كنت أتابع قبل فترة قريبة النقاشات والجدل الواسع في بعض الدول الأوروبية على خلفية مشاركة أوروبيين في الجهاد مع تنظيم الدولة الإسلامية، ولا يمكن إخفاء أن هذه الظاهرة أحدثت صدمة وهزة قوية في المجتمعات الأوروبية، فما الذي ينتظر أوروبا في المستقبل وها هم الأوروبيون يشاركون في تنظيم متطرف ما فتئت وسائل الإعلام الأوروبية تنقل عنه مشاهد الذبح والقتل لترسم في الوعي الأوروبي المستوى غير المسبوق من العنف المنظم الذي يتبناه هذا التنظيم؟ ما لفت انتباهي في هذه المتابعة مشاركة مختلف أطياف المجتمع والدولة لاستباق الأحداث ورسم خطط لمعالجة وإدماج هؤلاء الجهاديين العائدين وإصلاح منظومة التعليم التي يتلقاها أبناء الجاليات والمهاجرين. المذهل في الأمر أن هذه المجتمعات لديها من الحيوية والديناميكية ما يجعلها تتصرف بعقلانية مسؤولة وهدوء في اجتراح المعالجات الممكنة. وهذا ما قادني إلى التركيز على تساؤل مهم: أي دور يمكن أن يلعبه المجتمع المدني في مساعدة الدول والحكومات في فترات الصدمات؟
عندما تقع صدمة ما من أي نوع في دولة ما فإن المجتمع بمفهومه الواسع هو من سيتحمل الجزء الأكبر من نتائج هذه الصدمة، وتبعا لمدى التنسيق بينه وبين الدولة ككيان قانوني؛ سيكون المجتمع أكثر أو أقل عقلانية وحيوية في التفاعل مع الصدمات. كلما كانت خبرة المجتمع وماضيه مع الدولة جيدة؛ كلما كانت طرقه في مواجهة الصدمة أكثر عقلانية وهدوء وطويلة النظر. الخبرة التي أتحدث عنها تتركز بالدرجة الأولى في مجسّات الشفافية والعدالة الاجتماعية التي يلاحظها المجتمع في أداء الدولة، ومع ذلك فإن المجتمع يراقب أكبر قدر يستطيعه من أداء الدولة. يكتسب المجتمع مناعة في وجه الصدمات عندما يتوافر لديه شعورا عاما بقرب الدولة من همومه ومشاكله وبإدارتها الجيدة للثروة وبقدراتها التنظيمية في حل المشكلات وإدارة المشاريع الكبرى واستباق الأحداث، بينما عندما يفقد مثل هذه الثقة في الدولة فإن الصدمات الخطيرة على شاكلة انخفاض خطير في أسعار النفط، أو أحداث شغب عارمة، أو ارتفاع مستويات التضخم أو انهيار السوق والأسهم، سيقف المجتمع أمامها حائرا مدهوشا ويتعامل مع الحدث بعشوائية وتخبط وقرارات فردية ولاعقلانية. فرصيده من الثقة لا يسعفه بأن يدير الموقف بشكل جيد. المجتمع هو الظهير الخلفي للدولة، وهو سندها الذي يمدها بالكوادر والأفكار، فالدولة التي تتعامل مع المجتمع كتابع ومجرد أرقام إحصائية، وتتجه إلى تطوير أدواتها القمعية أكثر من أدواتها لحماية الحريات، سوف تخسر هذا المجتمع، وستتحلل تدريجيا لتدخل المجتمع نفقا مجهولا يصعب التفاؤل بالخروج منه أقوياء.
