ملخص
يسعى الباحث في هذه الورقة إلى تقديم قراءة تحليلية للتغييرات المتوقع حدوثها بعد عودة السلطان قابوس إلى البلاد من رحلة علاج في الخارج استمرت لأكثر من ثمانية أشهر؛ تلك التغيرات التي قد تكون هيكلية على المستويين التشريعي والتنفيذي، لضمان استقرار البلاد.
كما تحاول الورقة أن تطرح أسئلة وتجيب عن أخرى حول استمرارية المشروع التحديثي الذي تبناه السلطان قابوس البالغ من العمر خمسة وسبعين عامًا، والذي لا يزال يمسك بأهم مفاصل السلطة التنفيذية بما تستلزمه من متابعة ومباشرة يومية؛ فإلى جانب كونه حاكمًا ومشرِّعًا يحتل مكانة رمزية كبيرة في البلاد، فهو في الوقت نفسه رئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير المالية، ووزير الشؤون الخارجية، ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط، ورئيس البنك المركزي.
لفهم طبيعة وأثر هذه التغييرات، يسعى الباحث لتقديم قراءة الآلية المُحدِدة لما يُعرف بانتقال “ولاية الحكم” في سلطنة عُمان؛ ومن ثمّ يصل إلى نتيجةٍ مفادها أن التوقعات عديدة وقوس التكهنات يتأرجح بين طرفين، الأول: تغيير جذري مفصلي يُقرِّب عُمان أكثر من “سلطنة دستورية” يمكن للسلطان قابوس أن يُتوِّج بها عهده ويجعله واحدًا من أهم صُنَّاع التاريخ الحديث لعُمان؛ الثاني: تغيير تدريجي يُمهِّد الطريق للمرحلة التي تعقب عهد السلطان قابوس ويترك لمن يأتي بعده ما يُمكِّنه من تثبيت أركان حكمه وتعميق شرعيته عبر قرارات مفصلية سيكون مخططًا لها بعناية فائقة.
مقدمة
أثار مرض السلطان قابوس بن سعيد، سلطان عُمان، المفاجئ ورحلة علاجه التي استغرقت ثمانية أشهر في الخارج “يوليو/تموز 2014-مارس/آذار 2015″، أسئلة وقلقًا عميقين في الداخل والخارج على السواء، وذلك فيما يتعلق بمستقبل الاستقرار السياسي في عُمان وضمانات الانتقال الآمن للحكم، وأيضًا على مستقبل خمسة وأربعين عامًا من مشروع الدولة الحديثة “دولة النظام والمؤسسات”، الذي بدأه السلطان قابوس منذ توليه الحكم عام 1970. فعُمان، وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، لم تعرف سوى رجل واحد شغل جميع الوجهات والواجهات في البلاد؛ وعُمان، خلال تلك السنوات السابقة، انتقلت من الهامش إلى المتن على المستويين الإقليمي والدولي، وبات سؤالا الاستقرار والاستمرارية من الأسئلة الملحة في هذه المرحلة.
في هذه الورقة سنحاول تقديم قراءة لطبيعة هذه التغييرات المتوقعة، والتي حسب التكهنات، ستكون هيكلية على المستويين التشريعي والتنفيذي، تضمن استقرار البلاد، وتطرح أسئلة وتجيب عن أخرى حول استمرارية المشروع التحديثي دون تراجع أو معوقات، لاسيما أن السلطان قابوس البالغ من العمر خمسة وسبعين عامًا، لا يزال يمسك بأهم مفاصل السلطة التنفيذية بما تستلزمه من متابعة ومباشرة يومية؛ فإلى جانب كونه حاكمًا ومشرِّعًا يحتل مكانة رمزية كبيرة في البلاد، فهو في الوقت نفسه رئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ووزير المالية، ووزير الشؤون الخارجية، ورئيس المجلس الأعلى للتخطيط، ورئيس البنك المركزي.
