تقوم غالبية الحكومات العربية، وبالتحديد الخليجية، بمنع النشطاء والمهتمين في الشأن العام من تلبية الدعوات التي يتلقونها من المنظمات الدولية، للمشاركة في مختلف الدورات التي تقيمها في شتى المجالات. وتُعد الأنشطة المرتبطة في مجال حقوق الإنسان هي الأكثر حساسية، وتقابل بالرفض والامتعاض. ولم يقتصر الأمر بمنع النشطاء من تلبية تلك المشاركات فحسب، بل قد تتعدى المسألة إلى تعرض كل من تجرأ وتحدى هذا المنع بالمشاركة، من مغبة الاستدعاء والتحقيق، وبتوجيه أصابع الاتهام اليه بتهمة الخيانة، وبتبني أجندات خارجية، والعمل ضد مصلحة الوطن.
كما تقوم هذه الأنظمة، وغالبا بشكل غير رسمي، بتنظيم حملات التشهير ضد هؤلاء النشطاء وتسريبها للرأي العام، وذلك لردع كل من تسول له نفسه من مجرد التفكير بتلبية تلك الدعوات. كما تسعى جاهدة في الحد من انتشار موجة الوعي الحقوقي، من خلال خلق العقبات وعرقلة أي جهود تهدف إلى قيام مؤسسات مستقلة تعمل في مجال حقوق الإنسان؛ عن طريق سن القوانين المعقدة وطرح الاشتراطات التعجيزية التي يصعب على النشطاء إتمامها. بينما من المفترض أن توكل مسؤولية مثل هذه المشاركات إلى مؤسسات المجتمع المدني المستقلة، سواء كان في جانب ترشيح من يمثلها، أو بتحديد نوع العلاقة التي تربطها مع هذه المنظمات؛ فمثلا لو تأملنا ما يحدث في كثير من دول العالم، فسوف نرى بأن حكوماتها تعامل مثل هذه المشاركات كحق أصيل لكل من يساهم في بناء مجتمعه المدني ويدعو إلى الإصلاح والتغيير نحو مستقبل أفضل لبلده.
ليس هناك مجال للشك بأن الانخراط في العمل الحقوقي هو طريق شائك ووعر لكل من يقرر سلوكه، فهو يؤثر سلبا على الحياة الاجتماعية والنفسية للمشتغلين فيه؛ لأنهم يغامرون بسلامتهم الشخصية ولا ينتظرهم سوى مستقبل غامض ومجهول وأبواب موصدة. لأنه بالدول العربية، يعمل غالبية النشطاء الحقوقيين كأفراد وليس كجماعات، بل وتتعمد أنظمتهم تشتيتَ جهودهم، بهدف إبقاء حراكهم على شكله الفردي، وبالتالي يسهل عليها كسرهم متى ما أرادت ذلك. وعليه، يواجه هؤلاء النشطاء في أوطانهم صعوبات جمة في إيجاد ملاذ أو ملجأ لهم لاحتضانهم، أو الاستنجاد بتلك الجهة التي ستشد من أزرهم، وترفع من معنوياتهم وتحتويهم. وعليه، فمن الطبيعي أن تستنفد كل الطاقات، وأن يصاب أصحابها بالإنهاك، وأحيانا أخرى بنوبات الاكتئاب والرغبة في الانعزال أو بالفرار؛ مما قد يدفع بعضهم إلى التراجع ورفع راية الاستسلام لتشعر أنظمتهم بالانتصار وبتحقيق الأهداف.
