فترة التيه التي تعاني منها الأمة، بشتى اتجاهاتها الفكرية والفقهية، لا بد أن تتوقف. إن لم تتوقف على أرض الواقع، فلا بد أن تتوقف على المستوى الفكري، أي لا بد من وقفة لحوار هادئ بناء بين شتى فئات المجتمعات العربية، وخاصة قادة الفكر والفقه الوسطي فيه؛ لوضع قواعد وأسس فكرية وفقهية للمّ الشمل العربي الإسلامي، وإعادة التذكير بمبادئ الدين الحنيف، وأواصر الإخاء، وكذا مبادئ التعايش والإخاء الإنساني. إن الخوض فيما يحدث حولنا من أحداث جسام، سواء على مستوى الحدث أو ردة الفعل عليه، أو من الظالم ومن المظلوم، وكذا استدعاء التاريخ، وتكفير فكر أو مدرسة فقهية بأكملها، كل ذلك لن يأتي على الأمة بخير، سواء من ادعى أنه مظلوم وغيره ظالم، أو من ادعى أنه صاحب الفكر والفقه الحق المستنير وغيره منحرف أو متطرف.
وفي هذا السياق، وخلال ربع القرن الاخير، لا بد أن نلتفت إلى ما حل بالأمة من تمزق وقتل وتنكيل وتدمير، في بقاع شتى منها. وها هي الأحداث الأخيرة، تنبه إلى وصول تلك الأخطار والأخطاء إلى داخل الخليج العربي، بعد أن كانت تحوم حوله من كل صوب. فعلى مستوى الدول، انقسام السودان الى دولتين، وتدمير وتقسيم الصومال إلى دويلات وميليشيات متناحرة، وتدمير أفغانستان، وتدمير العراق وتسليمها للمليشيات المتطرفة، وتدمير سوريا، وإشعال الحرب في ليبيا، وتسليم اليمن إلى مليشيات متطرفة ثم تدميره، سيطرة المليشيات المتطرفة على لبنان، الانقلاب على الثورة والحرية في مصر لصالح الانقلاب الدموي، كل هذه الأحداث الجسام لم يمضِ عليها أكثر من خمسة وعشرون عاما.
أما على مستوى الأيام القليلة الماضية، فقد شهدت أحداثًا متلاحقة؛ منها في العراق: تمدد داعش في مواقع شتى منها، قابله تمدد المليشيات الطائفية المتطرفة التي تدعمها الحكومة الطائفية في العراق، أو ما يسمى بالحشد الشعبي، وشاهدنا حرق عراقيين أحياء من قبل هذه المليشيات المتطرفة. بينما في سوريا، شاهدنا تمددًا آخر لداعش، وما يتبع هذا التمدد من جرائم شتى لهذه المجموعة، من قتل وإعدامات وتمدير، وفي المقابل فإن جرائم النظام المتطرف في سوريا لم تتوقف عن تدمير البلاد وقتل العباد، بشتى أنواع أسلحة الدمار والقتل والترويع، ومنها البراميل المتفجرة، هذا غير أعمال المليشيات الطائفية الأخرى التي تقاتل في سوريا، وتمارس دورها كاملا في دعم النظام المجرم ومجموعاته المجرمة. وفي اليمن ما زالت المليشيات الطائفية المتطرفة تعيث في الأرض فسادا، وتسيطر على معظم البلاد، بعد أن تم تمكينها، من قبل الدول الداعمة للإرهاب والطائفية، ومن دول أخرى تكره الحرية وتحارب في كل مكان لإجهاضها مهما كلف الثمن، كما أن طائرات قوات التحالف، التي تستهدف المتطرفين في سوريا والعراق واليمن، لم تحقق إلا مزيد تقدم للمتطرفين أنفسهم، ومزيد دمار لتلك البلدان. أما على مستوى الأحداث اليومية المفزعة، فقد شاهدنا تفجيرات المساجد في الكويت والسعودية من قبل المتطرفين، وتفجيرًا آخر في تونس، وتعذيب السجناء بسجن رومية بلبنان من قبل الطائفيين، وأحداثًا شتى، كلها تصب في تعميق الجراح بين الإخوة في الدين، وحتى الوطن أحيانا، وتشمت بناء أعداء الأمة والمتربصين، وتمهد لمزيد فرقة وتناحر.
