عندما يكون الحديث عن السياسة والحرب، لابد أن ينطلق الحديث من المبدأ بعيدا عن التوجهات القريبة والبعيدة، فلن أنطلق من قضية تأييد الحرب عليها أو لا لاعتبارات مكانية أو طائفية؛ ولكن أنطلق من ذات الإنسان اليمني والبلاد اليمنية.
قريبا، نرى الناس تربط أحزمتها الصيفية للتوجه إلى الدول الغربية أو الشرقية، ولكنا أسعد لو كان التوجه إلى الديار العراقية أو اليمنية أو التونسية أو المصرية أو السورية مثلا، فهذا البلاد عمق الحضارات الإنسانية، مع جمالها الطبيعي والوجودي، ولكن للأسف عندما يتغير المسار بما صنعته أيدينا نحن العرب في خراب هذه الديار، فصرنا ممن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الغزاة، ومع ذلك لا نعتبر ونراجع أوراقنا، فتظل الأجيال تتصارع جيلا بعد جيل.
واليمن الحزين اليوم -السعيد بالأمس- عمقها الحضاري لا يقارب، فهي كفيلة بمخطوطاتها ومواقعها الأثرية أن تجيب عن العشرات من الإشكالات، وأن تكشف زيف التاريخ المزور خاصة التاريخ اليهودي بعد التوراة السبعينية ومحاولة الهيمنة في أرض فلسطين، وصنع تاريخ لهم أصله مسروق من الحضارة اليمنية والدول القريبة منها.
وحتى الآن، لا يعرف مصير المخطوطات اليمنية، والمواقع الأثرية، والعالم العربي لا زال يتصور اليمن دولة نائية فقيرة، بينما بلا شك يراها آخرون من غيرنا كنزا حضاريا ومعرفيا، مع استغلال الفقر وفقدان الأمن في سرقة أكبر قدر من تاريخ هذا البلد وتزييف مكانته وحضارته، والمستفيد بدرجة أولى التاريخ اليهودي والاستعمار الصهيوني في المنطقة.
كما أنّ اليمن تمتاز بالبعد السياحي والاقتصادي والموقع الجغرافي الذي يرفع شارة العرب في وحدتهم، ويقدم منفعة إنسانية للعالم أجمع، ولا يجوز بحال من الأحوال أن ينزل المستوى، ويغيب هذا البلد المعطاء عن الساحة بمفكريه وعلمائه وتراثه المعرفي والبشري ونتاجه الطبيعي والبيئي.
لقد ظَلَمَ اليمن اثنان: أبناؤه وجيرانه، أما عن الأول فالألم يزداد عندما تجد هذا مع شعب اليمن وهم من أعرق دول المنطقة فكرا وحضارة؛ نجدهم يتصارعون فيما بينهم، فما دخل العدو إلا بسبب شقاقهم وفرقتهم، مع تقدمهم السياسي، إلا أنهم لم يحسنوا التعامل خاصة في الوقت الراهن، فنهبت ثرواتهم، وجعلت من الفقر سوسا ينخر ما بقي فيها من كرامة وعرض وإنسانية.
وأما من جيرانها فالأمر واضح للعيان، فبلاد الجوار لم يهتموا بالإنسان اليمني كإنسان بقدر ما اهتموا بمصالحهم السياسية والطائفية، وهذه مشكلتنا في الحقيقة، تقديم المصالح السياسية والمذهبية على ذات الإنسان، مع أنّ دول الجوار بإمكانها رفع ذات الإنسان اليمني، والوقوف معه منذ فترة طويلة، بل كانت دول الجوار مصدرة للطائفية لهيمنة وجودها السياسي في اليمن، وتحقيق مآربها الدونية.
الحرب على اليمن تقدم لنا دروسا عربية جديدة مع كثرة الدروس المعاصرة من ضياع ما أسلفت من بلدان عربية جليلة، وعلى رأس هذه الدروس غياب المبدأ في الطرح ليس على مستوى الساسة والحكومات فحسب؛ بل على مستوى الإعلام والمفكرين وعلماء الدين والوعاظ والكتاب، فضلا عن عامة الناس.
فإذا جئنا إلى الإعلام طيلة الحرب على اليمن لا نجد قنوات محايدة في الجملة، فجل القنوات إن كانت موالية للتحالف تشن هجوما لاذعا وكاذبا أحيانا على الحوثيين ومن ناصرهم، وإن كانت هذه القنوات ضد التحالف كان العكس سيان ضد التحالف، وهنا يغيب ذات الإنسان اليمني في هذه المعمعة الإعلامية، وتغيب القيمة في الإصلاح التي دعا إليها القرآن وقت النزاع: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم.
وهكذا الحال سرى في الكتابات الدينية والسياسية في الجملة، بينما غاب الطرح المحايد الذي يخرج بالأزمة من ذات الصراع إلى مراجعة الذات في التفكير السياسي والديني عندنا، ولئن كانت اليمن اليوم ضحية فهم السابقون ونحن اللاحقون لا قدر الله، والأيام دول إن لم تكن هناك مراجعة حقيقية واستفادة من هذه الدروس.
لقد كشفت الحرب على اليمن وغيرها من حروب المنطقة أنّ الطائفية يصنعها الساسة؛ لتحقيق أغراضهم أكثر مما يصنعها التراث ورجال الدين، فهم يستغلون ما جاء في التراث ودعمهم لرجال الدين لتحقيق أهدافهم في ذلك، والضحية كما أسلفت دائما هو ذات الإنسان الذي لا جرم له في الحياة أمام هذه الأطماع السياسية والدينية.
الحرب على اليمن ترجعنا إلى أن تقف الأمة مع نفسها قليلا، وتعيد ترتيب أوراقها بعد نقد ذاتها، وأن يكون الإنسان فوق أي اعتبار فوق الدين والطائفة والمصالح السياسية، لعل اليمن يعود إلى حضن أمته آمنا مكرما معززا، وما ذلك ببعيد.