الإرادة دائماً ما تجد الأداة الصالحة لتحقيق التغيير (بتعبير غرامشي)، وهي في ذاتها أجلُّ وأنبلُ وسيلة للشعوب لفعل التغيير والإصلاح والحفاظ على حيويتها وتطورها الوجودي، بقطع النظر عن نوع وزمن وكم الممانعة والتضييق الذي تمارسه السلطات التقليدية الحاكمة. فإن كانت الهيمنة عادة السلطة الأثيرة تاريخياً، كذلك يخبرنا التاريخ نفسه بأن الشعوب إذا ما أرادت حققت. لم يعد خافياً، أن الإنسان في منطقة الخليج العربي لم يمر عليه زلزال الربيع العربي دونما تغييرات طالت منسوب الوعي لديه، بل تجاوزه إلى تحقيق مكتسبات ميدانية، وهي رغم ضآلتها، نقاط تقدم فارقة وساطعة وجلية للمجتمع والدولة والناس عما كان الوضع عليه قبل هذا الحدث المفصلي.
من أوضح هذه التغييرات علو صوت المجال العام المنادي بضرورة الإصلاحات السياسية والمدنية، تطور حس الرقابة الشعبية على المؤسسات القائمة، وتزايد حالات التمرد على الحالة الأبوية السائدة بين الحاكم والمحكوم. هنا استعراض لجانب من صراع هذه التغييرات مع السائد العام:
على قدر سجونك يقاس خوفك
المتتبع لأحداث المنطقة منذ مطلع العام 2011 لا يمكن أن يُخطئ تصاعد المطالبات الشعبية بضرورة الإصلاحات، خاصة تلك المعنية بالحقوق المدنية والمشاركة السياسية، وإجراء تغييرات دستورية تحفظ الحقوق وتصون الحريات. فالجيل الشاب في الخليج اليوم يمارس في كل حركاته وسكناته نقداً علنياً غير مسبوق مع مسائل كانت من المسكوت عنها، والمهموس بها سراً، كالاحتكار السياسي والفساد المالي. بل حتى النكتة الشعبية، على سبيل المثال، لم يعد موضوعها هو الشخصي والخاص بقدر ما غدا العام من قضايا الفساد الإداري والمالي ورموزه وجبة يومية تتجاوز مرحلة التندر إلى حالة علنية متصاعدة للمطالبة بالحقوق وضبط إجراءات الرقابة والمحاسبة وفق معايير الشفافية والنزاهة.
في الجانب المؤلم من المشهد، لا تدل المحاكمات الواسعة والمستمرة في البحرين والكويت والسعودية وعُمان والإمارات للناشطين والمطالبين بالإصلاح من نواب مجالس إلى مغردين ومدونين في وسائل التواصل الاجتماعي بل و “مدردشين” في برامج محدودة الانتشار،… لا يدّل ذلك على حالة الاستقرار والأمان التي يحلو لهذه الأنظمة أن تروج لها، بل على النقيض تماماً، يعكس حالة من فقدان الثقة والخوف والشعور بالخطر من كل رأي يُطرح في العلن، أو تجمع سلمي للتعبير عن الاحتجاج والرفض لقرارات السلطة المركزية أو حتى التضامن الإنساني، في حدوده الدنيا، مع قضايا العالم العادلة كالقضية الفلسطينية! أنظمة الحكم في الخليج لا تقرأ هذا التحول، حتى اللحظة على الأقل، على أنه نتاج متوقع لسياساتها الماضية، والتي فرّخت البطالة والتهميش والاحتكار السياسي، وتجفيف منابع الإبداع المعرفي، والتوزيع غير العادل للثروة.. بقدر ما تحاول أن تراه مشروعاً تخريبياً قادماً من الخارج، تموله “منظمات مشبوهة” و “دول استعمارية“.
ومن سوء المصادفة، ربما، عدم استقامة وثبات هذه الكليشيهات والتهم البالية مع واقع الحال، إذ إن جميع هذه الأنظمة، بلا استثناء، هي شريكة مخلصة لحكومات الدول “الاستعمارية”. بل إنها الراعي الرسمي لمصالح هذه الدول داخل أراضي الخليج وعلى حساب موارده الطبيعية وثروات أجياله، سواء من خلال القواعد العسكرية المخترِقة لمفهوم السيادة الوطنية، أو تلك الشركات الكبرى المسيطرة على قطاعات النفط والتجارة والصناعات التحويلية والإنشاءات والاتصالات عبر اتفاقيات مع المستعمِر القديم/الجديد لمئات السنين. بل واستمرار وتسابق الأنظمة الحالية على حماية ودعم شبكات التجسس التي تنشئها وكالات المخابرات الأميركية والبريطانية، وتأمين المكان الآمن على أراضيها والسيولة المالية الكريمة لأداء مهامها سيئة السمعة والعواقب على البلاد والناس.
