أقرأ تحليل لوبون، إحدى المشاهد التي حدثت مؤخرا في مدارسنا، وهي سجود الطلبة للسلطان قابوس في الساحات، وقد أخبرتني أختي المعلمة والتي كانت حاضرة لهذا الحدث، بأن مديرة المدرسة طلبت من الطلبة والطالبات الخروج الفوري والتجمهر في ساحة المدرسة، ومن ثم السجود دون أن يعرفوا حتى لماذا يسجدون ولمن ؟!. وسرعان ماسجد الطلبة، جميعهم دون استثناء. وبعدها أخبرتهم أنه سجود شكر لسلامة السلطان، ونلاحظ أن الطلبة لم يتسائلوا أبدا حول الفعل ذاته، وإنما كانوا خاضعين لا إراديا تحت سلطة المديرة وماتفرضه من قرارات فورية، وهنا اختفت الارادة الفردية لكل طالب؛ لتذوب تحت الروح الجماعية المحركة للفعل .
في الحقيقة، هناك عوامل عديدة مباشرة تساهم في تشكيل آراء الجماهير، وأولها الصور والكلمات والعبارات (أو الشعارات)؛ فالجماهير تتأثر كثيرا بالصورة المشاهدة، والتي تبعث فيها الاندفاع، وإن لم توجد صورة؛ فبالإمكان صنع صورة مؤثرة عن طريق استخدام الكلمات والشعارات، والتي تلهب روح الخيال لدى الجمهور، وتجعله يتخيل صورة ما وكأنها حقيقية .
” إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة عن معانيها الحقيقية”
وكلما كانت الكلمات المستخدمة عامة وفضفاضة ويصعب تحديد معنى واحد لها؛ كلما كان تأثيرها أكبر؛ فعلى سبيل المثال، لطالما نجد كلمات يرفعها الجمهور النفسي كالدفاع عن الحق والباطل، والشريعة ، أو الحرية والمساواة وغيرها من الكلمات المؤثرة، والتي تؤجج الجماهير وتوجهه لسلوك ما؛ مع أنك لو سألت أحدهم، ماهو الحق ؟!؛ لعجز عن إجابة واحدة محددة، وأجابك إجابة عامة فضفاضة؛ فالحق وحده يحتاج مجلدات لشرحه تماما كمصطلح الحرية وغيرها.
وهكذا فإن المحاجات العقلية وطرح الاسئلة تخفت بل تكاد تختفي ليحل محلها سيطرة العواطف والروح الجماعية ؛ فالأفراد لايطرحون تساؤلات عن معنى المصطلح الذي يرفعونه بدقة ومدى ملائمته للواقع إلخ، ولكن الكلمات الفضفاضة هي من تلهب خيالهم بصور براقة؛ فالغموض الذي يظللها يزيدها بهاء، وإذا ما أخذنا على سبيل المثال كلمة “حرية”؛ فإننا نجد أن معناها يتغير بتغير العصور، وحتى البيئات والاوطان؛ فقد تعني: حرية مناقشة عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه، بينما تتوسع في بلد آخر لتشمل حرية المعتقد وحرية المرأة وحرية التعددية إلخ . فالكلمة لها معاني متحركة باختلاف العصور والشعوب .
ومن بين العوامل المباشرة والمؤثرة في تشكيل آراء الجماهير: التجربة. حيث أنها قادرة على دفع الجماهير إلى تشكيل حقيقة ما حول قضية ما؛ حيث نجد أن الكثير من التجارب البشرية كالثورات على سبيل المثال ضد الانظمة الفاسدة كانت كفيلة بجعل جمهور ما في حقبة زمنية لاحقة أن يشكل حقيقة حول أهمية الثورات للتغيير دفعته لإعادة هذه التجربة البشرية مجددا .
كذلك تلعب العاطفة دورا مهما في تشكيل آراء الجماهير ” فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير عليها؛فلكي نقنع الجماهير ينبغي أولا أن نفهم العواطف الجياشة في صدورها، وأن نتظاهر بأننا نشاطرها إياها، ثم نحاول بعدئذ أن نغيرها عن طريق إثارة بعض الصور المحرضة بواسطة الربط الغير منطقي أو البدائي بين الاشياء “
وطالما هناك جمهور فلابد من وجود قائد ما؛ فلا جمهور بلا قائد، ولاقائد بلا جمهور كما يقول غوستاف؛ فالإنسان بطبيعته يحب الخضوع تحت سلطة عليا سواء أكان قائد أم قانون أم كلمة الرب. ويرى لوبون بأن القادة ليسوا في الغالب رجال فكر وإنما رجال ممارسة وانخراط؛ فبُعد النظر يقود إلى الشك وعدم الانخراط في الممارسة والعمل، بينما تجد القادة في الغالب ممن تحركهم العاطفة الايمانية بقضية ما، أو المصلحة الشخصية وهم مستعدون للتضحية بأي شئ في سبيل مبتغاهم، وهم صنفان: الصنف الاول ذو إرادة قوية ولكن مؤقتة، والصنف الثاني: وهم الندرة، ذو إرادة قوية ودائمة، وأغلب القادة العظام الذين غيروا مجرى التاريخ البشري كانوا ذو إرادة قوية ودائمة مهما اشتدت الصعاب .
