في فيلم “Spotlight” الذي عرض في 2015، والذي يتناول مساهمة جريدة “بوسطن جلوب” في كشف فضيحة أخلاقية تتعلق بتاريخ من الانتهاكات الجنسية التي مارسها عدد من “رجال دين مسيحيين” ضد الكثير من الأطفال، يظهر رئيس تحرير الجريدة مارتي بارون والذي قام بدوره “ييف شرايبر” وهو في جلسة وديّة مع رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن، يطلب فيه هذا الأخير من رئيس التحرير التعاون بحجة أن المدينة تزدهر حينما تتعاون مؤسساتها الكبرى -إشارة لجريدة بوسطن جلوب والكنيسة-، الأمر الذي يرفضه رئيس التحرير وهو يقول معلّقا: شخصيا أنحاز للرأي الذي يرى أن الصحيفة كي تؤدي عملها جيدا، يجب أن تكون مستقلة!
لعله من المشهود عليه تاريخيا، بروز مصطلح “السلطة الرابعة” كمصطلح معني بالصحافة، وذلك وصفا لها كأداة أو سلطة رابعة تكافئ أو تفوق تأثير الحكومة على الشعب، لكنّ الصحافة وللأسف في الكثير من البلدان العربية، أصبحت مجرد أداة حكومية، مهمتها “بهرجة” الأعمال الحكومية، وتقديس الحكّام، وتقديم مادّة دسمة من الغثاء للقارئ. بل قد تجاوز دورها إلى تقديم كل ما يتناسب مع مزاج الأنظمة السياسية. بل كذلك، خلق بروباجندا تعمل على تعظيم وتقديس شخوص الحكّام.
في عمان، شهدت الصحافة ومنذ 1971 حضورا تصاعدت كثافته على مدى العقود الخمسة الماضية، وإن كانت النتيجة الفعلية لهذا الحضور لم يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة من الصحف وما تبعها من صحف بلغات مختلفة غير عربية وإصدارات أخرى تمثلت في المجلات وما إلى ذلك، إلاّ أن هذه الصحف الرسمية منها والأهلية، تشابهت أدوارها، حتى لا يكاد المرء يكد الخبر نفسه وبالتفاصيل نفسها في كافة الصحف، مع اختلاف الإخراج الفني للصحف فقط! بل وحتى لم يتواجد مفهوم العمل الصحفي في العديد من المواضيع، خاصة السياسية والافتصادية، والتي عادة ما تكتفي الصحف بنشر وجهة النظر الرسمية، أو حتى نشر الرواية الرسمية نفسها للحكومة دون تغيير، مع اتباعها بعدد من المقالات المؤيدة غالبا، لعدد من الكتّاب الذين باتت أسماؤهم مقرونة بالمديح والتصفيق والتهليل.
ظهرت جريدة الزمن في 2007، والتي حاولت تقديم عمل صحفي مغاير رغم الإمكانات البسيطة جدا مقارنة بمثيلاتها من الصحف، ولكن الشارع العماني تعرّف على الزمن أكثر عام 2011 إثر قضية نشرت الزمن تفاصيلها عن فساد “وظيفي” في وزارة العدل، طال المناصب العليا في الوزراة. الجريدة تعرضت للإغلاق وسجن رئيس تحريرها ومؤسسها إبراهيم المعمري، ومدير التحرير يوسف الحاج، قبل أن تلغي الاستئناف لاحقا حكم السجن، وتعود الجريدة للعمل مجددا بعد شهر من الإيقاف بعد أن قامت بنشر اعتذار رسمي لوزارة العدل!
عادت الزمن مجددا لتكون حديث الشارع في 2016، وذلك بعد أن نشرت تقريرا في يوليو عن فساد في المؤسسة القضائية، مستندين ومستشهدين على قضية عرفت بقضية “رشمي”، وهذه المرة الاتهام طال رئيس المحكمة العليا ونائب المجلس الأعلى للقضاء إسحاق البوسعيدي، ورئيس الادعاء العام حسين الهلالي وآخرين، وكان التقرير بعنوان “جهات عليا تغلّ يد العدالة”. وكان -كما كان متوقعا- للتقرير تداعياته غير المحمودة مطلقا، حيث تم اعتقال رئيس التحرير إبراهيم المعمري، والمحرر بالجريدة زاهر العبري، ومدير التحرير يوسف الحاج الذي نشر مقابلتين مع نائب رئيس المحكمة العليا الذي كان قد أثبت ما جاء في التقرير عن فساد المؤسسة القضائية. انتهت القضية لاحقا بسجن رئيس التحرير 6 أشهر ومدير التحرير سنة، وإغلاق الزمن.