لكن قبل الخوض في سيناريوهات التغيير المتوقعة، لابد من قراءة الآلية المُحدِدة لما يُعرف بانتقال “ولاية الحكم” في سلطنة عُمان؛ لأن معرفة هذه الآلية والضمانات المتوفرة لعملها والمكانة التي تحتلها المؤسسة العسكرية فيها، تساعد على فهم طبيعة وأثر هذه التغييرات.
انتقال الحكم: الآلية وضمانات الالتزام
نظام الحكم في عُمان “سلطاني وراثي” وفق ما حددته المادة الخامسة من الباب الأول للنظام الأساسي للدولة (1). وهو، إضافة إلى ذلك، نظام حكم مطلق، الحاكم فيه مصدر ومركز السلطات التشريعية والتنفيذية، يمنحها ويمنعها. لكن نظام الحكم السلطاني المطلق هذا يختلف عن نظم الحكم الملَكية المطلقة المشابهة، على الأقل من الناحية النظرية، ومن ناحية المرجعية الفكرية. فوفقًا للمذهب الإباضي -مذهب الأسرة الحاكمة وقطاع عريض من الشعب العُماني- فإن الحاكم يُنتخب بالتشاور بين أهل الحل والعقد من علماء الأمة، ولأن التاريخ العُماني هو في القسم الأكبر منه تاريخ الحركة الإباضية (2) فإن مبدأ الاستخلاف أو ولاية العهد هو مبدأ مخالف للشريعة الإسلامية، كما فهمها ونظَّر لها الفكر الإباضي، لأن الإمامة لا تنعقد إلا بالاختيار والشورى (3)، وبالتالي فإن وجود ولي للعهد مع بقاء الحاكم يُخلُّ بالمنطلقات الفكرية المؤسِسِة لمفهوم الحُكم في عُمان، لكن “أهل الحل والعقد” من علماء الأمة ونخبتها الذين أُنيط بهم، في الماضي، انتخاب اثنين وستين إمامًا بدءًا بالجلندى بن مسعود وانتهاء بغالب بن علي الهنائي، اخُتزلوا اليوم في “مجلس العائلة المالكة” وفق ما نصَّت عليه أول وثيقة دستورية مكتوبة في تاريخ عُمان.
من الناحية العملية، لا يختلف نظام الحكم في عُمان اليوم من حيث كونه نظامًا وراثيًّا ينتقل الحكم فيه من الأب إلى الابن أو من الأخ إلى الأخ أو إلى القريب من الدرجة الأولى، عن نظم الحكم المشابهة في الملكيات الخليجية الأخرى، عدا أنه يرفض تسمية ولي للعهد ويترك “الحق” مفتوحًا “لأهل الحل والعقد” من أعضاء مجلس العائلة المالكة في اختيار الحاكم الذي سيخلف الحاكم الحالي. لكن ثمة أمور ثلاثة طرأت في عهد السلطان قابوس على آلية انتقال الحكم، جعلته يبدو أكثر مأسسة ودستورية من العهود السابقة، وهي:
- تحديد فترة فراغ السلطة، بعد شغور منصب السلطان، بثلاثة أيام فقط، هي الفترة الزمنية الممنوحة لمجلس العائلة المالكة للتشاور فيما بين أعضائه واختيار من يرونه مناسبًا لأن تنتقل إليه ولاية الحكم لشغل منصب السلطان (4).
- إشراك المؤسستين: التشريعية ممثلة برئيس مجلس الدولة المُعيَّن ورئيس مجلس الشورى المنتخب، والمؤسسة القضائية ممثلة برئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه، في تثبيت السلطان الجديد الموصَى به في رسالة السلطان قابوس في حال عدم اتفاق مجلس العائلة المالكة على اختيار من تنتقل إليه ولاية الحكم (5).
- إلزام السلطان الجديد بتأدية قسَم اليمين، قبل ممارسة صلاحياته، في جلسـة مشتركة لمجلسـي عُمـان والدفاع (6).