ولا ننكر هنا بقيام مؤسسات للمجتمع المدني في بعض الدول الخليجية، لكنها تقف عاجزة أمام الضغوطات التي تفرضها عليها حكوماتها؛ أهمها منعها من تلقي الدعم المادي الخارجي. وفي المقابل، تقوم داخليا بعرقلة أنشطتها وتهديدها بشكل مستمر بمقاضاتها أو بإصدار قرار لإيقافها وغلق مقارها. وبالتالي تعجز هذه المؤسسات عن إيجاد موارد مالية كافية لها لدعم برامجها وأنشطتها المتعددة. وبتغطية التكاليف الباهظة التي تتكبدها لأجل نشر ثقافة الوعي الحقوقي وبناء القدرات وتدريب أعضائها ومنحهم الفرص وتهيئة المناخ المناسب للاطلاع على تجارب الدول الأخرى والاحتكاك مع المجتمع الدولي الذي هو جزء لا يتجزأ من عالمنا. وهذا التضييق الذي يتعرض له النشطاء في الوطن العربي، ومنعهم من ممارسة أنشطتهم في العلن، سواء كمؤسسات أو كمجموعات، ستتحمل هذه الحكومات عاجلا أم آجلا تبعاتها. ومن هنا يبرز دور المنظمات الدولية، فهي الجهة الخارجية التي تقوم باحتواء هؤلاء النشطاء وتفتح لهم أبوابها وقلوبها. وتقوم هذه المنظمات بدور كبير في تعزيز الثقة لدى هؤلاء النشطاء ومساعدتهم بالوقوف على أرجلهم والعودة إلى ممارسة نشاطهم بعدما فقدوا القدرة على فعل ذلك داخلَ أوطانهم. مثل المساهمة بتقديم الدعم النفسي والمعنوي الذي لا يتوفر في بلدانهم. بل، وفي الحالات الطارئة، كفترات الحرب مثلا أو الانقلابات أو خلال أحداث العنف أو أثناء فترة الانتخابات المخالفة بسبب عدم الاستقرار السياسي مما قد يؤدي الى استهداف النشطاء والمراقبين، يُعرض عليهم للجوء إلى الدول الأكثر أمنا وتقديم الدعم المادي لمن تقطعت بهم السبل عن إيجاد مصدر شريف لكسب الرزق أو عند فقدانهم لوظائفهم بسبب نشاطهم الحقوقي ودفاعهم عن المستضعفين ومحاربة الفساد.
مما لا يدركه الكثيرون أن الأمم المتحدة هي كذلك منظمة دولية لكنها تقبع تحت وطأة أعضائها من الدول المنتسبة إليها؛ فهي من تمولها، وهي من تدير خيوط اللعبة هناك، بالتالي لن تتردد هذه الدول الأعضاء بفرض أجنداتها الخاصة بها. وبداخل هذه المؤسسة تُعامل كل دولة كلٌّ حسب نفوذها ومواقفها السياسية ومكانتها أمام المجتمع الدولي. بينما تتشكل اللوبيات بين ردهاتها وبداخل مكاتبها السرية. وبالتالي تحمل كل دولة بداخل حقائبها الدبلوماسية المتخمة خلافاتها السياسية الجانبية وتنقلها إلى قاعات الاجتماعات. وعليه، تنشغل هذه الدول بتوظيف دبلوماسيتها لطرح صراعاتها الجانبية في ضرب بعضها بعضًا، والانتقام من بعضها البعض. وكلما اقترب موعد مكاشفة حكومة ما من بين الأعضاء، سواء كان خلال عرض ملفها الداخلي المعني بحقوق الإنسان، كحقوق العمال أو حقوق المرأة أو حقوق الطفل أو حقوق الأقليات أو حقوق المعاقين الخ. يُلاحظ هنا بأن الإعلان عن مواقف الدول الأعضاء تُتخذ بناء على طبيعة علاقاتها الثنائية أو الإقليمية ودرجة اتفاقهم أو اختلافهم في القضايا الدولية والاقليمية المختلفة أو على أساس المصالح المشتركة فيما بينها وعلى جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحدودية الخ. وكل هذا لا يعود بالنفع على مصلحة المواطن البسيط، وإنما تُبرم الاتفاقيات والعقود لأجل مصلحة السلطة مع الوضع في الاعتبار المنتفعين والموالين لها، بينما يكون مصلحة المواطن مهمشا في آخر القائمة وربما لا يوضع أبدا في الحسبان. ولهذا السبب نلمس التجاوزات القانونية من قبل هذه الحكومات عند تنفيذها لمشاريعها الاقتصادية الوطنية. وحينها توضع كل الاعتبارات الإنسانية والبيئية والصحية وحقوق الإنسان جانبا رغم أنها تدر الملايين على أصحابها ممن هم في السلطة ومن المتنفذين وتتحول الى حساباتهم الشخصية بينما لا يستفيد منها المواطن سوى الفتات.
ولهذا تعمل هذه الحكومات جاهدة وتبذل أقصى ما في وسعها لكي لا يخرج صوت آخر سوى صوتها الأحادي الى المجتمع الدولي، من خلال التقارير التي ترفعها بشكل دوري، عن طريق تكميم الأفواه وخنق الأصوات المعارضة لها وهي أصوات تنبع من المجتمع المدني المستقل. وأن تفرد عضلاتها على النشطاء الحقوقيين، وأن تجرم ممارسة العمل الحقوقي، وأن تجردهم من حريتهم في التعبير عن الرأي، وفي الدفاع عن حقوقهم، وأن لا تمنحهم حق الرد على التقارير التي ترفعها للمنظمات الدولية بالخارج، رغم أنه حق أصيل منحتها لهم الاتفاقيات الدولية. وكل هذا خشية من مغبة وصول تلك المعلومات إلى مسامع الدول المعارضة لها والتي تختلف معها في سياساتها ومن مواقفها لتجنب توظيفها ضد مصالحها الشخصية وليس لأجل مصلحة الوطن أو المواطن.
