إنّ أخطر ما يهدد المجتمعات المدنية اليوم الخطر الطائفي الذي يحول روح الخلاف إلى صراع كلامي بداية، ثم يتطور بعد ذلك إلى استغلال داخلي أو خارجي لأغراض سياسية أو دينية.
وإذا كانت عمان لم تعرف في تاريخها القديم حروبا بسبب الخلاف الديني والتوجه المذهبي؛ تكاد هذه الصورة السمحة غالبة بصورة كبيرة حتى في الجزيرة العربية عموما، بما فيها الحجاز واليمن عدا فترات بسيطة، ويمكن الصراع السلفي – الصوفي في الحجاز في بداية الدعوة السعودية – السلفية، وما نتج عنه من دماء هو الأقوى في تاريخ الجزيرة العربية.
هذا خلافا لمصر والحجاز والعراق التي طالما اشتعل فيها بسبب الخلاف المذهبي والديني حروب راح ضحيتها الأخضر واليابس، حتى بين المذاهب الأربعة كما في مصر، أو بين المسلمين والنصارى كما في الشام، أو بين السنة والشيعة كما في العراق.
واليوم يستغل هذا الخلاف الطائفي لأغراض سياسية فراح ضحيتها الوطن العربي، فهذه لبنان عروس العرب أصبحت عجوزا شمطاء بعد ما كانت منبرا للعرب وبوابة الحضارة، فتبعتها العراق، واليوم تونس وسورية وليبيا والعراق واليمن، وكادت الجزائر أن يكون مصيرها ليس بأحسن حالا من هذه الدول، لولا لطف الله تعالى ورحمته، فصرنا ممن يخربون بيوتهم بأيديهم، وإذا كانت إسرائيل بصهيونيتها وطائفيتها تخرب فلسطين، فنحن بطائفيتنا نخرب بلادنا وبلاد العالم أجمع، فالدماء لا تراق فحسب في بلاد العرب فما باكستان وأفغانستان عنا ببعيد، واليوم نصدرها إلى أوربا وأمريكا وشرق آسيا وأفريقيا والهند، فلا يسلم محل من نار اختلافنا، وسعير نزاعنا.
وعمان ليست بأحسن حال، وأفضل محل، فهي مع تعايشها الديني، ليس بين الإباضية والشوافع والأحناف فحسب بل حتى مع الهندوس والنصارى واليهود عندما كانوا يعيشون بيننا، وإن حدث من الخلاف الفكري، لكنه كان رهين الكتب، وحبيس المجالس العلمية بين العلماء، لذلك نهى من علماء عمان إثارة الخلاف التاريخي بين العامة كالخلاف الذي جرى بين الصحابة، أو في مسائل الصفات، والاهتمام بما يسعهم من دين الله تعالى في شؤون دينهم ودنياهم، ومن هؤلاء الإمام محمد بن عبد الله الخليلي، بل كان منهم من يدرس الناس على مذهبهم كما كان السالمي يفعل مع أهل جعلان حيث يعلمهم على المذهب الحنبلي لأنهم وإن كانوا إباضية أجدادا، لكن لم يمنع من تحنبلهم أن يعلمهم هذا الإمام على مذهبهم، ضاربا أروع الأمثلة التأريخية في ذلك.
والذي أومن به أنّ الاعتدال عند الناس هو الأصل، والتطرف الطائفي نشاز، أكبر أسبابه المتدينون الذي يتربون في الكليات والجامعات والحوزات والمدارس الدينية، خاصة التقليدية، ولو اقتصر الأمر عند الخلاف العلمي والبحث المنهجي في هذه المدارس لهان، ولكن – للأسف – أن تستغل منابر المساجد، والقنوات في إشعال هذا الفتيل، وإدخال العامة في هذا الصراع، مما ولد ما نراه من ردة عن الدين من جهة، وغلو في التعصب والذي يصل إلى الهجر واللعن وإراقة الدم من جهة أخرى، فاستغل الشيطان هذا الخلاف الواسع في نشر عدوانيته، وإثارة البغضاء بين الناس باسم الدين والإسلام!!!!
أنّ يتشيع ألف، أو يتسنن ألفان، أو يتبيض ثلاثة، أهون عندنا من إراقة الدم، وتحويل المجتمعات المدنية الآمنة إلى مجتمعات طائفية متباغضة متحاربة متصارعة، فيشغل الناس من النظر إلى مستقبلهم ليعيشوا صراع القرون الأولى الذي لن ينتهي لأنّه خلاف فلسفي وليس تجربة علمية تنتهي عند نتائج معينة ….
فماذا يريد المتعصبون للمذاهب من الناس، إن كانوا يريدونهم على مذهب واحد فلن يستطيعوا ولو بذلوا أموال الدنيا في نشر مذهبهم، وإن كانوا يتصورون أنفسهم على الحق فليتركوا الناس لخالقهم هو أعلم بهم، وليتركوا المساجد لله وحده لا شريك له، ولا يتدخلوا في عبادة الناس وطقوسهم.