النظام الأساسي للدولة (الدستور)، يُحدد آلية انتقال الحكم “بعد شغور منصب السلطان” في المادة السادسة من الباب الأول “الدولة ونظام الحكم”، غير أن تساؤلات تطرحها شرائح مختلفة من الشعب العُماني، لاسيما النخب الثقافية والسياسية، عن مدى الالتزام بهذه الآلية من قبل “القائمين” على أمر “نقل ولاية الحكم” بعد شغور منصب السلطان، خصوصًا وأن النص القانوني الحاكم لهذه الآلية يأتي من دستور منحة لا سلطة للشعب عليه.
غير أن هذا الدستور المنحة، على ما عليه من ملاحظات، لا يخلو من “مأثرة” لم تُقرأ القراءة الدقيقة على ما يبدو، أهمها المادة السابعة (7) من الباب الأول “الدولة ونظام الحكم”. العُمانيون، عبر تاريخهم الطويل، لم يشاهدوا من قبل حاكمًا لبلادهم يؤدي قسم اليمين أمام ممثلي الشعب، المنُتخبين والمُعينين وبحضور مجلس الدفاع، وذلك قبل مباشرته مهام عمله كسلطان، لكنهم سيشهدون ويشاهدون هذا الحدث بعد شغور منصب السلطان الحالي. فحين يجلس العُمانيون أمام شاشات التليفزيون يشاهدون السلطان الجديد، تحت قبة مجلس عُمان، يضع يده على المصحف ليُقسم على احترام النظام الأساسي للدولة وعلى رعاية مصالحهم وحرياتهم والحفاظ على استقلال وطنهم وسلامة أراضيه، حينذاك ستمثل أمام أعينهم واحدة من المآثر الكبرى لعهد السلطان قابوس.
لكن العُمانيين لا يعرفون من سيكون السلطان القادم إلى سُدَّة الحكم في بلادهم، وعلى الأرجح لن يعرفوا إلا بعد رحيل السلطان قابوس أو تنازله عن الحكم؛ إذْ من المستبعد أن يكسر قابوس بن سعيد تقليد أسرة آل بوسعيد الحاكمة منذ أكثر من ثلاثمائة عام، ويُقدِم على تسمية وليٍّ للعهد، ناهيك عن أن مبدأ تسمية ولي للعهد يتعارض مع الفكر الإباضي كما أشرنا سابقًا، غير أن الوجوه المحتملة لخلافته محدودة وإن كان الأمر لا يخلو من مفاجأة غير متوقعة.
الدستور: شرعية السلطان القادم، ودور المؤسسة العسكرية
للمادة السابعة، على وجه الخصوص، دلالة لم تستوقف الكثير من الباحثين، أبرزها أن شرعية السلطان الذي سيخلف السلطان قابوس لن تكون مستمدة من وراثته الحكم ولا من اختيار العائلة المالكة له ولا حتى من خلال توصية السلطان السابق فقط، ولكن أيضًا من خلال المثول أمام ممثلي الشعب وممثلي المؤسسة العسكرية، وأداء القَسَم (8) المشار إليه في المادة السابعة.
إن القراءة الأوليَّة المباشرة للمادة السابعة هذه التي تضمَّنها دستور المنحة المعروف بالنظام الأساسي للدولة، الصادر بموجب المرسوم السلطاني رقــم 96/101 والمعدَّل بموجب المرسوم السلطاني رقم 99/2011، تعطي الانطباع بأن السلطان قابوس أراد، على ما يبدو، أن يضع السلطان الذي سيخلفه في الحكم أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية وهي احترام الدستور وعدم المساس به واحترام القوانين السارية، تلك التي يُشرِّعها النظام الأساسي والقوانين الأخرى المصاحبة، أي احترام منجز للسلطان قابوس المتمثل في مشروع دولة النظام والقانون ومواصلة هذا المشروع.