وبسبب كل هذه المظاليم التي تواجهها شعوب العالم من قبل أنظمتها، وخصوصا أن العالم قد أصبح العالم قرية صغيرة، نشأت المنظمات الدولية الحقوقية. وتحولت شعوب العالم إلى مواطنين دوليين أو التعريف بالمواطن الدولي. وعليه، فمن حق الجميع هنا الدفاع عن المظلومين والمستضعفين أينما كانوا أو من أينما أتوا في كل بقاع الأرض، لأن الظلم يمس الجميع ولا يعترف بالحدود الجغرافية. وبالتالي تبذل هذه المنظمات الدولية كافة جهودها في مقارعة هذه الحكومات مجتمعة، من أجل الحصول ولو على مساحة ضئيلة لإيصال صوتها التي تمثل مطالبات شعوب العالم كافة؛ وهي تحقيق السلام والعدالة الاجتماعية ونبذ التمييز والمحافظة على البيئة وتطبيق الديمقراطية من خلال حشد التأييد وخلق وسائل ضغط متعددة.
ومن ضمن الأدوات التي تستخدمها هذه المنظمات هي تكوين التحالفات الاقليمية أو النوعية للمناصرة تماما مثلما تفعل الحكومات. كما تنظم حملات لدعم وترشيح المقررين الخواص التابعين للأمم المتحدة. ومن ضمن مهام المقررين الخواص القيام بزيارات دورية للدول لتقييم الأوضاع الحقوقية والإنسانية هناك ومن ثم إعداد التقارير الخاصة بها. ولهذا نجد بأن تلك الأنظمة تسعى جاهدة لتعيين المقررين الخواص ممن يتماشون مع أمزجتها هي، ولكي تتمكن من إملائهم وتوجيههم فيما يكتبون. بينما تنشط المنظمات الدولية لأجل ترشيح الشخصيات الدولية البارزة ممن يتسمون بالنزاهة والكفاءة وممن يستحقون منحهم الثقة. كما تقوم المنظمات الدولية بتنظيم العديد من حملات المناصرة على المستوى الدولي سواء للأفراد الذين تعرضوا للانتهاكات أم للقضايا التي تعود بالضرر لشريحة كبيرة من المجتمع. مثل الحملات الإلكترونية الداعية لجمع التواقيع على مواقع التواصل الاجتماعي أو إعداد تصاميم خاصة ومقاطع الفيديو وغيرها.
وفي المقابل لن تقف هذه الحكومات مكتوفة الأيدى أمام كل هذه الحملات التي تشن ضدها. حيث ستبدأ بتنظيم حملات مضادة تكون أحد أهم أهدافها االتشكيك بنزاهة تلك المنظمات أمام الرأي العام بهدف القضاء على تأثيرها في دولها. والذي يسهّل على هذه الأنظمة بتأدية مهمتها على أكمل وجه هي امتلاكها للموارد المالية وتوفر الأدوات لديها، كالإعلام الموجه والقوى البشرية. كما أنها تسيطر على غالبية أقلام الكتّاب والمثقفين وأبناء المنتفعين والشخصيات العامة التي قدمتها هي للمجتمع، والتي تقوم بتوظيفها عند الضرورة للدفاع عنها، كإنكار فسادها وتجاوزاتها وأخطائها وعيوبها. وكذلك يشتكي الكثير من النشطاء الحقوقيين، منهم البريطانيين، بسبب الانتهاكات التي تقوم بها حكوماتهم، منها الزج بعملائها من الأمنيين في الوسط الحقوقي وتوزيعهم في مؤسسات المجتمع المدني ومن ثم مساعدتهم في الفوز بأعلى المناصب. وتكون مهمة هؤلاء العملاء العمل على زعزعة ثقة الرأي العام بهذه المؤسسات وفقدها لمصداقيتها وخلق البلبلة والمشاكل والخلافات الجانبية ونشر الفتن وممارسة الفساد وطرح قضايا سطحية وتافهة والدفاع عن السلطة بشكل مستميت بدلا من الوقوف مع المجتمع لإعاقة عجلة التطور لهذه المؤسسات والحد من انتشارها. وكل هذا لأجل إقناع الرأي العام بالكف عن مطالبتها بقيام هذه المؤسسات التي لا جدوى لها.