وطالما أن الجمهور يحتاج إلى قائد ؛ فإن القائد ليحرك ويؤثر على الجمهور فهو يحتاج لوسائل ما ، وأولها ( التكرار ، والتأكيد ، والعدوى)
إن التأكيد على الفكرة بقوة بعيدا عن أي برهان ودليل، هو أحد الوسائل الناجعة التي يستخدمها القادة؛ فيكفي أن تؤكد على فكرة ما تأكيدا جازما يخلو من الشك والنقد، حتى تعطيها قيمة حقيقية وهيبة لدى الجمهور، بيد أن التأكيد وحده لايكتسب هذا التأثير دون التكرار؛ فعندما نكرر الشيئ مرارا وتكرارا ينتهي لاحقا إلى حقيقة يصدقها الجمهور؛ فعلى سبيل المثال:
حينما تكرر أنك إذا استخدمت الوسيلة س؛ سوف تقودك إلى ص، مرارا فإنه ينتهي الأمر بأن تختزن هذه الفكرة في اللاوعي، وحينما تظهر مجددا؛ فإنها تظهر وكأنها حقيقة، ويكفي أن تلصق صفات سيئة على شخص، وتكرر ذلك على مسامع الآخرين حتى يصبح ذلك الشخص سيئا من وجهة نظرهم .
ذات مرة، قام العلماء بوضع تجربة وأحضروا فريقين لها، وقاموا بتعريض أحد الفرق لكلمات عابرة عمدا، حيث وضعوا الفريق في غرفة ما، وكان العلماء في الغرفة المقابلة يتحدثون فيما بينهم ، مما أدى إلى تسريب بعض مما قالوه في حديثهم إلى الفريق الموجود في الغرفة ولو لم يعيه الفريق ذهنيا وإنما مرت عليه الكلمات مرورا عابرا، وحينما بدأوا باختبار الفريق، قاموا بتعريضه لكلمات مختلفة، وطلبوا منه وضع مصداقية لكل كلمة ، واندهش العلماء لدى معرفتهم بأن أغلب من في الفريق وضع مصداقية عالية للكلمات التي سمعها في الغرفة التي يتحدث فيها العلماء ، رغم عدم صحتها كاملة. وهكذا استنتج العلماء: أنه يكفي أن يسمع الفرد كلمة ما، حتى تكون مصداقيتها لديه أكبر مما لو لم يسمعها من قبل .
فكيف بمن يقوم بتكرار الفكرة على مسامع الآخرين مرارا، ويؤكد عليها دون برهان ؟!
وعندما تتكرر فكرة ما على مسامع جمهور ما مع تأكيدها؛ فإنها سرعان ماتطال الجماهير الأخرى، فيما يسمى ب “العدوى”، حيث يقول لوبون: “وفي الجماهير نجد أن الأفكار والعواطف والانفعالات والعقائد الايمانية، تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة سلطة الجماهير.ويمكننا أن نلاحظ هذه الظاهرة لدى الحيوانات نفسها، وذلك عندما تتجمع على هيئة جمهور؛ فصهيل حصان في إسطبل ما؛ سرعان مايعقبه صهيل الأحصنة الأخرى في نفس الإسطبل”.
وإنه ليس من الضروري أن يتواجد الأفراد في نقطة واحدة حتى تنتشر العدوى بينهم؛ فيكفي أن يكون للفكرة تأثير نفسي وعاطفي، حتى تنتقل لأبعاد أخرى .
كما تسهم الهيبة الشخصية للقائد فياختراق روح الجماهير بسرعة فعالة، والهيية الشخصية هي نوع من الجاذبية التي يملكها فرد ما ويقدر من خلالها التأثير على الآخرين، وهي تنقسم إلى قسمين: الهيبة المكتسبة والهيبة الذاتية أو الشخصية. والهيبة المكتسبة هي التي اكتسبها الفرد مسبقا عن طريق النسب أو الثروة أو الشهرة، حيث يكفي أن يكون الفرد من عائلة ما شهيرة على سبيل المثال، حتى يكتسب صفة الاجلال والتأثير. بينما تعني الهيبة الشخصية: مايحمله الفرد ذاته من “كاريزما” تؤثر في النفوس، وتجعلهم خاضعين ومتأثرين بها تماما مثلما يفعل المنوم المغناطيسي .وقد كان لهتلر هذه الهيبة الشخصية الساحرة، إضافة لدقة اختياره للكلمات المؤثرة، والذي ساعده على السيطرة على الجماهير .
هذا وإنه من الضروري التنويه على أن تركيز لوبون على مسألة العرق، وأنه العامل الحاسم في تحديد سلوك الشعوب والأفراد قد تم دحضه علميا. وهناك كتاب لفرويد بعنوان “علم نفس الجماهير: يرد فيه على أطروحاتلوبون في بعض النقاط، ومن الجيد الاطلاع عليه. ولكن الأفكار التي طرحها غوستاف لاتزال فاعلة إلى الآن في نواحي عديدة حينما نرغب في فهم بعض العوامل التي تؤثر على الجماهير.