لم أكن أعلم أن هناك مشكلة عند ابن أختي – صالح- عندما وضعته أعلى دولاب الملابس ولم يبكِ، لم تبدُ عليه أَمارات الخوف أصلا، خلافًا لأخويه الأكبر منه الذَيْن بكيَا من أجل أن أنهي اختبار الخوف هذا وأنزلهما. صالح كان على العكس تماما، هادئا، يبتسم لأني مبتسم وأقول لأخويه: انظرا إلى أخيكما الأصغر منكما!
كنت أظن أنه طبيعي جدا، وربما أكبر من سِنّه بكثير لدرجة أنه لم يبك أو يطلب المساعدة. لكني الآن على يقين من خطأي السابق في التقدير؛ خاصة عندما بدأ بالالتحاق بالمدرسة وعرفنا أن هناك مشكلة حقيقية عنده في الإدراك. عندما تذكرت ذلك، تداعى إلى ذهني منظره عندما كنت آخذه إلى الحلاق، كان لا يعبأ بصوت ماكنة الحلاقة، لا يخافها، فقط يحدّق فيّ أنا المأخوذ بهذه القوة، وأخذت أصوّره بهاتفي مندهشا. الآن، بعد قراءات متعددة المشارب، أستطيع أن أقول إنني لم أكن أرى جيدًا.
أصبحت أستحضر قولة الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز: “كان الخوف هو الهوى الوحيد في حياتي”، وأقلّب النظر فيها، وأربط بينها وبين القولة النفسية بأن كل ما يفعله الإنسان من أفعال أو أفكار هو في مواجهة الفناء. أليس الأكل فعلا يقاوم الجوع الذي يؤدي إلى الفناء. أليس تعلم السباحة فعل مصالحة مع البحر من أجل ألا يبتلعك. أليست المعاهدات الدولية سوى خوف من مباغتة “الآخر” علينا.
يعد الأطفال مادة دراسة ممتازة لأنهم لا يجيدون الكذب، ولا يخفون مشاعرهم، ولا يتصنعونها، على عكس الكبار. فأخوا صالح كانا على طبيعتهما الإنسانية الخائفة من الفناء، الخوف من المجهول الذي قد يأتي عند الارتطام بالأرض إذا ما سقط من أعلى الدولاب. في الحقيقة، كان أسوأ ما قد يحد -إن هو سقط- كدمة صغيرة ستزول في يومين. لكنّ تقديري الأخير هذا متأتٍّ من التجربة التي يفتقر إليها الطفل.
عندما نطبق قولة هوبز على الصناعات المادية يكون سهلا علينا فهم المقولة على ضوئها. يبدأ الأمر في التعقد عندما ننتقل من المحسوسات إلى المفاهيم المجردة؛ تبدأ مسألة فهم المقولة تصعُب عندما نطبقها على المعاهدات الدولية السابقة الذكر. تتعقد المسألة أكثر إذا ما ذهبنا إلى العمق أكثر في بنية التفكير البشرية، باتجاه البُعد المسكوت عنه، الدين، ولا أعني هنا أنه لم يتطرق أحد إليه، إنما أعني أن الحديث فيه من قَبيل “التجديف” حسب التعبير الأرثوذكسي. كيف يكون “الدين” فعلًا مواجهًا للفناء؟
أشارت باحثة الأديان الإنجليزية كارين أرمسترونج -في كتابها “تاريخ الأسطورة”- إلى أن أقدم تأريخ معروف للدين موجود عند النياندرتاليين، شعوب جرمانية قديمة، كانت ديانتهم محصورة في طقوس الدفن؛ حيث كانوا يدفنون الميت منكمشا على نفسه مثل جنين، كأنهم يُهيّؤونه لولادةٍ جديدة، في محاولة للانتصار على الفناء من خلال التأكيد على حياةٍ أخرى. لاحقًا، مع سيرورة الأديان وتطورها، تعقّد هذا النظام الأخلاقي وبلغ درجة تصعب معها تبيّن المخاضات الأولى التي كوّنته. لكننا نستطيع أن نستشرف بعض الظواهر التي تعطي إشارات إلى هذا الأصل، أعني أصل مواجهة الفناء. تكثر الطقوس الدينية، وتزاد كثافتها عندما يتعلق الأمر بفناء أحدهم. تكفي مراجعة صغيرة لأحد كتب الفقه لتجد باب “أحكام الميت” يشغل صفحات منه. بل إن هناك كتبًا مخصصة لهذا الموضوع (أحكام الجنائز وبدعها) للألباني مثلا.
إذا استطعنا مضغ الفكرة السابقة، فسنضيف عليها إضافة صغيرةً وجدتها عند كل من أرمسترونج وفراس السواح، الباحث السوري. كلاهما قال “الإنسان متديّن بطبعه” هامش صغير: ولا أدري من منهما أخذها عن الآخر!. إذًا، فالإنسان الطبيعي هو الإنسان الخائف، المتديّن، ولا أعني هنا صاحب اللحية الطويلة والثوب القصير، إنما أعني كل مؤمن ببُعدِ “المعنى” الذي قد يشغله “الله” أو “الطبيعة” أو غيرهما.
لعل الشعراء الحقيقيين يعون قولي هذا؛ كونهم فلاسفة من حيث يدرون أو لا يدرون. ولذلك قال درويش في آخر قصيدته “لا شيء يعجبني”: “أما أنا فأقول: أنزلني هنا؛ أنا –مثلهم- لا شيء يعجبني ولكني تعبت من السفر”. اعتمادا على قراءة القصيدة بأن السفر المقصود هو الحياة، وأن محطة الباص هي الموت – يبدو جليا هذا الموقف الذي لا يحتمل الحياة، ويرجو الموت، في محاولة لإظهار انعدام الخوف من الموت. لكن الموقف ذاته يدل على العكس من ذلك تماما؛ فالموقف الرافض بتطرف ما هو إلا محاولة دفن الخوف والهرب من سطوة الفناء إلى الفناء.
ختامًا، لا ينبغي أن يخجل المرء من خوفه تجاه أي شيء؛ لأن هذا الخوف هو الذي دفع الإنسان للبحث والتجربة ومواجهة الفناء والتغلب عليه أحيانا. إن لم تخافوا فاعلموا أن هناك مشكلة إما في إدراككم، وإما في صدقكم. أما أنا فأخاف الموت، وأرتعب عند ذكره.