كما لا ننكر وجود منظمات دولية مشبوهة والتي تتبنى أجندات خاصة بها، والتي قد ترتدي أقنعة غير التي تظهرها لنا. وربما ما قد نراه في الظاهر هو المحبة بينما ما تضمرها لنا في الباطن هي الكراهية؛ وهي في الواقع ليست أفضل حالا من أغلب أنظمة العالم. وتستهدف هذه المنظمات من خلال الأنشطة التي تقيمها هؤلاء ممن يرتدون أقنعة النشطاء ويدعون المطالبة بالإصلاح والتغيير في دولهم، بينما في الباطن يكبتون في صدورهم الضغينة والكراهية الشديدة ضد أنظمتهم، بل ويتملكهم رغبة جامحة في الانتقام. وأيضا قد يكون هدف بعضهم جمع المال أو يحلمون بكسب شهرة دولية في النضال. وربما يعلل هذا السلوك إلى ما عانوه في بلدانهم من جوع وقمع وتهميش وتمييز وخنق لأحلامهم وطموحاتهم. وبالتالي قد يقعون بوعي أو بدون وعي ضحايا لمثل هذه المنظمات أو قد يكونوا غير مدركين بخباياها ولا يمتلكون الخبرة الكافية لكشفها.
إذن لو خرجنا باستنتاج هنا، فمن وجهة نظري أن هناك أربع فئات من المنظمات الدولية المستقلة. النوع الأول هي منظمات دولية نزيهة وهي التي تقف في صف الشعوب والمستضعفين وتكون أهدافها واضحة ومعلنة وتهمها سمعتها الدولية ولا تنقاد وراء إغراءات الحكومات ولهذا فهي دوما تُحارب من قبلها. أما النوع الثاني فهي المنظمات الدولية الموالية وهي التي تعمل لمصلحة الحكومات وتخدم أجنداتها من تحت الكواليس حتى وإن أظهرت عكس ذلك. والنوع الثالث فهي المنظمات المنتفعة التي تتعمد بإثارة الحكومات وكشف عوراتها لكي تتربح من ورائها وتدفع لها. وأخيرا هي المنظمات المشبوهة وهي التي تعمل ضد دول محددة وتدار من قبل أنظمة مخابراتية وتتستر بقناع المنظمات الدولية لأجل تحقيق أهدافها السياسية.
إذن الواقع الذي يفرض نفسه هنا هو أن الأدوات الأمنية التقليدية لم تعد كفيلة بردع هؤلاء النشطاء من التخاطب مع المنظمات الدولية، كالترويع والقمع والمنع من السفر وسحب الأوراق الثبوتية وحجب مواقع الاتصالات المجانية ومراقبة الحسابات الشخصية والتنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة التحركات اليومية الخ. لأن مع تقدم التقنيات الحديثة وتطورها أصبحت وسائل التواصل اليوم عديدة وطرق اختراقها وتشفيرها وتهكيرها أسهل من ذي قبل، فهي لم تعد حكرا على الأجهزة المخابرتية والأمنية فحسب؛ بل أصبحت هذه الخدمة متاحة وفي متناول أيدي الجميع. وأكبر مثال على ذلك هو أن يكون أبرز المخترقين هم من فئة المراهقين، الذين نجحوا مرارا وتكرارا من كسر أعتى المواقع الإلكترونية تحصينا على الشبكة العنكبوتية واختراقها بدعسة زر.
إذن ما هو الحل؟ لأننا في المقابل لا يمكننا أن نغض البصر وندعي عدمَ وجود هذه المنظمات بينما من جانبها تعلم هي جيدا بوجودنا وملمة تماما بكل ما يدور بدولنا !
ختاما، إن منع الحكومات الخليجية لشعوبها من ممارسة حقها في تكوين مؤسسات مجتمع مدني مستقل سوف يؤدي إلى فتح الأبواب على مصراعيها وتدفع بالأجيال الناقمة الحالية والمستقبلية إلى تشكيل تحالفات خارجية والتعاون مع جهات أجنبية بعيدة عن أنظارها مما ينذر بعواقب وخيمة. ومستقبلا، ستجبرهذه الحكومات، شاءت أم أبت بالتعامل مع هذا الملف بشيء من العقلانية وإيجاد حلول مرضية لجميع الأطراف.