في وقت قطعت بعض الدول مشوار طويلا في مجال تعزيز انسيابية العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ ما نزال نجد كثيرا من الدول ما تزال في إطار الصدام السلبي بين الدولة والمجتمع، بينما لا تزال دول أخرى في طور تشكيل المجتمع المدني الحديث؛ ويمكن أن نضع السلطنة في هذه الفئة. لقد نمت مؤسسات المجتمع في الدول المتحضرة بشكل كبير بحيث أصبحت كثير من هذه المؤسسات في مثل أهمية وفاعلية نظيراتها ضمن كيان الدولة السياسي، بل عالجت بعض هذه الدول مشكلة الترهل في أنظمتها ومؤسساتها بالاعتماد على مؤسسات المجتمع المدني، بينما لا نزال نحن في عمان لم نشكل بعد أية مؤسسات يمكن أن تتفاعل إيجابيا مع مؤسسات الدولة، وربما يقع العكس؛ حيث تعمد الدولة إلى تهميش مؤسسات المجتمع الصغيرة والوليدة عوضا عن دعمها وتقويتها لتساعدها مستقبلا في القيام ببعض الأدوار التقليدية. إن التجارب تعلمنا أن الإنسان يبدع أكثر وتتحسن نوعية إنتاجه عندما يعمل في بيئة متشبعة بثقافة الحرية والملكية، والعكس عندما يعمل تحت الإكراه أو الروتين اليومي الإجباري، ومن هنا تنجح مؤسسات المجتمع بسبب الحريات الفردية وتفشل مؤسسات الدولة بسبب الترهل وضغط البيروقراطية والهرمية.
لا يعني ذلك أن مؤسسات الدولة يجب أن تكون ضعيفة أو مشلولة، فتفريغ الدولة من محتواها المؤسساتي والقانوني سيجعل المجتمع مفتوحا بشكل عشوائي على الخارج، ما يؤدي إلى تسرب الموارد النوعية بشرية أو مادية إلى الخارج في مقابل عدم وجود أدوات لضبط الوارد الذي لن يعلم فائدته وكيفية توظيفه والتخلص منه، وأمامنا أمثلة كثيرة عندما انفتحت الكثير من الدول على اقتصاد السوق وتحرير التجارة ورفع يد الدولة عن حركة السلع، كيف أنها انتهت إلى الفشل مثل إندونيسيا والأرجنتين وتشيلي والبرازيل وروسيا في الثمانينات والتسعينات. فالمعادلة هنا هي بالتنسيق بين الدولة والمجتمع بحيث يشكلان معا وحدة داعمة للمسيرة والريادة، فلا يطغى طرف على طرف ولا يضعف أحدهما الآخر فيفشل الجميع. يجب فهم العلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع المدني ككيانات تشكلت معا وتطوّرت معا؛ فلا دولة حديثة بدون مجتمع مدني، ولا مجتمع مدني بدون دولة حديثة، فكل منهما يكمل الآخر. وانفصال العقد بينهما أو ضعفه هو ما يجعل أبسط الصدمات تتضخم بسبب التعاطي اللاعقلاني معها وسوء التنسيق وتوزيع الأدوار والمسؤوليات.
على سبيل المثال؛ تزامن تطور المجتمع المدني الحديث في القرن السابع عشر بأوروبا مع حاجة الأفراد لسلطة مركزية تحمي لهم حرياتهم، فبدأوا تدريجيا في التخلي عن إدارتهم لهذه الحريات لصالح سلطة مركزية ستسمى لاحقا بالدولة الحديثة، فاكتسبت الدولة ضمن ما اكتسبت من وظائف مسألة إدارة حريات الأفراد في المجتمع، وما إن تحيد عن ذلك أو تنتقص من هذه الحريات فسينحل ذلك العقد الذي يلزم الأفراد بالتنازل عن حرياتهم لصالح السلطة المركزية التي تفسد ولا تصلح. بيد أنه لا بد من الإشارة إلى أن إدارة الحريات تقتضي بالضرورة القسر وممارسة العنف، فلكي تؤدي الدولة وظائفها الأساسية فإنها تحتكر العنف وتمارسه لضبط الحريات ومنع تصادمها أو الإضرار بها. غير أن الفارق الكبير سنجده بين دولة تحتكر السلطة وتقوي أدواتها ووسائلها القمعية للإبقاء على السلطة في أيدي معينة، وبين دولة لا تحتكر السلطة وتقوي أجهزتها التوعوية والتعليمية والصحية لصالح بناء مجتمع مدني يساهم معها في ضبط وإدارة وتنسيق الحريات العامة. الدولة هي المسؤولة عن تشكيل وتشجيع مؤسسات مدنية تساعد الدولة على التوسع والتمدد في المجتمع بحيث ستضم كفتين: مؤسسات سياسية ومؤسسات مدنية، وبتحقق التوازن بين الكفتين سيمكن الحديث عن دولة حديثة تحقق الرفاه والكرامة لمواطنيها وللمقيمين على أرضها.