غير أن السؤال الذي تُثيره المادة السابعة وتُجيب عليه في الآن ذاته، هو: ما هي القوة التي تُلزم السلطان الجديد باحترام النظام الأساسي للدولة والقوانين، إذا ما قرر لأي سبب من الأسباب الانقلاب على التزامه الأخلاقي ونكثه بقسم اليمين، كإعلان حالة الطوارئ في البلاد “الأحكام العرفية” مثلًا (وهي من صلاحيات السلطان بموجب المادة 42–الباب الرابع من النظام الأساسي) وحل مجلس الشورى الذي يعني توقف جلسات مجلس الدولة تلقائيًّا (وهو أيضًا من صلاحيات السلطان، ورغم أنه أمر افتراضي مُستبعد حدوثه لما يمثله السلطان قابوس من مكانة رمزية كبيرة في حضوره وفي غيابه، إلا أن ثمة احتمالًا وإن كان ضئيلًا لحدوث أمر كهذا، وثمة تجارب كثيرة للانقلاب على الدستور أو تغييره وحلِّ المؤسسة التشريعية في دول نظام الحكم فيها جمهوري يقوم على الشراكة وإن على المستوى النظري، عكس ما هو عليه الأمر في نظم الحكم الملَكية المطلَقة التي تلغي مبدأ الشراكة في الحكم أصلًا.
إن ممثلي الشعب العُماني الذين سيمثُل أمامهم السلطان الجديد لتقديم قَسَم اليمين، لا يحتكمون إلى القوة لا التشريعية ولا التنظيمية الاجتماعية والسياسية لحماية النظام الأساسي للدولة من أي انقلاب، أو إلغاء أو تعديل، بما لا يتناسب ومصالح المواطنين وحـرياتهم، والتي سيقسم السلطان الجديد على رعايتها والمحافظة عليها؛ حيث لا توجد في عُمان حياة سياسية مستقلة قادرة على تنظيم نفسها والدفاع عن مصالحها بعيدًا عن الدولة، ولا مجتمع مدني قادر على التنظيم وعلى ممارسة دور ضاغط على الدولة وعلى السلطة السياسية للوفاء بالتزاماتها وتعهداتها التشريعية والقانونية في حال قررت التراجع عنها.
إن المشرِّع الذي صاغ المادة السابعة -وفي هذا المقام هو السلطان قابوس ومستشاروه- تنبَّه دون أدنى شك، إلى احتمال عدم التزام السلطان الجديد بالنظام الأساسي للدولة، رغم ضعف هذا الاحتمال، كما أن السلطان قابوس ومستشاريه الذين شاركوا في اقتراح وصياغة مواد النظام الأساسي للدولة، يعرفون عدم مقدرة الشعب على حماية “دستور” لم يكن شريكًا فيه ولا حتى بالرأي غير الملزم؛ لذا ألزمت المادة السابعة السلطان الجديد أن يؤدي قَسَم اليمين أمام ثلاث قوى:
- الأولى: دينية، أخلاقية هي “الله”.
- والثانية: اعتبارية، أخلاقية هي “الشعب”.
- والثالثة: مادية قادرة على حماية النظام والنظام الأساسي للدولة هي المؤسسة العسكرية ممثلة في “مجلس الدفاع”.
لقد أعطى النظام الأساسي للدولة المؤسسة العسكرية في عُمان دورًا محوريًّا، مهمًّا ومؤثرًا في أمرين:
- الأول: قيام “مجلس الدفاع” بتثبيت السلطان الجديد الموصَى به في رسالة السلطان السابق إلى مجلس العائلة المالكة وذلك في حال “لم يتـفق مجلس العائلة المالكة على اختيار سلطـان للبلاد”، وبالاشتراك مع كل من رئيسي مجلس الدولة ومجلس الشورى وكذلك رئيس المحكمة العليا وأقدم اثنين من نوابه، وفق ما نصَّت عليه المادة السادسة من الباب الأول “الدولة ونظام الحكم” في النظام الأساسي للدولة.
- الثاني: تأدية السلطان الجديد القسم في “جلسة مشتركة لمجلسي عُمان والدفاع” بحسب المادة السابعة التي أعطت لمجلس الدفاع دورًا وحضورًا مساويين لمجلس عُمان.