الصراع القائم اليوم بين قطاعات واسعة من الشباب الخليجي وأنظمة الحكم الحالية هو حالة طبيعية لتطور المجتمع. إن لم يُفهم ذلك في سياق حق الإنسان في توسيع وتشكيل خياراته لواقعه ومستقبله فإن العنف الذي تمارسه هذه الأنظمة من قمع وتعذيب وسجن، ومنع وتضييق ضد ممارسي التعبير والنضال السلمي لن يؤدي إلا إلى عنف مضاد، إلى حالة احتقان متصاعد ومستمر ومتمدد عبر الزمن والأهداف والحدود. والمنطقة خميرة جاهزة وخصبة لأنواع متعددة من الصراعات والحروب العبثية، الأخطر والأشد فتكا ليس بالأنظمة والحكام فحسب، بل بالدولة والمجتمع والناس، كالصراعات الطائفية والمذهبية والفئوية والقبلية. وما جموع الشباب الخليجي الذين قضوا سابقاً في حروب أفغانستان والشيشان وكوسوفو، والآن في سوريا والعراق إلا دليل على انسداد الأفق وانعدام الأمل ونزف الطاقة الذي عانوا منه، وما يزالون، من جهة، واستعدادهم وقابلياتهم المفتوحة للانخراط في الصفوف التي تنادي بالاستئصال والعنف بعدما فقدوا الأمل في النضال السلمي والإصلاح الهادئ والمتدرج من جهة أخرى. وما تنامي جيوش المحبَطين على حدود دول الخليج كتنظيمات الدولة الإسلامية وجبهات القتال المجاني والمفتوح ومثيلاتها من التنظيمات العابرة للحدود والأفكار إلا تأكيد لهذا الأفق المسدود.
نزف الثقة نذير زوال
بقدر ما توسع الوعي بأهمية ضبط ورقابة الصرف على حاضر الأجيال في المنطقة بفعل انتشار وسائل التواصل والتعبير عن الرأي، بقدر ما توسع، في الجهة الأخرى، قمع ومحاصرة الأجهزة الأمنية لكل من يوسع هذا الوعي. الأمر الذي يدلل على أنها أجهزة أمن أنظمة، وليس أمن دولة وإنسان. فالوضع الطبيعي أن تحافظ هذه المؤسسات على المال العام، وترعى التنفيذ الفوري والصارم للرقابة والمحاسبة، وتكافح الفساد، لا أن تحميه وتوفر الغطاء الآمن لمرتكبيه. الإشكال الآخر الذي تأكد لدى قطاع واسع من الشعوب في المنطقة، خاصة الشباب منهم، هو شلل المؤسسات الصُوَرية التي أنشأتها وتحكمت بها الأنظمة الحاكمة، شللها عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها الوطنية في تمثيل الناس كرقابة فاعلة على المال العام على الأقل. ناهيك عن عدم قدرتها على اجتراح بدائل عملية عن النفط كمصدر وحيد للدخل الوطني. فمجالس الشورى والأمة والوطني ما زالت لم تبارح الدور الاستشاري الذي رُسم لها. مسيرها السياسي والتشريعي بيد الحاكم وسلطته التنفيذية وأجهزته الأمنية. أما مصيرها الإداري والمالي فمتَحكم به من قبل وزارات المالية. جُل الأعضاء القادمون إليها من المضمون ولائهم للنظام الحاكم، الطامعون ببعض غنائمه لتأمين حياتهم لما بعد عضويتهم، العاملون على تأمين امتيازات أكبر لقواعدهم الانتخابية المصنفة قبلياً وطائفياً، لا وطنياً ومدنياً.
بل إن وسائل إعلام السلطة التنفيذية، والتي عادة ما تمثل النظام الحاكم، ما انفكت تقلل من أهمية هذه المجالس وتتندر على مطالب أعضائها، مع استخدام كل ذلك كذريعة لعدم جاهزية المجتمع للديموقراطية والتعددية والمشاركة السياسية الفاعلة. إن تصوير الديموقراطية على أنها صندوق اقتراع، وورقة انتخاب، وعضو يسعى لمصالح فئوية أو طائفية أو قبلية.. هو تنميط مخلّ للفكرة. لذا، عمّقت مرحلة ما بعد الربيع العربي نزف الثقة، الهشة أصلاً، ما بين الشعوب من جهة وبين المؤسسات القائمة من جهة أخرى. وبشكل أدق، تزايدت المطالب بإعادة تشكيلها وفق مستوى الوعي الحالي وإلا ستبقى مؤسسات معزولة، نافية للآخر المختلِف عن توجهات الأنظمة الحاكمة، وهادرة للمال العام وللتطلعات الشعبية.
