حدث مرة – وهذه قصة حقيقية مع بعض التغطية – أن اجتمع موظفا عاديا جدا، بمسؤولي إحدى كبريات الشركات في عمان ، وكان الموظف ممتلئا بالتفائل لما سوف يخرج به من هذه الصفقة، سواء من إنجاز على الصعيد الشخصي كموظف في اختباره الحقيقي الأوّل، أو إنجاز للمؤسسة التي وثقت به في هذه المهمة للخروج بصفقة عظيمة ومرضية. وما إن عاد إلى مقرّ عمله؛ ليبلغ مسؤوله المباشر بما حققه من إنجاز، استغرب ردة الفعل الباردة من هذا المسؤول الذي طلب منه لاحقا أن يلحق به إلى غرفة الاجتماعات الصغرى التابعة للمديرية التي يعمل بها في هذه المؤسسة. لم تكن هنالك مقدمات للحديث، إذ وضع المسؤول المباشر أمامه ورقة بيضاء، وكتب له أرقاما، وقال له: الشركة سوف تقدم للوزارة 10 ألاف ريال، 3 ألاف لك، وألفين لي، والخمسة للوزارة، وليبقى الموضوع بيننا وسوف تربح أكثر من ذلك.
غادر الموظف الغرفة، والصدمة تكتسي ملامح وجهه، وذهب مباشرة للمسؤول العام، يشتكي إليه مسؤوله المباشر الذي رأى أنّه قد ساومه على النزاهة والشرف، وهي صمام أمان أي موظف -حسب اعتقاد الموظف هذا- إن أخل بها فسد العمل!.
ولما تستوجبه أمانة النقل لهذه القصة، فقد تعاطف المسؤول العام مع هذا الموظف، وهزّ رأسه مرارا واستغفر وحوقل وهو يواسي هذا الموظف الذي طلب منه أن يأتيه في الغد، وفي اليوم التالي، قام المسؤول العام بإعطاء أمره المباشر الشفهي للموظف بنقله إلى قسم آخر خاص بالعمل الأرشيفي وليس المبيعات أو التسويق، معتبرا أن هذا لمصلحة العمل الكبرى!.
بعيدا عن ما آلت إليه ظروف هذه القصّة “الحقيقية جملة وليست في بعض التفاصيل”، إلا أن هذه هي إحدى القصص التي كنت قد عايشتها أو سمعت عنها من حولنا، حينما كنت موظفا في وزارة التربية والتعليم. ولعلّ القارئ لهذا المقال سيعتبر أن الأمر يحمل نوعا من المبالغة، وأحب أن أطمئنه هنا، وأقول: ليس في ذلك مبالغة أبدا، إذ أن من تنفع من منصبه الوظيفي ريالا واحدا، سينتفع بآلاف الريالات إن لم يكن مئات الآلاف في الغد.
ولعل السائل سيقول: ولماذا لم يشتكي الموظف لمن هو أكبر من المسؤول العام؟. الجواب بسيط جدا، وإليكم هذا المثال كتقريب بسيط لحصانة الفساد ، وسأحاول أن أقدم أكثر من سيناريو للوقوف على كافة الجوانب أو الزوايا التي ينفذ منها الفساد للمؤسسات كافة:
– السيناريو الأول: شركة من خارج البلد لها وكيل من داخل البلد، وهذا الوكيل إما أنه من أسرة “خاصة” جدا جدا، أو أنه من أقرباء أحد المسؤولين النافذين في البلد، إن لم يكن الوكيل هو مسؤول في الأساس!. ما أن يأتي أحد المدراء الكبار، وهو من المؤسسين الحقيقيين للشركة، ليخاطب وكيل الشركة في البلاد، ويحكي له عن المشروع الفلاني الذي ستستفيد منه الدولة الكثير وسيرفع شأنها في “التقارير العالمية”، يخاطب الوكيل أي مسؤول في مؤسسة يخصها هكذا نوع من المشاريع، على أن تكون حصة هذا المسؤول النسبة الفلانية في حالة وقعت المناقصة على شركته، ومباشرة يخاطب المسؤول ذلك المسؤول الأقل منه مركزا، على أن يقدم توصية في الشركة الفلانية لحظة تقديم عروض كافة الشركات وتقديم المبررات الكافية لذلك، وأحيانا دون مبررات…وبقية القصة معروفة!.