تتحدث بعض أدبيات العولمة عن فكر اللادولة واقتصاد اللادولة، وهي تشير إلى الدور الكبير للمنظمات الدولية والشركات القارية والمؤسسات الرقابية العالمية في التدخل في قرارات الدول والتأثير على سياساتها؛ بل والاضطلاع ببعض أدوارها في التشريع والتنفيذ. العولمة تسهم بشكل كبير في تحلل الدولة وفق بعض نظرياتها، وما نراه أنه وحدها الدول التي حققت توازنا بين جهازيها السياسي والمدني تكون الأقدر على البقاء والتناغم مع أدوات العولمة الهائلة بما لا يقضي على الدولة أو يضعفها ككيان يحمل هوية فريدة وبشر لديهم طموحات ويستطيعون المساهمة في الحضارة البشرية. إن الصدمات المتتالية التي تصفع بها العولمةُ الدولَ القمعية تنتهي بهذه الدول إلى الفشل وإلى الإحباطات المتراكمة التي تدمر الدولة وستصبح غرضا ومطمعا لأدوات العولمة نفسها. بينما تكون الدول التي نجحت في بناء جهاز مدني على شاكلة أحزاب سياسية ونقابات مهنية واتحادات عمالية وجمعيات أهلية وكافة التشكيلات والتجمعات غير الرسمية؛ هذه الدول تكون أكثر ذكاء ومرونة واستجابة للصدمات والاختلالات المصاحبة للعولمة والتحالفات الدولية وأشكال التنافس وأنماط الصراع الدولي.
أثناء الصدمات يصاب الناس بالذهول والهلع، فيضطرون للدفاع عن حدودهم بالدخول في تجمعات أو ممارسات تحقق لهم أمانا من الصدمة بعيدا عن الدولة. وإذا كانوا غير منتبهين وواعين ومستعدين للصدمة؛ أي صدمة؛ فستغلب عليهم ردود الأفعال. وجود مجتمع مدني واع وناضج يضمن المشاركة السياسية الفاعلة لأكبر عدد من قطاعات المجتمع، وهذا يجعل الوعي الجمعي أكثر قابلية للتنبؤ بالصدمة والاستعداد لها، وحتى في حالة فشله في التنبؤ؛ فإن المشاركة السياسية العامة ستضمن ردات فعل أكثر اتزانا ومرونة. في الحالات المعاكسة؛ كما هو الحال لدينا؛ فإن الدولة وحدها من سيتحمل تبعات الصدمة، بل وستتحمل تبعات سخط المجتمع، فهي ستحارب على جبهتين؛ ما يزيد من عبء الإدارة وثقل ومركزية القرارات.
تمثل المجالس التشريعية والبلدية المنتخبة أولى مراحل العمل المدني بالدول. وحتى بالرغم من أن هذه المجالس ما تزال جزء من بيروقراطية الدولة وجهازها السياسي، إلا أن التصاقها وقربها من الشارع والسوق وحركة الناس؛ يجعلها مؤسسات تحمل الطابعين: طابع الهرمية السياسية وطابع العمل المدني. فالدولة الجديدة والجادة فعلا في تحقيق التنمية المستدامة؛ سيتضح مدى جديتها في تأسيس المجتمع المدني من خلال رؤيتها واهتمامها بتفعيل وتنشيط المجالس التشريعية. ينظر لعضو المجلس التشريعي أو البلدي المنتخب بصفته من الكوادر الذكية والمتعلمة والناشطة التي يمد بها المجتمع الدولة ليساعدها في بناء الخطط والتشريعات ومراقبة الأداء وتقويمه، وهذا العضو يقوم بالدورين: دور العمل السياسي المتصل بوظائف الدولة البيروقراطية، ودور العمل المدني المتصل بالفعاليات ذات الطابع غير الرسمي. ولا ينفصلان هذان الدوران عن بعضهما البعض، إذ يتكاملان في أداء هذا العضو المنتخب. فنشاطه وفاعليته وأهميته في جهاز الدولة التشريعي سيتبعه بالضرورة فاعلية وحركية داخل النشاطات المدنية، وضعف أداءه في الأول سيتبعه أيضا ضعف أداءه في الشق المدني من وظيفته.