لكن الزمن كذلك لعبت دورا هاما في تقديم صورة مغايرة للعمل الصحفي، وذلك عبر تقديمها تقارير عن تجاوزات وفساد في الحكومة على فترات متباعدة. وهو ما أعطى الزمن طابعا صحفيا متميزا نوعا ما، في إظهار صورة مغايرة ومختلفة جزئيا عمّا تقوم به باقي الصحف!
كذلك كان -ولا زال- للصحافة الإلكترونية حضور بارز وفاعل في الفترة الأخيرة. ظهرت صحيفة البلد الإلكترونية 2012 كأول صحيفة إلكترونية، تفوقت في مهنيتها وحضورها وطريقة عملها -رغم كادرها الوظيفي البسيط- على الصحف التقليدية العمانية، وقدمت البلد تقاريرا مغايرة كذلك، ولكنها تميزت بالعمل الصحفي اللحظي والتغطية السريعة للأحداث في كافة الجوانب؛ السياسية والاقتصادية والفنية والأدبية والرياضية…إلخ. توقفت “البلد” عن العمل في أكتوبر 2016، وذلك بسبب الضغوط التي تعرض لها مؤسسها من المؤسسة الأمنية. ثم ظهرت مجلة “مواطن” الإلكترونية عام 2013، والتي كذلك عملت على تقديم صورة مغايرة ومهنية للعمل الصحفي طوال فترة عملها، ولكن الصحيفة توقفت عن العمل كذلك بعد تعرّض فريق عملها للضغوط من المؤسسة الأمنية.
كل هذه النبذة البسيطة، عن بعض الصحف العمانية والصحافة في عمان، هو لتقديم صورة مقربة ونبذة مختضرة عن العمل الصحفي في عمان، وآلية تعامل الحكومة ومؤسستها الأمنية المختلف مع الصحف حسب مواضيع كل صحيفة. حيث لم تكتف السلطة في عمان بتحديد دور الصحافة وتشويه صورتها المهنية عبر تقديم صحافة وصحافيين يعملون وفق ضوابط رسمتها المؤسسة الرسمية، بل كذلك عملت جاهدة على ملاحقة أو التضييق على أي منهج صحفي يخالف الخطوط والضوابط التي وضعتها، وهو ما تُرجم لاحقا إلى إغلاق الزمن بأمر من وزارة الإعلام، وإغلاق البلد بقرار إداري بعد التضييقات الأمنية. وملاحقة الصحفيين المستقليين في حالة نشرهم أيّة تقارير خاصة أو منقولة، تتعارض مع توجهات الحكومة الرسمية.
الصحافة في عمان، خاصة التقليدية، ليست مهنية، وبعيدة عن هذا الوصف. حتى المؤسسات التي تمثل الصحافة مثل “جمعية الصحفيين” التي أعطت مثالا واضحا لمعنى اللامهنية عبر تخاذلها عن الانتصار لعدد من القضايا المتعلقة بالصحافة وحرية النشر مثل ما حدث على سبيل المثال مع الزمن واعتقال صحفييها! كذلك، ما تقوم السلطة باعتقال أي صحفي أو إيقاف عمل أي صحيفة، تجد الجمعية أول المدافعين ليس عن الصحفي أو الصحيفة، بل عن قرار السلطة! في ظاهرة تعطي مثالا كذلك عن مدى تأثير توجود هكذا مؤسسات على مهنية العمل الصحفي وتشويهه.
الصحافة، التي تمثل رأيا واحدا، وتقدس السلطة الحاكمة، هي صحافة موجهة، وأقرب وصف لها هو أدبيات السلطة وليس صحافة. وكلما ابتعدت صحافة بلد ما عن المهنية، كلما أعطت إشارة إلى صورة الوضع السياسي القائم في ذاك البلد!