أقول هذا وأعلم أنّه ليس حلا، لأنّ من له اليد في هذا من الساسة في الحقيقة متكئ على مذهب معين حفظا لسلطته أو مكانته، وهذه مشكلة العالم العربي، ليس السياسة والدين معا، بل السياسة والمذهب، وما المؤتمرات إلا أشكال نمطية للتخدير الإعلامي لا أكثر ولا أقل، والتسامح عملة سياسية للتبييض الخارجي.
في تونس منعوا المدارس الدينية عقودا من الزمن، فهاجر أبناؤهم إلى الجزيرة العربية، ولما رجعوا وجدوا غالب الناس أشعرية صوفية بالفطرة، فشلوا سلاحهم على إخوانهم تبديعا وتشريكا، ففرقوا بين الناس، وأثاروا اللغط في المجتمع، وصار الذي يعبد ربه، ويركع له، وانحنى ظهره سنين؛ أصبح هذه المسكين في عشية وضحاها في عداد المشركين لأنه كان يتوسل بالأموات كما كان أجداده، مع توحيده لربه، فهنا تطلق زوجته، ويسبى ماله، ولو كانت لهؤلاء سلطة لقطفوا رأسه لكونه مشركا مرتدا!!!
والمشكلة الأكبر أنّ المجتمع التونسي وجد نفسه غير محصن، لأنّه همش الجميع من المعتدلين وغيرهم عن المدارس الدينية، واعتبر التدين تهمة، فتربى من المجتمع التونسي في غير بيئته، ورجع على غير فكره، وكانوا الأكثر عددا، ومسكوا المساجد والمدارس، فكانت النتيجة!!!
أقول هذا – ونحن في عمان – ليست مشكلتنا بحق مع التشيع والتسنن والتبيض؛ ولكن مشكلتنا مع الغلاة من جميع المذاهب الدينية وغيرها، مع إيماني أنهم قلة قلائل جدا، والحل ليس في الوقوف ضده كلاما فقط، فالغلو موجود منذ خلق الله البسيطة، والعلاج في أمرين في نظري:
أولا: تقوية القانون المدني وتفعيله، فكل من يستغل المنابر والمساجد استغلالا طائفيا أيا كان فلابد من المحاسبة القانونية، بأي وسيلة من الوسائل.
ثانيا: وجود البديل إعلاميا وتربويا، فلابد من وجود جامعات ومراكز دينية في جميع الولايات والمحافظات تكون بأيدي المعتدلين، وأن تخرّج الأجيال على أساس المشترك بين الناس، وأن يتفقه الناس على جميع المدارس، وأن يعرفوا بعضهم بعضا، مع تحبيذ وقد ناديت بهذا سابقا من وجود قناة دينية أو فكرية يجلس فيها الجميع من الأطراف الدينية وغيرها على طاولة واحدة، وأن تكون القناة مدنية جامعة للجميع، وذات شفافية وحرية يشارك فيها السني والإباضي والشيعي واللبرالي والحداثي وغيرهم؛ لأنّ وطننا يسع الجميع.
ثم بعد هذا من حق أي إنسان أن يبين فكرته وأصول مذهبه في المكان المخصص لذلك، كالمقالات العلمية، والصحف السيارة، ووسائل التواصل دون المساس بالآخرين، وأماكن البحث العلمي، ولتترك المساجد لله، وليخاطب الناس بما يسعهم من دين الله تعالى.
أما من يخرق القانون فيستغل المنابر طائفيا، ويسيء إلى الدعوة الجامعة بين الناس إلى دعوة مذهبية مفرقة، فهذا شأنه القانون الجامع والحافظ للجميع، وله فيما ذكرنا ميدانا رحبا، ومن أراد نقض فكرته فالمنهج العلمي أداة الجميع.
إنّ الناس بحاجة إلى من يجمعهم لا إلى من يفرقهم، فلقد عانت هذه الأجيال من هذا الصراع، فكانت نتيجته، ولطالما بكينا على دول عربية خربتها أيدينا فهل نريد اليوم أن نواصل البكاء على ما بقي لنفرح العدو بسهام عداوتنا لبعضنا، مع ضرورة أن ننقد أنفسنا، فكما تصنع القنابل العنقودية في مختبراتها فهناك قنابل تصنع في الجامعات والحوزات الدينية، إن لم تنقد ذاتها وتحرك المياه فلا أمل في التعايش في المستقبل، فآن أن يفيق الجميع، وهذا الوقت وقت العقلاء لا وقت الصراخ واتهام الآخر، وحينها لا ينفع الندم، ولنرحم الأجيال القادمة، فلا نترك القنبلة حية لعلها تنفجر في يوم ما.