إن الدور الذي أعُطي للمؤسسة العسكرية في ترتيبات انتقال الحكم في عُمان يمكن أن يكون ضمانة لانتقال آمن لولاية الحكم، وعامل توازن مطلوبًا بين السلطان الجديد وفريق حكمه من جهة، وبين مؤسسات الدولة القائمة ومشروع السلطان قابوس في بناء دولة تقوم على النظام والقانون والمؤسسات من جهة أخرى؛ ولكن دون اكتمال آليات تشريعية تحمي هذه المؤسسات وذلك المشروع من التعطيل في عهد السلطان الجديد، لكنها تضمن اكتمال المسيرة عبر الانتقال من حالة مؤسسات الدولة التي بلغتها عُمان في عهد السلطان قابوس إلى حالة دولة المؤسسات التي يُراد بلوغها.
في المقابل، يمكن أن يُشكِّل الدور المركزي للمؤسسة العسكرية عامل قوة للسلطان الجديد، يُمكِّنه من القيام بما يراه مناسبًا وخادمًا لتوجهاته ورؤيته ورؤية فريق عمله للحكم بما في ذلك التراجع عن بعضٍ من مكتسبات عهد السلطان قابوس، وهذا يتوقف بالطبع على قُرب أو بُعد القادم الجديد إلى سُدَّة الحكم في عُمان من المؤسسة العسكرية وأيضًا على حيادية ومهنية المؤسسة العسكرية.
إن المادتين السادسة والسابعة من النظام الأساسي للدولة والمشار إليهما أعلاه، تشكِّلان ضمانة، ليس لانتقال سلس وطبيعي للحكم من السلطان السابق إلى السلطان الجديد فحسب، ولكنهما تضمنان استمرار المشروع التحديثي الطموح الذي بدأه السلطان قابوس قبل أربعة وأربعين عامًا والذي يشكِّل، إلى جوار مشروعه في المصالحة الوطنية مطلع سبعينات القرن الماضي وتحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء تاريخ طويل من الصراعات القَبَلية، الإرث الذي يريد له السلطان قابوس أن يبقى للأجيال القادمة. ويبقى ذلك بالطبع رهنًا بالسلطان القادم وفريق عمله وبطبيعة علاقته بالمؤسسة العسكرية وبحيادية ومهنية المؤسسة العسكرية نفسها، وأيضا بحجم وبطبيعة التغييرات المتوقع أن يجريها السلطان قابوس، في المرحلة الحالية أو القادمة.
سيناريوهات التغيير المحتملة
عندما ضربت موجات الربيع العربي شواطئ السلطنة البعيدة والهادئة، انفجر دفعةً واحدة العديد من المطالب الشعبية التي ذهبت أبعد من توقعات السلطة يومئذ، ولكنها لم تصل إلى مطلب رحيل النظام كما حصل في دول عربية أخرى. فإلى جانب مطالب تحسين الأوضاع المعيشية والتشغيل ومحاربة الفساد، ظهرت أصوات تطالب بإصلاحات تشريعية ودستورية (9) وأخرى بإقالة الحكومة المتهمة بالفساد وسوء استغلال السلطة، فيما نادت أصوات أخرى بتخلي السلطان عن منصب رئيس الوزراء وتعيين شخص من عامة الشعب يسهُل نقدُه ومحاسبته إذا ما أخفقت حكومته في عملها.
لقد استجابت السلطة لبعض تلك المطالب، فتم إعفاء من طالب المتظاهرون بإقالتهم من مناصبهم، دون أن يُحقَّق في تهم الفساد الموجهة لهم، وشُكِّلت حكومة جديدة، اُختير أربعة من وزرائها من أعضاء مجلس الشورى، وتم تعديل النظام الأساسي للدولة ومُنح مجلس عُمان صلاحيات أوسع، وقُدمت وعود بتشغيل نحو خمسين ألف شاب من العاطلين عن العمل. لقد كانت استجابة سريعة تمكنت فيها السلطة من امتصاص غضب الشارع لكنها لم تُنتج تغييرًا لا في طبيعة ولا في طريقة عمل الحكومة التي بقيت مرتبطة، في صغير عملها وكبيره، باسم السلطان الذي يُجرِّم القانون انتقاده أو المساس بشخصه (10).