– السيناريو الثاني: يتظاهر المسؤول الأكبر بالمؤسسة بالنزاهة، ويراقب من هم يعملون تحت مظلته، حتى إذا التقط خيطا يقوده لعيب أو خطأ ما في الأمور المتعلقة بــ”المال”، فإنه لا يعمل طبعا على إصلاح هذا الخطأ، بل يستفسر من صاحب الخطأ عن كيفية القيام بهذا الخطأ ولكن مع عملية أكثر ربحا، على أن تكون كل المعاملات والإجراءات قانونية بالمرة، وهو ما يفعله المسؤول الأقل مركزا مع مسؤول آخر أقل منه مركزا حتى يصلون للموظف، حتى إذا ما ظهر “ذو ضمير” ووقعت بين يديه أوراقا تكشف وتدين كل من تورط، يتم التضحية بكبش الفداء، وهو الموظف الأقل رتبة، ويسلم منها الكبار!
– السيناريو الثالث: وهل نحتاج لسيناريو ثالث، يكفي أن يكون المواطن العادي شاهدا على خطأ ما، ويكتفي بالصمت، إما بحجة أنّه ليس باليد حيلة، أو بحجة أنّ الأمر مجرد شبهة، وإثارة المشاكل حول شبهة يعتبر فتنة!!! وكأن الجاني سيقول بصوت عالي: ها أنا أقول بالخطأ الفلاني، أختلس من هنا وأنتفع من هنا، فهل رأيتموني!!
من يريد البحث عن الفساد ، سيجده بالطبع، ولكن أين؟
لماذا لا نبحث أولا خلف كل مناقصة أو مشروع لكل مؤسسة في البلد – وهنا أقصد الوزارات طبعا- مناقصة لأي مشروع تم الاتفاق فيها بين جهة رسمية وجهة خاصة، ونراقب حجم الأموال التي صرفت على هذا المشروع، وحجم الأموال التي ستصرف على هذا المشروع، والمشروع على أرض الواقع كم يستحق!. ولنا عبرة في وزارة التربية والتعليم، التي ومنذ أعوام خلت – تقترب من العشرة أعوام-، وهي لا تزال تعمل على بناء مبناها الضخم الذي إلى الآن لا يزال قيد الإنشاء!!!
– السيناريو الرابع: وهو سيناريو من باب التساؤل: هل يا ترى لو اكتشفت أن أحد أقربائك أو أصدقائك من الفاسدين، وهو له أفضال كثيرة عليك، هل ستعمل على إيقافه أو التبليغ عنه؟ سأجيب عنك، غالبا لا، وهذا ما عايشته شخصيا في مؤسستنا -وزارة التربية والتعليم-، إذ أنه حين كنت أسأل: لماذا ينتفع فلان من الصفقات؟، أو لماذا يقبل فلان الهدايا من الشركات وهو محسوب على الوزارة؟، ردّ علي المسؤول – الذي اتضح لاحقا أنه ذراع جهاز الأمن الداخلي في المديرية وأنه محمي منهم- أن هذا اجتهاد، وليس ما يعيب الأمر شيئا طالما المصالح متحققة لكل الأطراف!.
– السيناريو الخامس: يكفي ضحكا على الذقون، الفساد يحتاج شعبا يزيله ويتخلص من أسبابه، لا شعبا ينتظر المخلص الذي يأتي من السماء ليخلصهم من مشاكلهم.