صغير الأمس كبير اليوم
لعل من أبرز مظاهر التغيير التي أحدثتها مرحلة ما بعد الربيع العربي تصاعد حالة التمرد والرفض والاعتراض وبشكل علني ومتزايد على البنية الأبوية الحاكمة لحياة الناس والمجتمع، من الأسرة مروراً بالمؤسسات الوسيطة إلى الحاكم نفسه الذي لم يكن أحد في السابق، يتجرأ على الكلام عنه، ناهيك عن الكلام عليه! والتي أطلقت عليها السلطات مسمى “قضايا الإعابة والمس بالذوات السلطانية والأميرية، والنيل من مكانة وهيبة الدولة”.
كعادتها تعاملت الأنظمة القائمة مع هذا التحول المهم والمُعقد بالطرق التقليدية ذاتها، أو بالأحرى شغّلت وسائلها التي لا تعرف أو ربما لا تثق بسواها، من تجريم الفعل من خلال تغييرات سريعة لنصوص القوانين السارية، وجعلها أقرب لحالات الطوارئ كما حدث في السعودية وعُمان، أو بشكل متناقض حتى مع البنية الدستورية والتاريخية كما حدث ويحدث في مثال الكويت. وبالغت بعض الأنظمة في الأحكام على من فكر بالتجرؤ على قول قصيدة أو رفع عريضة مطالب للحاكم بعقوبات سجن تمتد لخمسة عشر عاماً، كمثال الإمارات وقطر. ولم يتورع النظام في البحرين عن قتل وسجن حتى الأطفال والمعاقين الذين عبَّروا بصوت مسموع عن رأيهم فيمن يحكمهم، ناهيك عن سحب صفة المواطنة من الناس بمجرد قولهم رأي يخالف السلطات السياسية والدينية والاجتماعية. ولعبت وسائل الإعلام الرسمية بشقيها التقليدي والجديد على شيطنة كل كلمة مختلفة وفكر ناقد، وعمل رجال الدين على تحريمه، وتنافس كثير من المثقفين على تصوير ما يحدث “بالغريب عن التربة الطيبة الطاهرة لهذه الأرض” وربطه بمخططات تخريبية تُدار من الخارج للنيل من مكانة وهيبة الدولة. على الرغم من أن الدولة هنا هي الغائب الأكبر. واجتهد الجميع في محاصرة الحالة وكبتها أكثر من دراسة أسبابها والوقوف على مسببات ظهورها، ولماذا في هذا الوقت بالذات، وبهذه الأساليب بالتحديد. بل حتى المؤسسات التي يفترض أنه مناط بها مهام الرصد والتفكير، كالجامعات ومراكز البحث في المنطقة، تجاهلت دراسة هذه الحالة ونأت بنفسها عن الاقتراب من عواقبها وخواتيم التعامل معها بالقمع والتنكيل، إما خوفاً أو عجزاً، وفي كلا الأمرين تأكيد لغياب استقلاليتها، وفقدانها للجِدة والمنهج الضروريين لمعرفة أسباب تحول اجتماعي عميق كهذا.
وبعد..
أوضحت التجارب الإنسانية أن التجاهل أو القمع لحالات التمرد الاجتماعي هي أبرز الأسباب لتذكيتها من جديد. إذ إن التمرد بطبيعته نابع من حرمان أو تهميش أو إقصاء أو ضغط أو تضييق، أو حتى إهمال وتجاهل. فالتمرد كفكرة وكممارسة، تعبير عن الانسداد، والانسداد نهاية طبيعية للأنظمة المغلقة في وجه التغيير والتفاعل والديناميكية. وبقدر حجم الانسداد يكون الانفجار. كما أن ثقافة الخوف قد تبدو لمن بيده زمام الأمور أنجع وسائل السيطرة. لكنها على المدى المتوسط والبعيد أخطر الطرق تدميراً للفرد والجماعة والدولة لأنها تأتي على أهم ركائز الاستقرار: الثقة والإبداع. إن تآكل الثقة العامة التي هي ركن أساسي في العقد الاجتماعي بين الناس ومن يُدير شؤونهم العامة، أقصر طرق الانهيار من الداخل، وما ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وما الثورة المضادة إلا تأكيد لهذا الافتراض.