إن واحدة من المشكلات التي تعاني منها السُلطة في عُمان، حالها في هذا حال باقي السُلطات في العالم العربي، هي عدم قدرتها على فهم ومواكبة الحراك الاجتماعي المتسارع والبيئة المعرفية الجديدة التي وفرتها ثورة الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي، خصوصًا وسط جيل الشباب، وبالتالي غياب خطاب مشترك بين سلطات ثابتة مغلقة ومجتمع متحرك منفتح. إن تغير البيئة السياسية والمعرفية وانهيار حائط الخوف لدى الشعوب، وفئة الشباب على نحو خاص، بعد أحداث 2011 ، يستوجب من السُلطة في عُمان إدراك حقيقة أن الشباب ليسوا مستعدين لمنح الحاكم القادم الدرجة نفسها من السيطرة التي منحها آباؤهم للسلطان قابوس (11).
ثمة تكهنات بتغييرات كثيرة وعديدة، بعضها يذهب إلى تعديل حكومي واسع يتنازل فيه السلطان قابوس عن بعض الحقائب الوزارية التي يشغلها حاليًا، وبعضها يذهب أبعد من ذلك، إلى تغيير يُمهِّد لانتقال الحكم ولو تدريجيًّا من السلطان قابوس إلى من سيخلفه؛ وذلك عبر السيناريوهات التالية:
- تعديل دستوري يُحدَّد فيه بوضوح الخطوط الفاصلة بين كل من السُلطة التنفيذية والسُلطة التشريعية والسُلطة القضائية، بحيث تتحقق الاستقلالية العملية والمعنوية لكل سُلطة ولا تطغى سُلطة على أخرى، خصوصًا السُلطة التنفيذية التي تهيمن في الوقت الراهن، على السُلطة التشريعية المفترضة في مجلس عُمان، بغرفتيه: الدولة والشورى.
فإذا كان السلطان قابوس شكَّل، بما يتمتع به من إجماع شعبي ومن مكانة في الذاكرة العُمانية المُعاصرة، رُمَّانة الميزان والتوازن بين السُلطات بوصفه رأسها جميعها، فإنَّ السُلطان القادم قد لا يحظى بنفس القدرة والمكانة التي تمكِّنه من لعب ذات الأدوار التي لعبها السلطان قابوس.
إن إصلاحلات جذرية تقوم على فصل السُلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتأكيد مشاركة الشعب، من خلال مجلس شورى حقيقي كامل الصلاحيات التشريعية والرقابية، وتحرير الإعلام، وإنشاء دولة المؤسسات، هو أحد المطالب والدعوات المثارة منذ قبل التحركات الشعبية التي شهدتها السلطنة في عام 2011 (12). - تعيين رئيس لمجلس الوزراء من خارج العائلة المالكة، يُطلَب منه تشكيل حكومة تُعرض على مجلس عُمان للمصادقة عليها قبل رفعها إلى السلطان للاعتماد؛ حيث سيحتفظ السلطان قابوس -بحسب بعض المطلعين منه- في حال إقدامه على تعيين رئيس وزراء، لنفسه ولمن سيأتي من بعده بالحق في اختيار وزراء ما يُعرف بوزارات السيادة كالدفاع والمالية والخارجية وديوان البلاط السلطاني ووزارة مكتب القصر، لأن خطوة كهذه تُبقي مقاليد الأمور في يد السلطان، لكنها تعفيه من مباشرة الأعمال التنفيذية اليومية للحكومة، كما تجنِّبه تحمل مسؤولية الانتقادات التي توجَّه للحكومة بسبب بعض الاتهامات بعدم الفاعلية والقدرة على الوفاء بواجباتها.