يرتبط العمل المدني؛ الذي يؤدي إلى ولادة مؤسسات مدنية مستقلة عن السلطة السياسية؛ بشكل أساسي بالتفكير الديمقراطي بالمجتمع، فلا يمكن ﻷي عمل مدني أن ينجح ويتكثف ضمن شكل مؤسسي بدون وجود تفكير ديمقراطي لدى الأفراد. فعندما يكون الاستبداد بالرأي وإقصاء المختلف هو السائد؛ فستظل النشاطات المدنية دون مستوى الطموح والأفق الأبعد نظرة لتشكيل تكتلات مدنية تعنى بجانب مما يشغل الشأن العام. التفكير الديمقراطي يمثل حاضنة وقاعدة متقدمة للعمل المدني، ومتى ما توفر فهذا يعني أن المجتمع الجديد يستبق الزمن ويحرق المراحل نحو بناء مؤسسات مدنية فاعلة. التفكير الديمقراطي يتطلب توفر أجواء من الحرية والمساواة والاستقلالية لكي يكون حاضرا وفاعلا في إنجاح العمل المدني المنظم ولكي يتفاعل بشكل إيجابي مع مؤسسات الدولة القائمة إذ لا يمكن لعمل مدني أن ينجح في تشكيل مؤسسات له بمعزل عن الدولة. عندما تكون الدولة قمعية تسلطية فإنها تعمل على إفشال العمل المدني ليس عبر قتل المؤسسات فحسب، بل وشل قدرة المجتمع على إنتاج مؤسساته وذلك من خلال خنق أجواء التفكير الديمقراطي بمحاربة الحريات والتضييق على الفردانية وتحفيز الطبقية داخل المجتمع.
التفكير الديمقراطي يتطلب قدرا من قابلية الاندماج بين الأنا والآخر. هناك تحول معين يجري داخل الأنا عندما تتقمص تجربة الآخر وتضمها إليها، فالفرد يشعر بأنه قد استفاد من هذا الآخر وأنه ممتن له أن منحه هذه التجربة التي قد تكون اختصرت عليه وقتا وجهدا أو فتحت له نافذة جديدة أو صححت لديه معلومة، ومن هنا تضيق المسافة بين الأنا والآخر ويولد بينهما مشترك معين يزيد من استعداد كل طرف للاعتراف بدور وأهمية الآخر له. ومع زيادة هذه المشتركات يكتسب الإنسان القدرة على التفكير الديمقراطي الذي ما هو سوى اعتراف بالآخر، وتطور هذه القدرة لدى الفرد يمثل نواة للعمل الديمقراطي بين التكتلات المختلفة داخل المجتمع. مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن هذا لا يكفي لولادة مجتمع ديمقراطي حقيقي، فلو فقدت المساواة مثلا؛ فلا مجال ﻷن تكون لدينا تجربة ديمقراطية نبني من خلالها مؤسسات مدنية حيوية وناهضة، وهكذا بالنسبة للحريات العامة واستقلالية الأفراد.
من هنا نجد أهمية وضرورة الإلتفات ومتابعة حضور التفكير الديمقراطي في الوعي المشترك للمجتمع؛ متابعة العوامل المحفزة والمنشطة وكذلك العوامل المثبطة والمعيقة. متابعة على شكل مراقبة لتشريعات الدولة وفعالياتها من جهة، ومن جهة أخرى لوسائل الإعلام ونشاطات المجتمع وما يصدر عنه من مطبوعات ومنشورات ونشاطات وأدب ودراما وبرامج. والمتابعة الجادة تقتضي القيام بما يشبه مسحا ميدانيا يركز في كل مرة على جانب من جوانب التفكير الديمقراطي. وربما يجدر بنا قبل ذلك الإشارة إلى تمظهرات وتجليات التفكير الديمقراطي بين الناس، ويمكن أن نتحدث هنا عن الشورى والحريات العامة والاستقلالية الفردية والمساواة والتسامح والعنف الأسري والمدرسي والتشهير الاجتماعي والاتهام المتبادل والإقصاء الاجتماعي والتنافس والاحتكار. كل هذه المواضيع تصلح لتكون عوامل يمكن مراقبتها لتحديد مدى حضور التفكير الديمقراطي بالمجتمع، ومن ثم الانتقال فعلا إلى معرفة جوانب الضعف التي تمنع وتحول دون ظهور مجتمع مدني فاعل.