ولو دققنا النظر قليلا في مواقع تلك الأحداث، وخاصة تلك التي وقعت في عالمنا العربي، لوجدنا أنها في دول عانت من اضطهاد طائفي كالعراق بعد الاحتلال الأمريكي، بعد تسليمها للمليشيات الطائفية المتطرفة، وما أصاب الشعب العراقي من تنكيل وتعذيب وإرهاب طائفي، أو وقعت في دول ذات أنظمة دكتاتورية شديدة الإرهاب، كالذي وقع مع الشعب السوري، وضد انتفاضته وثورته، من قبل النظام القمعي المستبد، أو وقعت تلك الأحداث في دول أرادت المليشيات الطائفية المتطرفة، التي تنوب عن أو تخدم مصالح دول طائفية توسعية في المنطقة، لتحكم تلك المليشيات بقوة الحديد والنار والإرهاب، مثل ما حدث ويحدث في لبنان واليمن، أو قد تحدث في دول ذات أنظمة مستبدة استغلت وتستغل البعد الطائفي، لضمان استمرارها في كرسي الحكم، وكل تلك الأحداث لا يخلو وجودها من تدخل أعداء الأمة المستبدين واستغلالهم لواقع الأمة الحالي (أمريكا وأوروبا)، ودور واضح لدول ذات نزعة توسعية طائفية (إيران)، ودول مستبدة (كثير من دول الخليج والوطن العربي)، وكل ذلك -مجتمعًا- أنهك حال الأمة، وزادها مزيد تشتت واقتتال، وأراح أعداء الأمة من الصهاينة وحماتهم.
لذا فإن الالتفات الى أسباب هذا التطرف، أجدى من التباكي على نتائجه، فما تفعله الطائرات الأمريكية من قتل الأبرياء في أفغانستان، وما تفعله المليشيات الطائفية المتطرفة في العراق من تنكيل وتعذيب، وما يفعله النظام السوري المستبد ضد شعبه وبلاده من قتل ودمار، وما تفعله المليشيات الطائفية المتطرفة في اليمن ولبنان من تنكيل وقتل واستبداد، وما تفعله بعض الدول من تمييز أو تحريض بين مواطنيها، وما تقوم به دول أخرى من دعم للجماعات الطائفية لتحقيق أهدافها التوسعية، كل ذلك يصب جميعه في خندق واحد، وهو إذكاء مزيد من الأحقاد والفرقة والتناحر بين الأمة الواحدة.
وكل ذلك لا يقع على عاتق الدول وحسب، فالإعلام الذي ينحاز لطائفة دون أخرى، ويفرق بين المسلمين على أساس طائفي، وعلماء الدين الرسميين وغيرهم، الذين يستغلون ذلك أيضا من أجل مصالحهم الشخصية، بإذكاء روح الفرقة واستدعاء التاريخ، وتعظيم فقه جماعة على أخرى، أو الاستخفاف وحتى التكفير لمن يخالفهم الفقه أو الفكر.
كل تلك هي الأسباب، وليست النتائج. النتائج هي ما تعيشه الأمة اليوم من تدمير ودمار يكاد يقضي على ما تبقى من بنيان الأمة وأواصر الصلة بينها.
ولن يتغير الحال، طالما نسير جميعا في نفس الطريق، ولكن إذا التفتنا إلى الأسباب وحاولنا مخلصين حل إشكالياتها، استطعنا أن ننهي الكثير من المشكلات التي نعاني منها اليوم، وإذا لم نستطع حل ما تفاقم من نزاعات حالية، فليس أقل من أن نوقف تدفقها إلى كل بقة من أرضنا وبلادنا. ولعل أهم الحلول للتخفيف من وطئة تلك الوقائع، منع التدخل الأجنبي من استغلال ثرواتنا وأراضينا وإمكاناتنا من أجل زرع الفتن أو تدمير بلدان عربية أو إسلامية من خلال أراضينا. وعلى الحكومات تنوير الإعلام والعلماء، ليقوموا بدورهم في لم الشمل وجمع الكلمة، ليس من خلال الإعلام وحسب أو الفتاوى وكتب العلماء فحسب أيضا، ولكن من خلال واقع ملموس يتساوى فيه الجميع في جميع جوانب الحياة المختلفة، السياسية منها والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والعلمية والدينية، دون تمييز بين فئة على حساب أخرى، حتى يشعر الجميع بأنهم أبناء وطن واحد، متساوون جميعا في الحقوق والواجبات، كما أن دعم أي تنظيم أو جماعة أو مليشيا مسلح داخل دولة أخرى، يخل بالأمن والاستقرار والأمان لتلك الدولة، مما يتطلب التوقف عن ذلك من جميع من يساهم في مثل ذلك من أجل أهداف طائفية او توسعية، ويفسح المجال للجميع بالمشاركة السياسية الفاعلة، من خلال صناديق الاقتراع، لا من خلال عصابات القتل والترويع. كما أن إعطاء جميع الشعوب حريتها كاملة والتخفيف من قيود كبت الحريات، والمعاملة المهينة في السجون والمعتقلات لكل من يخالف الأنظمة، سيكون له أثر كبير، في تنوير الشعوب، وصرفها للعمل والعطاء والبناء، بدل الاستعداء والانتقام والتدمير والفناء.