البعض يستبعد إقدام السلطان قابوس على تعيين رئيس لمجلس الوزراء، لا من عامة الشعب ولا من أعضاء الأسرة المالكة، لأن هذا الإجراء قد يعطي الانطباع بأن صحة السلطان ليست على ما يرام، وهذا ما لا ترغب أجهزة السُلطة المختلفة في الإيحاء به، على الأقل في الوقت الراهن؛ فصورة “السلطان القائد” يُراد لها البقاء جنبًا إلى جنب مع الصورة الجديدة التي باتت حاضرة في خطاب الإعلام الرسمي، وإن على استحياء، والتي تحمل دلالة “السلطان الوالد”. لكن في نفس الوقت، يرجح البعض الآخر تعيين السلطان لاثنين أو أكثر في مناصب نواب لرئيس الوزراء، تُوزَّع بينهم المهام الملقاة الآن على كاهل رئيس مجلس الوزراء وحده، أي السلطان قابوس.
الخاتمة
خلاصة القول: التوقعات عديدة وقوس التكهنات يتأرجح بين تغيير جذري مفصلي يُقرِّب عُمان أكثر من “سلطنة دستورية” يُتوِّج بها السلطان قابوس عهده ويُكرِّسه واحدًا من أهم صُنَّاع التاريخ الحديث لعُمان، إن لم يكن الأهم، وبين تغيير تدريجي يُمهِّد الطريق للمرحلة التي تعقب السلطان قابوس ويترك لمن يأتي بعده ما يُمكِّنه من تثبيت أركان حكمه وتعميق شرعيته عبر قرارات مفصلية ستكون مخططًا لها بعناية فائقة. وبين هذه الوجهة وتلك، يبقى أن قادم الأيام يحمل من الأسئلة أكثر مما يحمل من الإجابات التي يترقبها الداخل والخارج على حدٍّ سواء.
* نشرت هذه الدراسة أيضا في مركز الجزيرة للدراسات
__________________________
المصادر
1- تنص المادة الخامسة من النظام الأساسي للدولة على أن “نظـام الحكم سـلطاني وراثي في الذكـور من ذريـة السيد تركـي بن سعيد ابن سلطـان، ويُشترط فيمن يُختار لـولاية الحكم من بـينهم أن يكون مسلمًا رشيدًا عـاقلًا وابنًا شرعيًّا لأبوين عُمانيـين مسلمين”.
2- غباش، حسين عبيد، عُمان: الديمقراطية الإسلامية، تقاليد الإمامة والتاريخ السياسي الحديث، دار الجديد، بيروت، 1997.
3- المسكري، سيف بن عدي، الإمامة والصراع على السلطة في عُمان أواخر دولة اليعاربة، بيت الغشام للنشر والترجمة، مسقط، 2015.
4- انظر: المادة السادسة من الباب الأول “الدولة ونظام الحكم”-النظام الأساسي للدولة، نسخة رسمية إلكترونية متوفرة هنا:
5- المرجع السابق: انظر المادة السابعة، الباب الأول “الدول ونظام الحكم”.
6- المرجع السابق.
7- المرجع السابق.
8- “يـؤدي السلطان قبـل ممارسـة صلاحياتـه، في جلسـة مشتركة لمجلسـي عُمـان والدفاع، اليمين الآتية: (أقسم بـاللّه العظيم أن أحترم النظام الأساسي للـدولـة والقوانين، وأن أرعى مصالح المواطنين وحـرياتهم رعـاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه”.
9- كتاب مشترك، إعداد وتحرير سعيد سلطان الهاشمي. دار الفارابي، بيروت 2013 .اللواتي، صادق جواد سليمان، الربيع العماني.
10- “السلطان رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ذاته مصونة لا تُمسُّ، واحترامه واجب، وأمره مطاع. وهو رمز الوحدة الـوطنيـة والساهر على رعايتهـا وحمايتها” المادة 41، الباب الرابع “رئيس الدولة”، النظام الأساسي للدولة.
11- مركز كارنيجي للشرق الأوسط، واشنطن، فاليري، مارك، تفاقم الاضطرابات وتحديات الخلافة في عُمان، http://ceip.org/1IRt1D2
12- المحروقي، محمد، الماء الآسن: اعتصامات عُمان وما قادت إليه، الربيع العماني، كتاب مشترك، إعداد وتحرير سعيد سلطان الهاشمي، دار الفارابي، بيروت 2013.